الأحد 2025-01-19 05:49 ص
 

فرنسوا شينغ: الثقافة الحقيقية لا تستغني عن روحها عند استقبال التأثيرات الخارجية

07:14 م

فرنسوا شينغ إنسانوي، وفيلسوف، وجِسْرٌ ما بين الثقافة الصينية والثقافة الغربية. وُلد العام 1929 في مقاطعة 'شاندونغ، هاجر إلى فرنسا وهو في العشرين من العمر، في آخر يوم من العام 1978. عرف العوز والعزلة في البداية، وهو يدين بما حققه من تفتح فكري وثقافة واسعة ما بين الشرق والغرب، لهجرته ولقاءاته العديدة. شاعر، وفيلسوف، وخطاط. حصل على جائزة 'فيمينا'، عن روايته 'مأثور تيانيي'، الصادرة عن دار 'ألبين ميشل'. ترجم أعمالا كثيرة، منها أعمال بودلير، ورونيه شار، وريمبو، وأبولينير. وهو أيضًا مؤلف للعديد من القصص والمقالات: 'الكتابة الشاعرية الصينية'، و'فارغ ومليء: اللغة الفنية الصينية'. كما نشر في الفترة الأخيرة، لدى دار 'فيبوس' الفرنسية، دراسة حول رسام القرن السابع عشر، الصيني: 'شيتاو'. يرى بعض النقاد أن كتابه أشبه ما يكون بسيرة ذاتية؟ فيرد قائلا 'لكلّ الصينيين، منذ جيلين أو ثلاثة، قَدَر مزدوج، قَدَر شخصي، وقَدَر جماعي. منذ قرن من الزمن لم ينجُ صينيّ واحد من المأساة الوطنية. وما من أسرة لم تعش الانفصال، وما من عائلة لم تنخرط في حركة من الحركات، رغم أنفها. إننا نحمل جميعًا قدَرًا جماعيًا، ونشعر، بحكم هذا الإحساس، أننا نعرف كل الأقدار. إنني أعيش في فرنسا منذ العام 1948، وقد عُدت إلى بلدي لأول مرة العام 1984، لكنني في واقع الأمر، لم أغادر الصين مطلقًا. بل إنني على العكس من ذلك، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بهذه الثقافة، وبهذه الأقدار جميعًا، وبكافة الحقائق التاريخية والبشرية. أنا رجل صيني مثل 'تيانيي'. لكنني لست تيانيي. لست هذه الشخصية بالكامل على الأقل. هذا الكتاب رواية، وليس سيرة ذاتية، حتى وإن كانت المأساة العاطفية التي أتناولها هي قصتي التي عشتها بمرارة. لكن كيف استطاع فرنسوا شينغ هذا الذي لم يعش كل تلك التحولات العميقة التي حدثت في عهد ماو تسي تونغ، أن يقدّم لنا كل هذه الشهادات الدقيقة؟ ويجيبنا قائلا 'بعد العام 1979، عندما انفتحت الصين على العالم الخارجي، زارني الكثير من الصينيين ممّن أتيح لهم السفر إلى فرنسا، ورووا لي أشياء كثيرة. كنت الوعاء فاستبطنت كلّ هذه القصص والحكايات. وبالتالي فإن كلّ ما أعرضه في كتاباتي كان تجربة معيشة، ولكن ليس بالضرورة من قبل الشخصية نفسها. شخصية 'تيانيي' عبارة عن أقدار متعدّدة. إنه ملحمة، إن صحّ القول، يتردد صداها أبعد من صوت الأحداث الصرفة. كثير من الصينيين وجدوا ذواتهم فيما كتبته. نظرتي البعيدة أتاحت لي قدرًا كبيرًا من صفاء الذهن ونفاذ البصيرة. لقد قال المتخصص في الشؤون الصينية عن كتابي: 'إنه بحث شامل يذهب أبعد من النهاية المأساوية للرواية'. ولعلنا نكتشف في مقام من مقامات الكتاب، فيما كان شينغ في عزّ الشباب، ومثقلا بكاهل الغربة، إنه كان مغتبطا أيما اغتباط لأن صديقته لم تسأله: 'من أنت؟'، فلو ردّ على السؤال، فبماذا يرد؟ ويجيبنا شينغ 'وصلت إلى فرنسا وأنا في العشرين من العمر، لأدْرسَ فنّ الرسم الغربي. وقد انبهرت في شبابي المبكر، بثقافة الغرب أيما انبهار. كنت ما زلت طفلا عندما اكتشفت نسخًا للوحاتٍ من متحف اللوفر. اضافة اعلان

وشيئًا فشيئًا سموت عن ارتباطي بالصين، ووجدت طريقي، طريق الفكر، بفضل مثقفين فرنسيين كبار، أمثال بارت، وجوليا كريستيفا، ولاكان، وليفي شتراوس.. فهم الذين حرّضوني على توسيع حقل دراساتي حول الثقافة الصينية، وحول الشعر والرسم، لكنْ على مذهب البُنيويّين. وهكذا تعلّمت أن الحياة تقوم على اللقاءات، وعلى الثقة. وبدأت أعيش في تناغم مع الثقافتين. وهكذا أيضًا أفسح التمزق الذي عرفته من قبل، المجال لنوع من التفتح الثقافي'. هنا يستوقنا ما قاله المفكر 'كلود روا' من أن 'الشرق والغرب لا يلتقيان أبدًا' لنكتشف أن شينغ أصدق تكذيب لهذه المقولة. فما رأي هذا الأخير في هذه المقولة الخاطئة؟ ويجيبنا شينغ قائلا 'ما أكثر ما يتصور الناس، الصين، بلدًا منغلقًا وأحاديًا! كانت الصين قبل المسيح بخمسة قرون، بل وحتى قبل بناء الإمبراطورية، قنبلةً من الأفكار. فمن مدارسها الخمسمائة، طفت الكونفوشيوسية، والطاوية (فلسفة لاوو تسو الدينية)، التي بلورت الآداب الصينية. فمن ناحية كان الالتزام الاجتماعي بالكونفوشيوسية، ومن الناحية الأخرى كان البُعد الكوني.
وهو ما صنع قوّته، لكنّ الثمن الذي دفعه الغرب هو العزلة. إن الإنسان المسكون بقوّته هو في الوقت نفسه إنسان مقطوع عن كلّ شيء. على الصين أن تعيد التفكير في الموضوع الإنساني، وأن تفكّر حول الإنسان بصفته ذاتًا. لكنّ الغرب، عليه أيضًا، أن يخرج من فرديتّه (أو فردانيته) المفرطة'. فهل هذا ما علّمته العزلة والغربة للأديب فرنسوا شينغ؟ 'أجل، يقول هذا الأخير، فكلّ واحد في زاويته، وفي عزلته، هو عبارة عن باقة من البؤس، ومن العجز عن التفتح والانفتاح. إن الحقيقة هي ما يحدث ما بين اثنين، وليس ثمة حقيقة معلّقة في مكان ما، نتفرّج نحن عليها كما نتفرج على ميدالية أو وسام'. لكن ألا يخشى فرنسوا شينغ من أن تؤدي التحولات الاقتصادية التي تشهدها الصين حاليا إلى تراجع الثقافة الصينية، وما الذي يمكن أن يحققه الحوار بين الشرق والغرب؟ ففي ظنه أن البلدان الغربية تعيش أزمة، لكن ليس بالعمق الذي تعيشه الأزمة في الصين: 'لقد ظل الغرب يعتقد عن خطأ أن الصين بلد مغلق ومعزول بحكم وضعيته الجغرافية. لكن في عصر اليونان القديمة عرفت الصين عصرا ذهبيا، سمّي بعهد 'المائة مدرسة'، ومنها المدرستان الشهيرتان اللتان سبق ذكرهما، ألا وهما 'الكونفوشيوسية' و'الطاوية'. كانت فترة خصبة اكتشفت الصين خلالها البوذية التي تشربت بها قبل أن تنشرها في كامل الشرق الأقصى.
واليوم ثمة إمكانية هائلة للتواصل واللقاء والتناقل ما بين الثقافات الصينية والغربية. على الصين أن تلتقي بالثقافة الغربية حتى يحدث التحول العميق'. وتجدر الإشارة إلى أن الصين تستحوذ الآن على القيم المادية التي طالما أشهرها الغرب، ومنها الإنتاج والربح. وفي هذا الشأن يقول شينغ 'لكن الثقافة الحقيقية لا يمكن أن تستغني عن روحها عند استقبالها للتأثيرات الخارجية. فعاجلا أو آجلا سوف تخصب الروحيات الغربية الصين بقيمها، لأن 'الطاوية' فكر متحرك ومتفتح وقابل لأن يستوعب العناصر المفيدة القادمة من الخارج. فقد استوعبت الصين البوذية بدون أن تفقد روحها، وستفعل بالمثل مع الروحيات الغربية' لكن شينغ يرى أيضا أن ما ينطبق على الصين ينبغي أن ينطبق على الغرب الذي 'ينبغي أن يكف عن تقليد الشرق تقليدا أعمى'.
إن السباق نحو المال الذي يعيشه الصينيون اليوم، سباق شبه طبيعي، لأنهم، كما يقول شينغ، 'تعرضوا للإحباط كثيرًا.
لا شك أن اللقاء مع الغرب بات أمرًا محتومًا بالنسبة للصين، وهو أيضًا ضروري للغرب الذي بات مهددًا بفقدان روحه إنْ هو لم يتعلّم التواضع. لقد فرض الغرب سيطرته على العالم، لكنه يظل مهدّدًا بأن يفقد روحه إذا لم يتعلم التواضع. ونجد على الطرف الآخر، الصين التي ما تزال، على الرغم من تجارب أليمة عديدة، تؤمن بالحياة وكأنها أبرمتْ عقداً من الثقة المتبادلة مع النَّفَس الحيوي: 'إن هذا النَّفَس الذي لا ينقطع هو الذي علّم الصين كيف تجتاز محنها. فهي تستطيع أن تنقل إلى الغرب هذا المفهوم الحدسي التلقائي عن الكون الذي يرتبط كلّ شيء فيه بعضُه بالبعض الآخر. وأخيرا يرى فرنسوا شينغ أنه 'إذا كان الغرب يجتاز أزمةً فذاك لأنه من فرط ما ضخّم الذات بصفتها كائناً معزولة فقد انتهى إلى فردانية مفرطة. غير أنه إذا كان الغرب يمرّ بأزمة في القيم فلا ينبغي أن يكون ذلك مبرراً للصين لكي تعفي نفسَها من إعادة التفكير في مسألة تعقّد الذات. فإذا كان الإنسان كائناً صائراً (أي في حالة صيرورة) فذاك لأنه قبل كل شيء إنسان حرّ أوّلا وأخيراً'.
 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة