الخميس 2024-12-12 11:50 ص
 

اركض يا رفيق فالعالم القديم يركض وراءك!

10:58 ص

الوكيل - كلّ الأنظمة سياسيّة كانت أو ثقافية أو غيرها تصبح قديمة هكذا بحكم الزمن الذي ولا حتّى يجلس لبعض الرّاحة مهما كان الظلّ مغريا إلا الأنظمة العربية الخالدة والتي تجدد في كلّ مرة ماكياجها وتغيّر في كلّ مرة اسمها وتاريخ ميلادها.

اضافة اعلان

صبيحة الانتصار المزعوم للثورة التونسيّة أي يوم الخامس عشر من جانفي (يناير) خلت أني سألقى نفسا جديدا وأصوات جديدة تنبعث من ديار الجيران كما اعتقدت أن جارتي البدينة ذات الرداء الأسود الخالد سوف لن تلقي بفضلات بيتها أمام باب بيتي إيمانا بالثورة. جارتي هي ذات جارتي وبعد أن كانت تلقي أكياسها الوقحة أمام بابي خلسة فقد أصبحت تلقيها متبخترة ناظرة لوجهي المطل من الشبّاك بوقاحة ناقدة ‘شباب توّا ذوي السراويل المتملصة’!
حتى سكان الوزارات الجدد لم يتكلفوا عناء طلاء الأبواب بألوان أخرى قد تعطي للعيون مدى آخر. هي ذات البدل وذات الأجساد التونسيّة المفعمة بغلال الوزارة الحمراء. هي ذات الحافلات الصفراء بذات الكسور وبذات رعشات الأبواب المكسرة بذات نفس الموظفين الصارخين ‘ما أكثركم’!
صاحب الكشك الكائن بباب العسل تفطن للعبة فقد طلى ما كان بنفسجيّا بالأزرق ووضع آيات من القرآن الحكيم بدل صورة الزوجين بن علي وما ملكت أيمانهما وعلى مسحة ‘الفتوّة’ التي كانت على وجهه فعلت السجادة فعلها على جبينه.
قد ترى اليوم أن اللون الأزرق بدأ يتقشر عن لون بنفسجي وفي مواضع أخرى يختلط ذاك بذاك. كما قد يصدر عن صاحب الكشك الحامل لأثر الاحتكاك على السجادة لكنة الفتوّة القديمة!
أطردنا ‘بن علي’ فجاء ‘ابن أبي علي’ هكذا كما يحلو للتراث العربي أن يرتب الاسم وفق الموضة القديمة!
على المسارح التي ورغم اختفاء الصورة التي كانت ديكور كل شيء فإن لغة تصعد الخشبة، لغة استفاقت بعد نومة طويلة وجاءت غير عابئة بعملة المدينة الجديدة ولا بذوق المتلقي ولا بما حدث في العالم ولا بكل من استشهد ماديا ومعنويا من أجل أن يرى على تلك الخشبة مستقبلا أكثر ابتساما ولا يخضع لمادة الإملاء!
إنها الإملاء ما يربط هذه الأنظمة بالمواطن كالعادة العائدة إلى قرون طويلة، إملاء تسلّط عليه كما تسلط على طفل لا يحسن الكتابة وكثير الأخطاء وهي الإملاء أيضا ما يربط المثقف المكرس أو المصاب بجنون العظمة ـ وما أكثرهم ـ بالآخرين الحائرين الذين لا يجدون حلا لأسئلة امتحاناتهم اليومية الكثيرة.
صباح الخامس عشر من جانفي (يناير) شربت قهوتي متأملا ما قال ‘فيليب فال’ الكاتب الساخر الفرنسي ولم أصدّقه لخلل في الحلم: ‘ما الذي حدث بالضبط حتّى نرتقي من طور المحارة إلى مرتبة القردة العليا للإجابة يكفي أن نطلع على نظرية التطور التي ما تزال ترفضها رخوياتنا إلى اليوم’…وعليه فإن الأصولي (أتباع العالم القديم) مجرّد صدفة (لم ترتق بعد إلى مرتبة القردة). هكذا هي عادات العالم القديم، عادات غير مصدّقة للجديد.
نعم نحن لم نرتق. وأقدم للكاتب المذكور اعتذاراتي الصادقة.
المسرحيّات الكوميدية قديمة بشخصيّاتها (من انتخابات وشتائم الصحف وخدوش في قلب الاقتصاد وكل الفخاخ المنصوبة…) لكنها مسرحية بإخراج جديد وتحت أضواء أقل. يحدث اليوم أن تدور هذه المسرحيات تحت جنح ظلام قاتم.
مسرحيّات على اليمين تنخفض فيها حدود الشفتين في التلقي والضحك وأخرى على اليسار تنفلق فيها الشفاه كبراعم هاربة.
مسرحيات على اليسار بطلاها عاشقان يقترفان قبلة عميقة رغم البوليس والغازات المسيلة للدموع عملا بالقول الثوري القديم (أيضا) ‘قبّل حبيبتك دون أن تلقي سلاحك’.
لا اليمين ولا اليسار بممثليه الكوميديين والتراجيديين قد تمكنوا من التملص من عالمهم القديم وعليه فإن سؤالنا: ‘هل يستطيعون يمينا ويسارا وما بينهما فهم ميل العالم أن يكون جديدا؟. نزعته للمضي إلى الأمام..؟’
وبما أن هذا العالم الجديد لا يوجد فإن الشابّ منهم يخرج ليتدبر شؤون فايسبوكه كأن يلتقط صورة لوجهه قرب نافورة من أجل خصوبته وأن يقفز قرب سرب البطّ كرصيد جانبي للجنون.
الآن سيكون علينا إذن الجلوس جميعا عند شرفة وأن نعدّ شعارات جديدة للثورات القادمة وأن نحرص على عدم الوقوع في جبّ ‘إذا الشعب يوما أراد الحياة’ لأن الحياة من تريدنا أكثر.
لا بدّ أن نريد شيئا آخر أهمّ…كأن ‘إذا الشعب يوما أراد الطيران’، ‘إذا الشعب يوما أراد السّعادة’…
أن نوضّب المظاهرات أيضا توضيبا آخر، أن لا تكون هناك صفوف خلفية أن لا يكون هناك سعال وقلب طارق فوق العادة وأن نكون كاملي الفيتامينات والبروتينات وكل ما يلزم السعادة أن نجابه الغازات بالقهقهات وأن نكون على قناعة من أن امرأة عارية لا يمكن أن تسيء لأحد.
أن نحمل الخصوبة كشعار الشعارات: نعم سنتوالد من هذه الرّحم، نعم ‘الشعب يريد أن يطير’! ‘إذا الشعب يوما أراد أن يسعد’!
أن لا نترك الوطن ـ تماما كما الأدوية ـ في متناول الشيوخ. أن لا نكتب كثيرا على الحيطان فطالما قلنا أن للحيطان آذان! وربّما التفكير في اسقاط الحيطان المستقرة في الأذن كما يقول أحد شعارات إحدى الثورات الأوروبية. أن لا نترك الأطفال يخلطون بين الألوان بما في ذلك بين الأحمر والوردي..أتباع اللون الوردي يلتحقون بركب اللون الأحمر ببعض الثقوب في الأنف والحاجبين.
أن لا ننسى الشدّة من فوق ثاء الثّورة حتى لا تتناقص نقاط الثاء إلى تاء أو نون. أن لا نركض وراء هدف، تبّا لأهداف الثورة’ نحن نريد الثورة بلا حواجز، الثورة كما هي! أن لا نخطئ في رسم الهمزة في الأخبار العاجلة خاصّة تلك الأخبار المتعلقة بهمزة المرأة الواقفة!
أن نترك مجالا للسّرياليّة أن تحلّ المشاكل الرّياليّة (الواقعية) وأن نحترم مختلف استخدامات اللغة التي تختلف كثيرا عن العلكة الطويلة الأمد. تسقط كلمات مثل ‘المرحلة الانتقالية، المسار الانتقالي، الربيع العربي، عنق الزجاجة…’ يسقط المتراقصون فوق الأزمات الواقعية بكلام بارد وكل هذه ‘العلكات’ و’الشوينغومات’…يسقط هذا القاموس التافه ـ الكريه الذي لا يختلف كثيرا عن ‘البانادول’ الموجّه لحل مشكلة ضرس مثقوب!
علما وأنّ كلمة ‘السّعادة’ هي كلمة تنام من قرون في متوسّط القاموس وعادة ما تتطلب ثورة اصطلاحيه كأن نتعامل معها على أنها كلمة جديدة ولم تُستخدم بعد.
فمثلا: اضحك أيها التونسي ولا تفكّر فيما تقول الجدّات متناقصات الأسنان وثقيلات اللسان ‘اللهم اعطنا خير ها الضّحكة’، اضحك ولا تهتمّ بشفتي الجمل الضاحك لأول مرّة، لتنفلقا! قل ‘أنا’ أيّها التونسي دون التخفيض منها بـ’أعوذ بالله من كلمة أنا’! لتكبر أيها التونسي ولا يهمّك فليس عليك أن تفكّر في أنه ‘لا يكبر في داره إلا القرع (اليقطين)’..فأين ستكبر إن لم تكن في دارك؟ وماذا لو كنت ‘يقطينا’ وكبرت؟ّّ! لتسقط الأمثال الشعبية التي جاءت تحت تأثيرات استعماريّة!
(نترك المجال هنا لإخواننا العرب أن يضعوا جنسياتهم القطرية بدل الجنسية التونسية).
قد ينبغي أن نبدأ بتلميع المرآة من أجل هذه ‘السّعادة’، قد ينبغي علينا أن نطالب الدولة بنصيبنا منها، أن يبدأ الدستور في فصله الأول بتعريف السعادة والتكفّل بتوفيرها. كأن نقول ‘تونس دولة كل ما عليها فعله هو السعي إلى اسعاد متساكنيه والمقيمين فيه وقتيا وحتى العابرين’…هل السعادة بنت النقود؟، بنت المغازات المزيّنة، بنت تربية الآباء لأبنائهم؟ بنت الخيال؟. هي بنت كلّ ذلك ربما لكنها أيضا ستبدو بلا أصل كبنت لا شرعيّة طالما أنها كلمة جديدة، إنها تولد في كل لحظة.
إنها الثورة.
ولهذا فلا يمكن لها أن تكون بنت العالم القديم فاركض أيها الرّفيق. اركض خلف أشيائك الشخصية بما في ذلك سعادتك. اركض وراء وصولك. اركض من أجل ألف شهوة بما في ذلك الوطن الشهيّ.
اركض فالعالم القديم بتعاسته يركض وراءك!


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة