الوكيل - في التاسع والعشرين من شهر سبتمبر الجاري 2013 تحلّ الذكرى 466 لميلاد الكاتب الإسباني العالمي ميغيل دي سيرفانتيس صاحب الرّواية الذائعة الصّيت ‘دون كيخوته دي لا مانشا’ الذي ازداد في مثل هذا التاريخ من عام 1547 ،نالت هذه الرّواية الرّائعة إعجاب عباقرة الأدب العالمي مثل:’غوته’ و’روسّو’ و’فلوبير’ و’لاروتشي’ و’هين’ وكوتيير’ و’تين’ و’كونديرا’ و’رولفو’ وغاسيا ماركيز′ و’باشيكو’ و’بورخيس′ والقائمة طويلة. كما كان لهذه الرواية تأثير بليغ وواسع في الآداب العالمية ،وكانت وما تزال محطّ عناية واهتمام الدارسين والنقّاد منذ صدورها حتى الآن.من بينهم الباحث والقاصّ المكسيكي ‘هيرنان لاسابالا’ في كتابه: ‘الحكايات في دون كيخوته’.
الحبّ، الحريّة، الخيال
يتّسم نصّ’لاسابالا’ بالثّراء والتنوّع والعمق، وهو يتطلّب تعدّدية لا حصر لها من القراءات ، وقد سلك الباحث عند دراسته لرواية سيرفانتيس أسلوبا نقديا تحليليا يعتمد على المقارنة، وتتبّع مختلف القصص والروايات والطرائف والأخبار التي حيكت حول هذه الرواية.
يشير الباحث المكسيكي: أنّ رواية ‘سيرفانتيس′ تقوم في الأساس على ثلاثة محاور أو أبعاد أساسية هي: الحب ّ، الحريّة .الخيال. وهي العناصر التي طبعت حياة بطل الرّواية التائه المتجوّل الهائم على وجهه في قرى ومداشر وضيع قشتالة، في مكان لا يريد أن يتذكّره وهو ‘لامانشا’ (من الكلمة العربية المنشأ).
هناك العديد من النظريات التى تحاك حول أخبار رواية ‘دون كيخوته’، وحول مؤلّفها ‘ميغيل دى سيرفانتيس ساهافيدرا’(1547-1616). من الإدّعاءات التي تروج في هذا السّبيل حول هذه الرّواية أنها لا يمكن أن تكون سوى عمل ‘مسيحي جديد’ كما هو معروف فإنّ رودريغو دي سيرفانتيس والد الروائي كان جرّاحا وتلك هي المهنة التي يمتهنها المرتدّون حديثا.
أضف الى ذلك عنصرا آخر وهو أنّ مؤلّف ‘دون كيخوته’ كان يعشق إمرأة كانت تسمّى ‘أنا رودريغو دي روخاس′ التي تنحدر من أصل ‘فيرناندو دي روخاس′ وهو يهودي مرتدّ كذلك، صاحب الرّواية الشهيرة في الأدب الإسباني ‘لا ثيليستينا ‘ومن المدافعين عن هذه النظرية الناقد المستعرب والمؤرّخ الاسباني المعروف ‘أمريكو كاسترو’، وهكذا يلجأ المؤلف المكسيكي إلى إختيار أمريكو كاسترو كأوّل مصدر في كتابه للإشارة، والاستدلال على تداخل الروايات أو الحكايات في ‘دون كيخوته’. وهناك من يقبل بهذا التداخل، كما أنّ هناك من يرفضه مثل المؤلف ‘سابالا’ نفسه الذي يلجأ إلى البحث والتحرّي عن الصلة الداخلية بين مختلف الفصول وبين المجموع ككلّ.
بين سيرفانتيس شكسبير
يتتبّع المؤلّف في هذا القبيل ‘الفهرس التحليلي’ للرّواية الذي وضعه ‘خورخي بارغوا’ الذي جمع فيه قصصا وروايات وحكايات قصّة سيرفانتيس، حيث يشير ‘بارغوا’ في البداية أنّ ‘دون كيخوته’ نشر لأوّل مرّة على مرحلتين أو دفعتين إثنتين الأولى (1605) في مدريد، وقد أعيد طبعه في العام الواحد خمس مرّات، ثم جاءت ترجماته إلى اللغتين الفرنسية والانجليزية فضلا عن 16 طبعة جديدة.
ويشير ‘لاسابالا’ أنّ النجاح مثل العسل يجلب الذباب إذ في عام (1614) ظهر ما أطلق عليه بـ: ‘دون كيخوته’ المزوّر، الذي شكّل تكملة أو استمرارا لمغامرات ‘الفارس المتجوّل النبيل’ ظهر في مدينة ‘طرّاغونة’ وكان يحمل توقيع ‘ألفونسو فيرنانديث دي أفيانيدي’.
وكان ‘سيرفانتيس′ منهمكا في كتابة الجزء الثاني الذي يكمّل روايته الحقيقية ويعجّل باستكمالها حيث ظهر هذا الجزء منشورا سنة (1615) أيّ بسنة واحدة قبل وفاته. ويعترف المؤلف ‘لاسابالا’ بأهمية المعلومات التي قدّمها ‘بارغوا’ في هذا القبيل حيث نراه يعتمد على تحليلاته الأدبية والتاريخية . كما أنّ المؤلف المكسيكي يلجأ في الوقت ذاته إلى تتبّع كافة الأخبار والنظريات المتعلّقة بالتأثيرات المتداخلة والمتشابكة في كتاب ‘دون كيخوته’، ويقدّم في هذا الصدد وجهات نظر متعدّدة أخرى حول هذا الكتاب الذي يعتبره من أكثر الكتب قراءة في العالم. ولإعطاء مثال على ذلك نجد المؤلف يسرد مصدرا آخر لرواية ‘سيرفانتيس′ وهو كتاب ‘أسير الجزائر’. ويؤكّد من جهة أخرى التأثيرات العربية في رواية سيرفانتيس حيث تكثر وتطفو على سطح هذه الرّواية العديد من الأسماء، والأخبار، والأماكن، والحكايات، والعادات، والأعراف العربية، بل حتى مؤلفها ميغيل دي سيرفانتيس يعيد ويكرّر فيها إسم عربي موريسكي وهو ‘سيدي أحمد إبن الأيّل’ (حسب المستشرق خوسيه أنطونيو كوندي والباحث عبد الرّحمن بدوي )، أو ‘سيدي أحمد بن برنجل’ وهو اسم عائلة أندلسية من دينية ‘(حسب المرحوم الدكتور محمود علي مكّي). وقد ورد هذا الإسم في روايته بحروفه اللاتينية كما يلي(1).
ونظرا لغموض بعض النّصوص، فإن ‘سابالا’ يقول:إنه من الصّعب مثلا قبول عدم الإكتراث الذي تعامل به ‘سورايدا’ (تحريف عن الاسم العربي ثريّا) والدها بحجّة إنصرافها إلى أرض المسيحييّن أو النصارى، فسورايدا تبدأ في سرقته ثم تغشّه وتسمح للآخرين بسرقته وينتهي بها المطاف بالقرار المجحف، وتقبل بأن يصبح أبوها من الرهائن.
إنّ المؤلف ‘لاسابالا’ في تحليله وتأويله لهذا العمل يرجع بنا إلى ‘شكسبير’ (1546-1616) ذلك أنّ تصرّف ‘مورا سورايدا’ يشبه بشكل واضح تصرّف ‘جيسيكا’ مع أبيها ‘شايلوك’ في مسرحية ‘تاجر البندقية’ الفرق القائم في هذه الحالة هو أنّه إستبدل المغاربة أو العرب باليهود.
حلم في المغارة
إنّ بطل قصّة ‘ميغيل دي سيرفانتيس ‘دون كيخوته’ قد تكون نتاج حلم من الأحلام التي تتراءى للنّائم في الكرى.كان الأقدمون يعتقدون أنّ الحلم إن هو إلاّ رحلة الأرواح خارج أسرها الجسد، و’دون كيخوته’ عندما ينزل في مغارة ‘مونتيسينوس′ فإنّما هو يقوم برحلة تمتدّ وتستمرّ في أحلامه، أين توجد الحقيقة، وأين يوجد الخيال في هذا الأمر.. ؟ إنّ موضوع الخلق أو الإبداع في الأحلام قد تعرّض له كثيرون منهم ‘خورخي لويس بورخيس′ الذي يقول: ‘في الأحلام نبتدع بطريقة سريعة نخادع معها تفكيرنا، ونغالطها بما نحن بصدد إبتداعه’. ويقول كذلك ‘لا شكّ أنّ الأحلام عملية جمالية، بل إنها أقدم تعبير جمالي للإنسان’، فالظرف الإبداعي لدى ‘دون كيخوته’ يتقوّى عنده بدخوله وإنغماسه في حلم طويل في مغارة مونتيسينوس. إن عنصر الحلم في عصر ‘سيرفانتيس′ أمر معروف كمصدر أدبي وإبداعي، وهناك العديد من الأسماء الأدبية التي إستعملت الحلم كمادة لإبداعاتها، وكمنهل لإنتاجاتها الأدبية مثل ‘لوبيّ دي فيغا’، و’فرانسيسكو كيبيدو’، و’ميدرانو’، و’خوان كولونا ‘، و’بيدرو دي طابلاريس′، و’خوان أنييس′، وخيرونيمو دي لوماس′ و’بورخيس′ نفسه، وقبلهم ‘المعرّي’، و’إبن طفيل’، و’إبن عبد ربّه’، و’دانتي’ كل هؤلاء وسواهم جعلوا من الأحلام مواضيع لأعمالهم الأدبية، والفنّان الإسباني الكبير ‘فرانسيسكو دي غويا’ كان يقول: ‘إنّ حلم العقل ينجب صورا غريبة الخلقة’.!
و’دون كيخوته’ نفسه يروي أنّه عندما كان نازلا داخل المغارة شعر بنوم عميق. وعنصر الزّمن من الأهمية بمكان في الحلم ، فساعة منه قد تساوي أيّاما ، وهو الذي يؤكّد لرفيقه ‘سانشو’: ‘لا يمكن بأيّ حال من الأحوال مقارنة شيء بشيء’ إنه بذلك كان يزرع بذور نظرية النسبية أربعة قرون قبل ‘أنشتاين’. فدون كيخوته في قصّة سيرفانتيس هو بطل وراوية في آن واحد. والكاتب في خضمّ خياله المجنّح يقف على أرض الواقع، أي أنه يبدأ بحادثة قد تكون حقيقية ليعطي لخياله نوعا من المصداقية، المغارة ومحيطها السّحري والزماني هي في ذات الوقت: المتاهة، الجحيم، أو العالم الآخر، كما يسمّيه ‘سانشو’ هذه المغارة ليست أفقية، بل إنها عمودية، وعند نزول ‘دون كيخوته’ فيها يعيد للأذهان رحلات عشتار، وجلجامش، وإبن عبد ربه، ودانتي، وأبي العلاء المعرّي. إنّ دون كيخوته يجد في الأسفل أشياء تذكّره بما هو موجود في السّطح. إنّ البطل يدخل في قدر يقوده من الحمق إلى التعقل، أي من الحياة الي الموت.
إنّ نظرة ‘دون كيخوته’ الزّائغة والضبابية في المغارة لها تفسيرعلمي لا محالة بعيدا عن خيال الإبداع وقوّته وزخمه، فالمغارة بنتوءاتها توحي بتركيب الأجسام وتشكيلها ببقايا الحيوانات الفوسيلية، والنباتات الفطرية المبللة العالقة بها منذ آلاف السنين والتي لابد أنها قد تحللت فأنتجت موادا كربونية عندما يستنشقها دون كيخوته يشعر بنوع من التسمّم يبدو أثره الأوّل في الشعور بالاسترخاء، والرغبة في النوم، فتتبدّد وتتبعثر الصّورأمامه فيعتريه بعض الدّوار أو التخدير، وهذه الحالة يذكرها ويكرّرها دون كيخوته من أوّل القصّة إلى آخرها، وهو نفس الشعور الذي يصفه مكتشفو المغارات، فالبخار الكاربوني جعل ‘الفارس المتجوّل النبيل ببلاد المانشا’ يفتح مغاليق العقل ويرخي لخياله العنان. ولابدّ أنّ دون كيخوته خلال رحلته إلتقى ورأى في نومه العديد من الشّخصيات التي يذكرها في سياق مغامراته، وشطحاته التي أذهلت وأخذت بمجامع وقلوب الملايين من القرّاء في العالم. إنّ سيرفانتيس إذا لم يكن قد ثبت أنه قد زار ورأى مغارة مونتيسينوس، فلابدّ أنه عرف مغارات أخرى شهيرة توجد على مقربة من مدينة ‘الجزائر’ عندما كان أسيرا بها والتي تجعل من يدخلها يشعر بنفس التأثيرات المذكورة.
ويرى الكاتب المكسيكي ‘أليخاندرو أكوستا’ معلّقا على هذا الموضوع: أنّ سيرفانتيس في الواقع عندما كتب روايته الشهيرة، فإنّما هو ربما كان يصف ويسترجع معايشات شخصية، فهو يتحدّث عن الأحداث كأنّه عاشها بالفعل، ولابدّ أنه ظهرت له رؤى ومشاهدات إنطبعت ورسخت في ذهنه وخياله فبسطها في قصّته.
ويشير الباحث أنّ ‘دون كيخوته’ تتوفّر فيه كلّ الشروط بأن يكون رائيا أو مشاهدا أو مبتكر أوهام وأضغاث أحلام بقامته، وهامته، ووجهه المستطيل، وعينيه الغائرتين، وحساسيته المفرطة، وطبعه الهائم، وميله للتعظيم والأنفة والخيلاء، إنّ حمقه اللحظي يتفجّر في حالة من الحمق الدائم ،ويتساءل الباحث: هل كان سيرفانتيس في حاجة إلى تنويم ‘دون كيخوته’ ليريه شطحاته، وخيالاته، وأوهامه،وهواجسه في حين أنه قبل ذلك في جنح الليل أمكنه مشاهدة طواحين الرّياح العملاقة والعجيبة..؟
قال أحد أبطال شيكسبيرفي عصر قريب من عصر سيرفانتيس: ‘أن تنام، أن تموت’، وهكذا يلتقي النوم مع الموت، ويفسّر ذاك بذاك، فدون كيخوته قد دخل في موت عابر، وخلو يناسب عصره ويتماشى مع زمانه ،وبالتالي يمكن قراءته، وفهمه، وإستساغته، وقبوله كمخلوق من مخلوقات العالم الآخر،وهو في الجزء الثاني من الرواية يجعله سيرفانتيس يحضر جلسة من جلسات السّحر، والتنجيم، فهو إذن مهيّأ ومتأهّب للدخول في عالم الأموات – مملكة الكثيرين- كما يسمّيه الأقدمون، والخروج منه، والمسافة تبدو بعيدة وسحيقة في الوهلة الأولى بين عالم اليقظة والحلم، أو بين عالم الأحياء والأموات، وهي في الواقع مسافة قريبة جدّا، يصفها شاعرنا العربيّ القديم في أعمق وأبلغ وصف مجسّدا بذلك الشعور التراجيدي والدرامي المتناوش الضّارب في القدم، فيقول:
حسب الخليلين نأي الأرض بينهما ….. هذا عليها وذاك تحتها بالي
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو