الوكيل - إن أهم ما يميز الخطاب الثقافي الإفريقي المعاصر نزعته الواضحة لمناهضة التّمثيلات الغربية، وخطابها الاستعماري على اختلاف مستوياته، وهنا نذكر أسماء كل من فرانز فانون، وسنغور، وسيزار، وسوينكا، وواثينغو، وأتشينو أتشيبي.
والأخير رحل عن عالمنا قبل بضعة أشهر، ولكن روايته الأشياء تتداعى (1958) بقيت حاضرة، بل باتت علامة من علامات الرواية العالمية المعاصرة؛ نظراً لمعالجتها موضوع الاستعمار، وتداعياته، علاوة على تشكيلها، وبنائها الفني المميز، مما دعا الكثير من الدراسين لمقاربتها، والبحث فيها.
يمارس أتشيبي سرداً هيكلياً متخيلاً، يطوّح من خلاله بالمقولات الأيدلوجية القائمة على الشرح والتّفسير كونهما من أهم وظائف السّرد التي يستعين بها الروائيون عادةً؛ بهدف إشراك القارئ في إنتاج المعنى. أتشيبي في اختياره لنمط أسلوبي- قلما نواجهه في الرواية- ينهض على سرد يمارس وظيفة ودورا ً في التّكوين الدلالي، ولنكن أكثر تحديداً في نقل الإحساس بالتّهاوي، والتداعي لكينونة مجتمعية مستقرة، فالرّواية على مستوى الرسالة تُعنى بمعاينة أثر الاستعمار، وما يضطلع من آلية، تقوم على فكفكة المجتمع الإفريقي، وما يتمتع به من تشكيلات مادية، وثقافية إنسانية مُنجزة، ولهذا يسعى أتشيبي إلى استعادة المجتمع الإفريقي في سياق الحياة اليومية، والتّحديات الفردية، فضلاً عن المعتقدات الدينية والطقسية … غير أن أهم ما يلفت الانتباه ما يتخلل القارئ من إحساس بالتّداعي الذي تشي به البنية السّردية، فالرواية تبدو تشكيلاً هندسياً هرمياً، فهي تنهض على فعل بصري و رؤيوي، فكل ما نراه ونختبره، يأتي مُنسجماً، ومستقراً، وثابتاً، بل أزلياً، فالرواية تسير بثبات في قسم كبير منها إلى درجة أن القارئ يخرج بنتيجة مفادها أن الرواية تُعنى بعملية تصوير واقع ما عبر تقديم شرائح من البِنى الثقافية، والحضارية والأنثرولوجية لمجتمع إفريقي ما، ولعل هذا النّسق من البناء، دعا الكثر من الدراسين الغربيين للنظر إلى الرواية على إنها تمثل وثيقة أنثروبولوجية، وسيسولوجية لقبيلة ‘الأيبو’ في نيجيريا.
يلاحظ المُطلع على الرواية اتسامها بالانسياب السردي، ولكن ذلك لا يمنع من أن يختبر القارئ نمطاً تشويقيا، بالتجاور مع توترات تبدد – في بعض الأحيان – الانسياب السّردي، فالفترة التي يقضيها بطل الرواية (أوكونكو) في المنفى عند قبيلة أخواله، تشي بدبيب القلق، فالأخبار التي تتواتر عن الرجل الأبيض، وما يقوم به من ممارسات، لاسيما التّبشير الديني المسيحي، علاوة على ما يتمتع به الرجل الأبيض من قوة، تظهر في التّشكيل السردي بإيقاع بطيء، حتى أن القارئ لا يكاد يحفل بها، بل يعدها أداة لاستكمل الفعل الذي يقوم به الراوي من تمثيل وتصوير للحياة اليومية القائمة على الزراعة، وتبقى الرواية ضمن هذا البعد من التماسك، مع مؤشرات سلبية، أو لنقل مبطنة، ولكن دون تفعيل حقيقي للقلق، وفجأة يتداعى، وينهار عالم (أوكونكو ) بكامل مكوناته: الأسرة، والقيم، والمعتقدات، وحتى مجتمع القرية برمته.
ومما يلاحظ في سياق التّشكيل السردي تسارع الأحداث، إذ تصل إلى ذروتها عندما يتحدى أوكونكو حارس المحكمة البريطاني، ويقوم بقتله انتقاما ًمن التّنكيل الذي لحق به، ورجال القرية وسادتها على يد الجنود الإنجليز. هذا الفعل يضعنا أمام واقعين: الأول يتمثل بما قبل حضور الرجل الأبيض، والثاني يتمثل بحلول الرجل الأبيض في مجتمع القرية، وما صحبه من تحولات وتبدل لمفاهيم وقيم سائدة. لا خلاف على أن مقتل حارس المحكمة البريطاني على يد أوكونكو، يمثل الذروة في حبكة الرواية، لا من حيث تكوينها الدلالي فحسب، إنما في قدرة التشكيل السردي على تفعيل البنية العاطفية للمتلقي الذي يعاين بدوره هذا التهاوي، والتداعي شعورياً، لاسيما حين يجد أن أوراق الرواية، قد شارفت على الانتهاء، وهنا يمتلأ القارئ بفراغ وخواء، يشابه بياض الصّفحة الأخيرة، علاوة على انقطاع الرواية عن كينونة نفسية، استغرقت الصّفحات السّابقة، إذن يتقوض عالم (أوكونكو)، وكل ما احتملته أمواج السرد من حكايات وصور، كانت تعدّ بياناً للحياة الإفريقية.
ينبغي الإشارة إلى أن الرواية تنطوي على عدد من العناصر، أشار لها عدد من الدراسين الغربيين في معرض تحليلهم لبنى الآداب ما بعد الكولونيالية، فهنالك الكثير من السّمات التي جلعت من رواية ‘ الأشياء تتداعى’ نموذجاً وركناً أساسياً لأدب الرد بالكتابة، فمؤلفها قد اتخذ من أدوات المستعمر الأبيض وسيلة للرد عبر تقويض خطاب الغربي وتمثيلاته، ولعل الاستراتيجية الأولى، تتمثل باستعارة عنوان الرواية من قصيدة للشاعر الإيرلندي (ييتس)، وجاء فيها:
الأشياء تتداعى
المركز لم يعد في استطاعته التماسك
الفوضى الشاملة تعم العالم
إذ يلتف الصقر ويلتف بدولاب الأكوان
بحركات متباعدة في الدوران
تتداعى الأشياء
والمركز لا يقدر أن يمسك بزمام الأجزاء
فوضى صرف تنفلت على العالم
ينفلت المد الدموي وفي كل الأنحاء
هذا الاختيار يحمل دلالة مفادها قدرة أتشيبي الإفريقي على توظيف ثقافته الغربية للرد على ممارسات المستعمِر، غير أن أتشيبي يتجاوز هذه الاستراتيجية نحو استعارة لغة الآخر(الإنجليزي)، وتبرير ذلك الرغبة بتحقيق عالمية الرد، بالإضافة إلى توجيه الخطاب للغرب بلغته، وهنا نقع على الاستراتيجية الثانية، مما يجعل من أتشيبي مُمتلكاً لوعي اكتناه الآخر، وغزوه ثقافياً.
مما لاشك فيه أن أتشيبي حين كتب ‘الأشياء تتداعى’، كان يستحضر في مخيلته ركاماً من التّمثيلات الغربية لإفريقيا، وخطابها الكولونيالي المُتمظهر أدبياً، وتحديداً رواية جوزيف كونراد ‘ قلب الظلام’، وغيره من الكتاب الذين أعملوا أقلامهم لتشويه المجتمع الإفريقي، عبر طقم من التّمثيلات السّلبية. وإذا كنا نبحث عن السّمات المُؤسسة للخطاب ما بعد الكولونيالي، فإننا سنجد جرثومة العنف حاضرة في السّياق السّردي، فالمُستعمِر يمارس العنف من خلال حُراس المحكمة الذين يقومون بالتّنكيل بالسكان الأصلانيين من خلال إذلالهم وسجنهم، وحتى حلق شعر رؤوسهم، هذا الحدث يُسهم في تفعيل موقف (أوكونكو) من تداعيات الأحداث التي يلمس تغيّرها وتحولها، غير أن هذه السّمة، تبدو حاضرة بالتجاور مع الطّبيعة المُخاتلة للفعل الكولونيالي، لاسيما التبشيري منه، فعملية التبشير، وتجنيد أكبر عدد من الأتباع، تبدو شديدة المُخاتلة، وتتم عبر توظيف اللغة، وهي آلية تُمارس من خلال قراءة مقاطع من الكتاب المقدس بهدف تمرير القيم الثقافية الغربية، وحضارته تحت شعار الدّين والتحضر. وفي سياق عالم أوكونكو الداخلي وذهابه نحو التداعي، نجد أن ابنه يتحول إلى الديانة المسيحية وكنيستها، بل يصبح أحد أتباعها المتشددين، هذا الحدث الداخلي، يعمّق التداعي داخل عائلة أوكونكو، مما يعني أن السّقوط قد طال مركز أو بؤرة عالم (أوكونكو). وبهذا فإن أدوات الاستعمار وخطابه، باتا ضمن مستويين: الأول يتمثل بالخطاب واللغة، أي البعد الديني والتبشيري، والثاني يتمثل بالفعل، أي العنف والقوة، هذان المستويان يتمظهران بالشخصيتين المُمثلتين للقوى الكولونيالية، ثقافياً وعملياً، ونعني حارس المحكمة، وراعي الكنيسة في القرية، فالثاني قد شكل بؤرة لخلق التّحولات التي أحدثت هذا التهاوي للمنظومة المجتمعية والحياتية لقبيلة (الإيبو)، إذ لجأ إلى خطاب مُخاتل ناعم، ولم يلجأ إلى المواجهة، إنما سعى إلى المُهادنة بهدف التقرب، واستمالة أكبر عد من سكان القبيلة لاعتناق الديانة المسيحية، غير أن الراعي الذي خلفه، لجأ إلى فعل تصادمي، تمثل بدعوة أتباعه إلى المواجهة، واستخدام العنف الجسدي، وفي قراءة لأثر العامل الديني، نحيل إلى حوارات حول مفهوم الإله ومظهره، وقد تمت بين راعي الكنيسة، وبين بعض أبناء القبيلة، مما يشي بأثر الكتاب ‘ النّص’ في البيئة الكولونيالية، وممارساتها على الأرض، كما بين هومي بابا في كتابه ‘ موقع الثقافة ‘، وهنا لا بد لنا من ربط الآليات الكولونيالية التي تجعل من البعد التثقيفي اللغوي عاملاً مساعداً في رفد الآلية الكولونيالية المادية، وجبروتها العسكري، فالعملية الكولونيالية تبدأ لغوية، وتنتهي بتشكيلات من العنف المُمارس، لتخلص في النهاية إلى بناء تكوينات ثقافية، ونظام معرفي، وتعليمي، وعسكري، يضمن تبعية المستعمرات للقوى الكولونيالية بواسطة خلق بعض النُخب الثقافية التي تتولى زمام القيادة، مما يجعل من تلك البلدان في حالة تبعية دائمة.
هنالك الكثير من الدراسات التي قاربت الرواية، لاسيما في الأكاديميات الغربية، فقد حُللت الرواية بمستوياتها الفنية، والمضامين التي تنهض عليها على أكثر من مستوى، لعل أهمه البعد اللغوي للرواية، فهو يحقق الكثير من الإشارات الدلالية التي يعول عليها أتشيبي في مقارعة الخطاب الكولونيالي، بل يجعل من اللغة الإفريقية، لاسيما الكلمات ذات الأصول الإفريقية وسيلة لبيان القيمة الثقافية والدلالية الثريّة لهذه اللغة، مع أن الكاتب يكتب روايته بالإنجليزية، إلا أن القصدية من وراء ذلك مخاطبة القارئ الغربي، ولهذا فإن اللغة الإنجليزية هي أداة للتواصل، ولتمرير المعنى، وفي الآن ذاته هي فخ للمتلقي الغربي حيث تنتهك لغته بكلمات ومصطلحات أصحاب الأرض، هذا يعد تشويها مُمنهجاً للغة المُستعمِر، ومؤشراً على هشاشة اللغة الإنجليزية، ومحدوديتها في التّعبير عن قيم وحضارة المجتمع الإفريقي.
مما لا شك فيه أن (أوكونكو) كان معنيّا بالمحافظة على تماسك القبيلة، وثقافتها، بكل ما تنطوي عليه من عادات وتقاليد، فهو لم يتورع عن قتل (أنيمومي) الذي كان بمثابة الابن استجابة لمعتقدات القبلية، وقوانينها، هذا التجسيد لفعل أوكونكو وتضحيته بابنه غير البيولوجي في الفصول الأولى، يكاد يكون مُسوغاً لفهم تصرفاته لاحقاً، أي قتله لحارس المحكمة.
وفي الختام، تنتهي الرواية بأن يقتل أوكونكو نفسه، إذ يشنق نفسه على شجرة، غير أن المفارقة تتضح، حين يرفض أبناء قبيلته إنزال جثته عن الشّجرة بناء على معتقدات القبيلة التي تنظر إلى أن من يقتل نفسه يعدّ ملوثاً؛ لذلك يطلبون من المُستعمِر الأبيض إنزاله ودفنه، وهنا نقرأ دلالات واضحة مفادها بأن القيم والمعتقدات باقية، فهي تمثل مرتكزاً، ينبغي المحافظة عليها حتى في ظل التّداعي الكامل لهيكلية مجتمع ما ومنظومته الثقافية.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو