ما كان للحضارة الغربية أن تستمر حتى الآن بخيرها وشرها لولا ما حرصت على ابقائه في الصميم منها، وهو النقد الذاتي رغم أن نذر سقوطها لم تنقطع وأبرزها ما كتبه الألماني شينجلر في الحرب العالمية الأولى، وهو مجلد ضخم من ثلاثة أجزاء بعنوان تدهور الحضارة الغربية ثم أعقبه كتاب ويلسون الشهير بعنوان «سقوط الحضارة»، انها مدينة لبقائها على قيد التاريخ لجدليتها، وقابليتها للهضم والاختلاف، وبالتالي التعايش، فهي حاضنة أباطرة غزاة وطغاة بقدر ما هي حاضنة عباقرة في مختلف مجالات الحياة، فبريطانيا مثلاً بلد تشرشل ودزرائيلي وتاتشر بقدر ما هي بلد شكسبير وبرتراند رسل، وكذلك فرنسا التي اتسعت للجنرال بيجو وبونابرت مثلما اتسعت لجان جاك روسو ومونتسكيو وسارتر وآخرين.
وما يهدد استمرار هذه الحضارة هو الولايات المتحدة لأنها تفتقر الى النقد الذاتي وشجاعة المراجعة والاعتراف بالخطأ، فهي تعالج الأخطاء بتكرارها وأحياناً تحويلها الى خطايا، وحين يكتب مثقفوها من طراز «جيمس غوستاف» انها الآن الأدنى في الكثير من المجالات، ولم تعد نموذجاً للتفوق يقاس عليه فان هؤلاء يقولون بأن ما يدفعهم الى هذا النقد الذاتي هو حرصهم على مستقبل أحفادهم، وما يقدمونه من هجاء سياسي أو فكري هو تعبير عن خوفهم من بلوغ متوالية الأخطاء نهاياتها غير السعيدة.
ما من خطر يهدد حضارة أو تجربة بشرية في التاريخ كأوهام العصمة والاحساس بأن كل شيء على ما يرام، وغالباً ما تتورط بهذه النرجسية شعوب تمتلىء بمركبات النقص وتسعى الى التعويض من خلال المبالغة في مديح الذات.
وثمة علاقة عضوية بين الديمقراطية كثقافة ومناخ تربوي شامل وبين النقد الذاتي، فالديمقراطية اعتراف دائم بالنقصان بعكس الباترياركية التي هي وهم دائم بالاكتمال، لهذا تتلاشى وهي لا تعلم ويكمن أعداؤها في أحشائها، لأنهم يقضمونها من الداخل.
وما أعنيه بالنقد الذاتي ليس تقريع الذات والهجاء الماسوشي للنفس، بل هو شيء آخر تماماً يتلخص أحياناً في الاعتراف بالأخطاء بغية التدارك والاستباق كي لا تتكرر، وأحياناً يكون هذا النقد رصداً للمسافة بين الرّغبات والأحلام والقدرة على ترجمتها الى واقع، ونلاحظ في أيامنا هذه التي اختلط فيها نابل كل شيء بحابل كل شيء آخر ان الدول الأكثر تخلفاً وجهلاً وارتهاناً هي الأكثر ثرثرة حول فضائلها، انها تأكل نفسها دون أن تشعر وهي تلميذة نجيبة للنعامة التي تغمد رأسها في التاريخ تاركة جسدها كله هدفاً للسهام والصيادين.
ان نقد الذات هو لقاح باسل، لكن أمصاله من الوعي، فهو ضمانة لعدم التوغل في الخطأ، واتاحة الفرص للجميع كي يعبروا عما يرون، لكن حين يسود العزف المنفرد، ويصبح المجتمع مجرد جزر متباعدة في محيط، فان الأوهام تنمو في العزلات، ويظن كل فرد أنه محور العالم.
نعم ما كان لحضارة تعج بكل هذه المتناقضات أن تعبر القرون لولا سلاح واحد يفوق كل الأسلحة حتى النووي منها، انه سلاح العقل في نقد الذات!
الدستور
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو