الأحد 2024-12-15 08:50 م
 

جنون (الجربوح)

07:47 ص

أيار رائحة الزيزفون توشح مساءاتنا الخافتة. أيار طفولة الزيتون، وأول لثغته حين يطرحُ نوّاراً أبيضَ نجمي الشكل ما يلبث أن ينخل (يتساقط) تاركاً حباً صغيراً يكبر كحلم إلى موسم سيملأ خوابينا زيتاً ودفئاً وحكايات.
أيار طفولة العنب، الذي يتشابه نواره بنوار الزيتون. لكن أمانينا تجرنا إلى عناقيد تحبل به كرومنا، وتثقل فيها عرائشنا، في تموز وآب وأيلول، فيما يتأجل الزيتون إلى تشارين، وخريفنا الطيب.

اضافة اعلان


في أيار كان يلبسنا جنون متشعب الأنواع: فأحدنا يُصاب بجنون العصافير، فيجوب الأشجار والحيطان وأسقف البيوت يبحث عن أفراخ، ما زالت على قيد الزغب. وآخر يقع بجنون المشمش المسروق، لأنه يحب تشحيطته في سقف الحلق قبل النضوج بقليل.


وثالث يهوى الجوري، فيخطف وردة خمرية من حديقة الجيران؛ تكلفه جرحاً بطول قبلتين في راحة يديه. وردة سيستجمع كامل قلبه ليرميها في طريق أم شعر كذيل حصان يلوح في أؤبة المدرسة، ثم يلوذ في السور يلعق قبلتيه النازفتين. وآخر مجنون توت؛ سيصادق ولداً في بيتهم توتة حمراء.


وكان يوحدنا جنون عميم، نصاب فيه كعاشقين. كنا نقع بجنون (الجربوح)، أو ما يعرف بتفاح المجانين، وهو نبات بري أرضي بورق أخضر عريض يشبه التبغ الكوبي (وهو نبات من عائلة التنباك)، يعطي ثمراً على هيئة كرات بحجم كرة الطاولة خضراء، قبل نضجها، تتحول ذهبية في أيار.


تفاحة المجانين تمنحنا عطراً يدوم في اليدين والغرفة والبيت والمدرسة لأسبوع أو أكثر، وأتذكر أننا كنا نقع في جنونه وعشقه. فما من أحد الا وقطف حبة، أو سعى منذ أولى الربيع؛ ليخبر بيتاً له ويحفظ مكانه، ويموهه بالقش والحجارة؛ كي لا يجده سواه.


من مفارقاتنا المجونة، أننا كنا نسمي الجربوح (بالجُنين)، لاعتقادنا أن من يأكله قبل نضجه، وهو أخضر، فسيصاب بالجنون!، وما زلت أضحك على ولد توعدنا، أن يبتلع لأجلنا حبة جربوح خضراء؛ كي يلقننا درساً بفنون الإنتقام، بعدما ناله منا بضع ركلات مباغتة.


في كل أيار، ما زلت أحرص على ان أحصل على حبة جربوح، ألاعبها كقبلة أخيرة، ثم أتركها تملأ مكتبي عطراً، يعيدني طفلاً يشتهي الورد والعصافير والجوري المسروق، عطراً ما زلت أعجب كيف لم تفطن له شركات تصنيع العطور ليتحول إلى رائحة تخلد ألف سنة في خزانة الذاكرة. طبتم عطراً .


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة