الوكيل - بعد ‘الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا، نص سيرة’ الصادر عن دار الآداب، عام 1983، سطرت الكاتبة المبدعة وأستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس د. رضوى عاشور فصولا أخرى ضافية ضمها ديوان سيرتها الذاتية باسم ‘أثقل من رضوى .. مقاطع من سيرة ذاتية’ الصادر عن دار الشروق عام 2013، تروي لنا فيها رحلتها العلمية والمهنية مع الجامعة ومرض الشوانوما غامض النوايا ‘ورم حميد يتطلب المتابعة ‘، وعلاقتها بثورة 25 يناير 2011 والكتابة والعائلة والأصدقاء، وما يحمله الواقع المعيش من تعالق بين حدي الحياة والموت، عبر سرد شعري طافر بالدهشة والقلق والتمرد، والإيمان بأولوية أسئلة الحياة ودور الوعي التاريخي في تشكيل الهوية الإنسانية، في ضوء التوجهات الجمالية التي يتخذها الفنان، وتلقي بوجودنا كله في الحوار الواسع مع جوهر الأشياء، وتنظيم الواقع كمكان للتمثيل.
غير أن جديدها ‘أثقل من رضوى’ الذي جاء بعد روايات ثمانٍ ‘حجر دافئ .. سراج .. ثلاثية غرناطة .. .. فرج.. الطنطورية …’، ومجموعتيْن قصصيتيْن ‘رأيت النخل وتقارير السيدة راء’، وست دراسات نقدية ‘الطريق إلى الخيمة الأخرى :دراسة في أعمال غسان كنفاني ..جبران وبليك ..الحداثة الممكنة: الشدياق والساق على الساق..’، وترجمة منتصف الليل وقصائد أخرى للشاعر الكبير مريد البرغوثي، فضلاً عن الإشراف على ترجمة ‘القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية ‘الجزء التاسع من موسوعة كمبريدج لتاريخ النقد الأدبي’، جاء ليجمع بين المذكرات والسيرة الذاتية، أي بين التوثيق التاريخي الاجتماعي والسياسي كما في المذكرات، وبين إلقاء الأضواء الساطعة على الذات وتعريتها بجسارة في إطار تعبيرها عن استقلالية كينونتها الفريدة، والانتصار لفكرة الحرية، وفضح مجمل الشروط اللاإنسانية التي تثقل كاهل المصريين وتعمل على تنميط القيم الحاكمة لمجتمعهم، وكدها الدائم لبلوغ روحها أعلى درجات الصفاء كما في السيرة الذاتية .
لهذا جاء ‘أثقل من رضوى’ مترعاً بالصدق والعفوية الآسرة وجماليات البوح والإفضاء والحميمية التي أدخلتني عالمها دون تصنع ولا تعمل، بل ببساطة مفرطة ذكرتني بأشباه لها ونظائر من طراز ‘أعترف أنني عشت’ لبابلو نيرودا، و’جئت لأروي’ لماركيز، و’في الطريق إلى جريكو’ لكازنتزاكس، و’مشيناها خطى’للدكتور رءوف عباس، و’ماذا علمتني الحياة؟ ورحيق العمر’ للدكتور جلال أمين، و’غربة الراعي’ للدكتور إحسان عباس الذي أذكر له عبارة في هذا السياق ؛ ربما تلخص لنا ما رمت إليه د. رضوى من سيرتها الذاتية هذه تقول: قصدتُ شيئاً مختلفاً من القول يتسم بالألفة وانعدام المراتب؛ كي أترك القارئ العادي يتأمل قدراً شبيهاً بقدره، ويحاور إنساناً قريباً منه’. ومن ثم؛ يصدر ‘أثقل من رضوى’ عن وعي مسؤول يُماهي بين المعرفة والأخلاق، ويضع الكاتب وجهاً لوجه أمام ذاته دون أقنعة ولا رتوش ليدخل معها في حوارية متعددة الأبعاد تُمسي مرايا لبعضها بعضاً، وتستعيد ماهية السؤال التي لا تستنفد عن القيم ودلالاتها واللغة وممارساتها فتعمق معنى الحياة في مواجهة عمليات تسليعها وتجريفها وإرغامها على تعريف نفسها في أضيق نطاق ممكن. والكاتبة هنا لا تستدرجنا إلى ساحتها لتلقي علينا دروساً وعظية إرشادية تضحي فيها بحريتها على مذبح مواضعات مجتمعها المحافظ وبنيته المغلقة، بل تعمد إلى ملامسة الذات وولوج دروبها وشِعابها واستقطار ما وَقَرَ فيها من تحديات وما صَح عزمها عليه من تأسيس وتشييد وما نزل بها من طول تفكر وشدة عناء وتحفيز للفعل الإنساني في الطبيعة والتاريخ؛ بوصفها إنساناً قادراً على الحركة والإبداع والتفكير وعدم التصالح مع الواقع الرديء السائد وتراتبيته غير العادلة، أو على حد قولها: ‘لا أحتاج في حالة كتاب السيرة الصريح الذي أكتبه سوى النظر حولي وورائي وفي داخلي لأرى أوأتذكر .
كأنني أنقل نقلاً ؛ فالأحداث مكتوبة سلفاً، وكذلك الشخصيات والأماكن والأزمنة. ربما أضيف تعليقاً أو خاطرة أو بعض تأملات هنا أو هناك. تظل المهمة برغم ذلك أبسط، ويبدو الخيال بلا وظيفة ولا دور، ينفرد العقل بمهام حَكْي ما سبق لي أن خبرته ورأيته وسمعته وأحسستُ به. كأنه آلة تُلْقمها الذاكرة ما تُلْقمها؛ فتنتج الكلام’. لهذا استخدمتْ د. رضوى ضمير المتكلم لا ضمير الغائب لتتحدث بشفافية ومباشرة، ولتشرك قارئها معها فيما عاشته أو عايشته من آمال وآلام، وما صادفها من نجاحات وعثرات، من موقعها الدائم ‘السيدة العنيدة المستعفية’ على حد تعبيرها، الفخورة بانتمائها إلى ‘جنس آدمي طور على مدى آلاف السنين شيئاً ثميناً اسمه الكبرياء’، مؤمنة بأن ‘الحياة، برغم كل شيء، تتجدد وتستمر وتتجاوز، وأن الموت تؤطره الحياة؛ فهي تسبقه وتليه، وتفرض حدوده، تحيطه من الأعلى والأسفل.
هذا يقيني’، موقنة بأن ‘ ‘التاريخ أشبه ببستان مكنون في باطن الأرض، له مسالكه وتعرجاته ومجاريه المتشابكة ‘، تميل إلى ‘الوسوسة فيما يخص التاريخ والجغرافيا تحديداً، برغم أنني في حياتي الخاصة أبعد ما أكون عن الوسوسة’، دائمة النقد والمراجعة لنفسها، كما حدث لها مع تلميذتها وصديقتها المناضلة نوارة نجم، حين لجأت إليها هرباً من مجزرة أعدها الأمن والشرطة العسكرية لمعتصمي ميدان التحرير، وحاولتْ د. رضوى ‘الدردشة’ معها عندما لاذت بالصمت وراحت تهدئ هواجسها ببث تغريداتها لأصدقائها من تلفونها المحمول ‘لم أكن أعرف حجم ما حدث. حين عرفتُ وتمثلتُ، قلتُ: أي حماقة هذه يا رضوى، تحاولين صرف انتباه ناجية من المجزرة بعد ساعتيْن من حدوثها؟ آسفة يانوارة’، وظلت حياتها متمحورة حول ‘رواية تكتبها أو بحث تنجزه أو محاضرة ترضى عنها أو رسالة تشرف عليها لباحث أو لباحثة تُفرح قلبها، وتمد في عمرها’، مدركة دور الثقافة الوطنية في تشكيل الوعي الجمعي الحر؛ لذلك فإن كل كتاباتها الروائية ‘محاولة للتعامل مع الهزيمة، واستعادة إرادة منفية’، وأنها ترى ‘في رسائل التشاؤم فعلاً غير أخلاقي بوصفها مُدَرسة’. إذن .. ما الذي يشي به عنوان الكتاب ‘أثقل من رضوى’ بوصفه العتبة الأولى التي ندلف منها إلى عالمه، وفعالية إنتاج لعلائقه المفهومية وتنوعها ؟ تشير د. رضوى إلى أن أباها اختار لها اسمها على اسم جبل ‘يقع بالقرب من المدينة المنورة، تضرب به العرب المثل في الرسوخ فتقول: ‘أثقل من رضوى’ ؛ لأن الجبل ـ في واقع الأمر- سلسلة من الجبال الممتدة إلى الشرق من ينبع، بها جداول ماء وشِعاب وأودية، ووعول وغزلان، تحلق في أرجائها النسور والصقور والقَطا والحمام.
وتقول بعض فِرق الشيعة إن الإمام الغائب ‘محمداً ابن الحنفية’ مقيم في جبال رضوى حتى تحين الساعة التي يظهر فيها؛ فيملأ الأرض عدلاً بعد أن عَم فيها الظلم والزور’. وكان قد سبق لأبيها أنْ كتب على أحد الجدران بحجر جيري قبل زواجه من السيدة مَية عبد الوهاب عزام والدتها: سأسمي ابني طارقاً ؛ تيمناً بطارق بن زياد فاتح الأندلس وبالجبل الذي يحمل اسمه. وتعزو د. رضوى اصطفاء أبيها لاسمها ولاسم شقيقها المرحوم د. طارق، بالإضافة إلى اسمي شقيقيْها الآخريْن: الأكبر د. حاتم، والأصغر وائل اللذيْن اقترحهما جدها لأمها، ورَاقَا لأبيها، إلى غرامه- والدها- باللغة العربية والبلاغة والخطابة ؛ بحكم ولعه بالأدب العربي، وحرصه على اقتناء ما يمكنه من شعره ورسائله’. وهذا – لا ريب – صحيح ؛ لأن حاتماً لغةً، تعني القاضي والحاكم، كما تُحيل الذهن إلى شخصية حاتم الطائي الشهير بالكرم في تراثنا العربي.
أما وائل فهو من وَأًلَ أي لاذ ولجأ وخَلَصَ، وهناك قبيلة عربية تدعى بني وائل نزحت من شبه الجزيرة العربية إلى مصر، واستوطنت منطقة تسمى الوايلي عُدت تحريفاً لبني وائل كما تذهب كتب التاريخ، فضلاً عن أن اسم مَية عربي قُح ورد في شعر النابغة الذبياني: يا دار مية بالعلياء فالسندِ / أقوت وطال عليها سالف الأمد. وبذلك نشأت د. رضوى عاشور في بيت علم وثقافة رصينة رفيعة، إنْ لجهة والدها المحامي مصطفى عاشور عاشق اللغة العربية ودارس آدابها بمنظومها ومنثورها، أو من ناحية والدتها التي كانت قبل زواجها تنظم الشعر، وترسم اللوحات الزيتية بالأسلوب الكلاسيكي الذي تعلمته من راهبات مدرسة العائلة المقدسة في حلوان، وتتعلم العزف على البيانو الأسود الكبير في بيت والدها، ثم انقطعت على مضض إثر زواجها وخلفة الأبناء ؛ فحولت اهتمامها إلى أناقة ملبسها وملابس أولادها، أو من جانب جدها لأبيها د. عبد الوهاب عزام أستاذ الأدب الفارسي الذي نقل آدابه وتراثه إلى لغة الضاد، وحقق ملحمة ‘الشاهنامة’، وعمل سفيراً بالسلك الدبلوماسي، وأسس وأدار جامعة الملك سعود ‘الرياض حالياً’ ؛ الأمر الذي هيأ للدكتورة رضوى المناخ المواتي لمواصلة طريقها العلمية والبحثية، وجعل لغتها العربية تمتاز بالعذوبة والشاعرية وعدم التكلف. لذلك عندما تصف ما أجراه الجراح الإسكتلندي ستيفن دافيسون من عمليات في جسدها، فإنها تتحدث عن ‘معجزة من نوع ما، تمزج الجراحة بالخيال، وتجمع بين حرفة الجراح وجرأة المخترع وإبداع النحات’ .. ثم تضيف قائلة: وكلما تأملتُ الأمر قلتُ: والعبقرية الكبرى اسم عيادته ‘عمارة دافنشي’؛ لأن دافنشي وحده هو الذي يجمع بين العلوم والفنون بهذا الشكل. بقي أن أتساءل إن كان دافنشي فكهاً سريع البديهة كدافيسون’. أو عندما تصف ما يمكن أن يقدمه الكتاب والكاتبات عن ثورة 25 يناير 2011، فتقول: إن كلا منهم سيلتقط جانباً أو زاوية منها فيُكملون بعضهم بعضاً، كأنهم تدربوا في أزقة الخيامية، كل يركب في النسجية الممتدة ما أنجزته يداه الناعمتان أو الخشنتان، والمسكونتان في الحاليْن بجن الموهبة ودرس الأسطوات’.
وهنا نلمح مَعْلماً حيويا من معالم كتابة السيرة الذاتية، ألا وهو قدرة الكاتبة على المزاوجة بين الخاص والمشترك أو العام ضمن علاقة اتصالية .. انفصالية بالعالم في الآن عينه، من خلال اللحظات والأحداث التي تستعيدها، وتتوحد عبرها مع صورة الحلم وفسحته المستقبلية. لهذا ثارت د. رضوى وهي بعدُ في طور المراهقة، على مشروع ‘رضوى جميلة كدمية’ كما كانت تردد والدتها نقلاً عن المُدرسة الفرنسية التي التقت بها خارج المَدْرسة في حفل عيد ميلاد زميلة من زميلاتها ؛ لأنه على حد قولها: لا يروق لها، وإن قامت بدور الدمية أثقلها، ولم تقدر على مواصلته أكثر من دقائق معدودة’. وبذلك رفضتْ تشيييء المجتمع لها وتكريسها سلعة في إطار قانون العرض والطلب، وآمنت بأن خلاصها وانعتاقها مرتهنان بجعل جسدها وروحها وعاء للمعرفة لتشكل قطيعة نوعية مع كل فكر لا يحقق الارتقاء بالمجتمع.
وانخرطت عضوة في ‘لجنة الدفاع عن الثقافة القومية’ التي أسستها خالدة الذكر د. لطيفة الزيات، وعضوة ‘بلجنة الأساتذة لمواجهة الصهيونية’ التي تصدر نشرة ‘درة’، وعضوة في ‘جماعة العمل من أجل استقلال الجامعات’، المعروفة إعلاميا بجماعة 9 مارس، التي تضم صفوة الأكاديميين الذين تؤرقهم حال الجامعة المصرية وما آلت إليه من ترد، عاملة على انتشالها من وهدة التخلف والوصاية الأمنية؛ لإطلاق طاقات الحريات الأكاديمية من عقالها خدمةً للبحث العلمي.
وفي هذا الصدد، تذكر د. رضوى أنها وثمانية من زميلاتها وزملائها من جامعتي القاهرة وعين شمس وزميلاً واحداً ‘د. صادق النعيمي’ من جامعة المنوفية، ذهبوا إلى قصر الزعفران مقر رئيس جامعة عين شمس ونوابه وأمينها ومدراء مكاتبهم وأطقم سكرتاريتهم ؛ لتسليمهم نص حكم المحكمة الإدارية العليا برفض الطعن المُقَدمِ من رئيس الوزراء ووزيري التعليم العالي والداخلية، على حكم سابق بإنشاء وحدات للأمن الجامعي لا تتبع وزارة الداخلية، بل تتبع إدارة الجامعة. وتضيف قائلة: قضت المحكمة بأن وجود قوات شرطة بصفة دائمة داخل الجامعات ينافي الدستور وقانون تنظيم الجامعات، ويمثل انتقاصاً من استقلال الجامعة وحرية الأساتذة والطلاب والباحثين. وقدم د. عبد الجليل مصطفى نسخة من قرار المحكمة هذا وبيان جماعة 9 مارس للضباط الواقفين أمام بوابة قصر الزعفران لتوصيله إلى رئيس الجامعة ؛ توطئة لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بتفعيله. وتعلق د. رضوى على ذلك بقولها: وهو تقليد نتبعه لتوصيل رسالة مزدوجة: عملنا علني، وضمناً: لا نخافكم. بَيْدَ أن هذا المشهد يستدعي إلى ذهن د. رضوى، يوماً بعينه في منتصف التسعينيات على الأرجح، حين طالبت جماعة العمل من أجل استقلال الجامعات ‘بإقالة وزير الداخلية ومحاكمته لمسؤوليته عن قيام قوات الأمن بالاعتداء على الطلاب المتظاهرين في الإسكندرية ؛ مما نتج عنه إصابة بعضهم ومقتل طالب من الطلاب’. وأخذت تروي ببراعة أدبية فائقة وجرعة كوميدية لا تنفد، قصة ذهابهم إلى قصر عابدين ؛ مقر سكرتارية رئيس الجمهورية، ووجوه الضباط الذين اعترضوا طريقهم وما انعكس على وجوههم من مشاعر وتعبيرات حيال ذلك، ثم اختفائهم وحلول موظف من موظفي أمانة رئاسة الجمهورية محلهم لاستطلاع أمرهم وما جاءوا من أجله، وما يمكن أن يطوف بخَلَدِهِ من أفكار عقب عودته إلى منزله ولقائه زوجه: تصدقي جاءوا بأرجلهم يطلبون محاكمة وزير الداخلية ؟! لو كانوا شخصيْن أو ثلاثة لقلتُ إنهم مجانين، ولكن عددهم تجاوز الثلاثين. أساتذة جامعة محترمون، بعضهم دكاترة في كلية الطب .. غير معقول! وهنا تزيح الكاتبة القديرة من خلال هذيْن المشهديْن النقاب عن ماهية الدولة البوليسية في مصر وما نهضت به من أدوار في تصفية الحياة السياسية، وتأميم الجامعات المصرية، وتكميم الأفواه، وتدجين الأساتذة والطلاب؛ مما جعل الحرم الجامعي متخماً برجال الأمن المتواجدين بالملابس المدنية؛ لمراقبة الأساتذة والطلاب والاعتداء عليهم والإبلاغ عنهم ‘على غرار مخبر يدعى ‘غريب’ قام مع زملاء له بضرب طلاب كلية التجارة بالجنازير والسلاح الأبيض قبل أربعة أعوام، ثم نقله جهاز أمن الدولة إلى كلية الحقوق حيث تخرج وعُينَ مستشاراً لإحدى الأسر بها، وآخر منتسب إلى قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بعد حصوله على بكالوريوس كلية زراعة، يظهر فقط في فترات الأحداث السياسية المهمة حين ينشط الطلاب للتعبير عن أنفسهم . يجلس في مقعد من مقاعد الصف الأول ببخاخته حيث يعاني من مشكلات في التنفس ومعه أوراقه وقلمه ليدونَ بحرص كل ما تقوله د. رضوى’. مما حَدَا بالدكتورة رضوى إلى أن تتساءل ‘عما إذا كان هناك فارق بين كاتب التقارير البائس والبلطجي مفتول العضلات .. أهو فارق في نوع الوظيفة، أم هو فارق بين زمنيْن وأسلوبيْن: القمع المستور والقمع المعلن ؟’. لكن المأساة التي أضحت ملهاة أو مسخرة فتتمثل في تبعية رؤساء الجامعات المصرية للأجهزة الأمنية والائتمار بأمرها، على نحو ما فعله د. ماجد الديب رئيس جامعة عين شمس الأسبق الذي نشر بياناً يوم السبت السادس من أكتوبر، على الموقع الإلكتروني للجامعة، يدافع فيه عن بلطجية الأمن وعملاء جهاز أمن الدولة الذين أوسعوا طلاب الجامعة ضرباً وإصاباتٍ، ولم يتورع عن اتهام جماعة 9 مارس بقيادة د. عبد الجليل مصطفى بأنها ‘قلة مندسة غريبة اقتحمت الجامعة؛ لتعمل على إحداث قلاقل، وهو ما تصدى له الطلاب الغيورون ـ المخبرون ـ على سمعة وهيبة جامعتهم! وترصد هنا د. رضوى ‘ركاكة البيان وضعف حجته وأخطائه اللغوية’، فضلاً عن قيام أحد موظفي الأمن أو الإداريين العاملين في خدمته بمتابعة جماعة 9 مارس أثناء تحركها في الحرم، والتقاط الصورلأعضائها، ووضع كاميرا فيديو في إحدى النوافذ لتسجل ما يدور ويحدث بالصوت والصورة، وما إن أشارت إحدى زميلات د. رضوى إليها لتنبهها إلى ما يفعله الأمن، حتى اختفت، وهو ما عناه رئيس الجامعة بأن لديه أدلة دامغة على ‘جريمة تحرك الأساتذة في الحرم الجامعي’. ولم تنِ د. رضوى أن أعدت بياناً ومقالاً ترد فيهما على بيان رئيس جامعة عين شمس، وتفند فيهما تخرصاته ومغالطاته، وتطالبه بالاعتذار لإساءته إلى سمعة الجامعة بشكله ومضمونه وقلبه الحقائق. ثم أعدت مذكرة للعرض على مجلس الكلية الذي ينعقد في اليوم التالي، ‘وإطلاع الزملاء والزميلات على تفاصيل ما حدث من موقعها كشاهدة عيان، خاصة بعد تقديمها والدكتورة هدى أباظة إلى التحقيق بتهمة إثارة الشغْب في الجامعة ،’وطلبت من عميد كلية الآداب عرضها على مجلس الكلية’، لكنه اعتذر متعللاً بأن هذا ‘إقحام لنفسها على جدول الأعمال مادامت غير عضوة به هذا العام’. ثم زاد الطين بلة، رفض وكيل كلية الحقوق القائم بأعمال العميد الذي سافر للحج مع وزيره د. هاني هلال، منحها إجازة مرضية لمدة ستة أسابيع تسافر فيها إلى واشنطن للعلاج وإجراء الجراحات اللازمة ؛ بدعوى أن العميد ليس من حقه التوقيع على إجازة تتجاوز عشرة أيام، وأنه لا بد من موافقة رئيس الجامعة .. وضرب عُرض الحائط بالفحوص والتقارير المرفقة بطلب الإجازة . مما دفعها إلى القول: إن وافق رئيس الجامعة، فشكراً .. وإن لم يوافقْ أتحملْ مسؤولية سفري بدون إذنه. لكن العميد المؤقت لم يفتأ أن عاود الاتصال بها ؛ في محاولة لكسر إرادتها وصلابة موقفها، قائلاً لها: رئيس الجامعة مُصر على أن يلتقي بكِ، أرجو أن تذهبي إليه. فردت عليه بحسم وحزم: سأسافر غداً، لا مجال للذهاب . لكنه يريد الاطمئنان على وضعكِ الصحي، ويناقش معكِ إمكانية إسهام الجامعة في تكاليف العلاج. وهنا شعرت الدكتورة رضوى بالإهانة الموجهة إليها، وعمليات الالتفاف والمحاصرة الجارية، مستغلين ظروفها الصحية بالغة السوء والقسوة، أو وفق تعبيرها: طريقة استخدام العصا والجزرة، وكأن أساتذة الجامعة أرانب أو حيوانات صغيرة تُدْبر مذعورة أو تُقْبل أيا كانت اليد الممدودة . وبعد شهر من وجودها في واشنطن، قرأت بالصدفة المحضة على بوابة ‘الوفد’ الإلكترونية بتاريخ 10/ 12 / 2010 خبراً بعنوان ‘هاني هلال يفرج عن رضوى عاشور’..ثم خبراً فرعيا ‘رضوى عاشور في باريس للعلاج ‘.. أما نص الخبر فيقول: تتوجه إلى باريس، اليوم الجمعة’، الدكتورة رضوى عاشور أستاذة الأدب الإنجليزي والعضو النشط بحركة 9 مارس للعلاج بالخارج، بعد موافقة الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي’. ‘وكان الدكتور ماجد الديب رئيس الجامعة وقع الخميس الشهادة الصفراء التي تمنح للعاملين بالدولة إذناً بالسفر للخارج، والتي طلبتها الدكتورة رضوى منذ أسبوعيْن’. ‘وتعاني رضوى عاشور وهي الأديبة والشاعرة ذائعة الصيت من أمراض خطيرة استلزمت علاجها في الخارج عدة مرات العام الماضي . وكان الدكتور هلال قد أحال الدكتورة رضوى عاشور للتحقيق بتهمة إثارة الشغْب في الجامعة’. تقول د. رضوى: أضحكتني الأكاذيب في الخبر، وأضحكتني أنهم بهذا القدر من الضعف الذي يضطرهم إلى الكذب. فهي لم تطلب الشهادة الصفراء ؛ لأنها ألغيت بالنسبة إلى أساتذة الجامعات منذ سنوات . ولم تتوجه إلى باريس، بل سافرت على متن الخطوط الجوية الفرنسية إلى واشنطن. ولم يحدث أن سافرت عدة مرات للعلاج لا في العام السابق ولا في الأعوام الأسبق. ولم يسبق لها أن كتبت شعراً أو نشرت قصيدة واحدة .فوزير التعليم العالي ورئيس جامعة عين شمس لا يميزان بين الشاعر والروائي، ولا يعرفان عن نتاجها الأدبي شيئاً. وهنا تُلح د. رضوى عاشور على حيوية استقلال الجامعات، ورفع يد السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية عنها، وتحجيم سيطرة وزير التعليم العالي على حرية حركة الجامعات، وأن يكون للأستاذ الجامعي دور في عمليات تطوير الجامعات وتحديثها، وأن تعود السلطة إلى مجالس الأقسام داخل الكليات، واختيار القيادات الجامعية بالانتخاب . فالقسم منوط به وضع السياسات التعليمية وإجراء الأبحاث .. بينما دور مجلس الكلية هو الرقابة والتقويم لعمل هذه الأقسام الجامعية. إذن.. استقلال الجامعات جزء متمم للحريات الأكاديمية التي تمت صياغتها بجلاء في ‘إعلان ليما للحريات الأكاديمية’ الذي نص في مادته الخامسة عشرة على أن استقلال الجامعات يشمل حقها في إصدار قراراتها الإدارية، وتحديد سياستها التعليمية والبحثية، ومختلف صور النشاط بها دون تدخل . ولا شك أن ما سلفت الإشارة إليه، سيقيل الجامعة من عثرتها، بعد أن قدم لنا أمثال ‘د. ماجد الديب رئيس جامعة عين شمس وعدد من رؤساء الجامعات المصرية نماذج مبهرة لهذا ‘الداي هارديزم’ الموت ببطء وصعوبة بالمعنييْن الحرفي والاصطلاحي’، وجرى إبعاد د. رضوى وهي بعدُ معيدة من كلية البنات التي عُينت للتدريس فيها بعد تخرجها في جامعة القاهرة، إلى كلية الآداب وكلاهما تابع للجامعة ؛عقاباً لها على مواقفها المبدئية والوطنية ؛ مما أغضب الإدارة والجهات الأمنية منها. ولما استدعاها عميد الكلية ليؤنبها، قالت له بتهذيب: لا أعتقد أنني اقترفت أي خطأ. مارست حريتي في الانتخابات، تحاورت مع زملائي فاقتنعوا برأيي . تقول د. رضوى: بدا أنه لن يعلق ،ثم قال بسرعة: طيب يا ستي، خلي حريتك تنفعك. وتعمد عميد الكلية الانتقام منها واضطهادها؛ لأنها رفضت قبول ابنته ونقلها من كلية البنات إلى قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ؛ لعدم استيفائها الشروط المطلوبة، كما رفضت تحويل أربعة طلاب منقولين بمواد من جامعة إقليمية إلى القسم الذي تترأسه، بما يخالف اللائحة التي تشترط حصولهم على تقدير جيد، وإلا اضطرت إلى قبول كل الحالات المماثلة وكل الحاصلين على تقدير مقبول لأن لهم الأولوية عليهم . الأمر الذي أدى إلى تكتل أصحاب المصالح المعيبة ضدها، حتى إن بائع ِلب وفول سوداني راح يتباهى على الورى بأنه وأضرابه ‘شالوها من رئاسة القسم’. مضيفاً: كنا عاوزين ننقل الولد، عَقدتها ؛ فشلناها’. ولم يألُ وزير التعليم العالي د. هاني هلال جهداً في رفع اسمها من اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة ومن لجان الفحص ؛ عقاباً لها على مواجهتها له في جلسة استماع بمجلس الشعب. وفي ظل هذا الوضع المتردي الذي تحيا جحيمه الجامعات ومؤسسات الدولة بأسرها، مات أول رئيس منتخب لجامعة عين شمس بعد ثورة 25 يناير 2011 المجيدة، د. علاء فايز أستاذ جراحة الأطفال بكلية طب عين شمس، وهو شخصية محترمة، خشيها المجلس العسكري فلم يصدر قرار تعيينه إلا بعد ما يقرب من شهر من فوزه بمنصبه هذا. عمل على صون الجامعة من العسف الأمني، وأتاح للجميع فرصاً متكافئة، غير أنه لقى حتفه وهو في طريقه إلى أرض العبور لمتابعة المنشآت الجديدة للجامعة. تقول د. رضوى: لا ندري إن كانت المفاجأة والصدمة ورفض الفقد هي التي جعلتنا نتساءل إن كان الحادث مجرد قضاء وقدر، أم حادثاً مدبراً. كان لتساؤلاتها منطقها ؛ لأن علاء الكبير حيث استشهد علاء الصغير ‘علاء محمد عبد الهادي الطالب بالسنة النهائية بكلية الطب في أحداث الثورة على يد معسكر الثورة المضادة رفض إغلاق الجامعة يوم الاثنين، فنشرت الجرائد بعد ساعات من قراره أنه قرر إغلاقها . فشكا من هذا التزوير في آخر رسالة إلكترونية أرسلها إلى بعض زملائه. ‘وفي صباح اليوم التالي، الثلاثاء الأول من مايو، تهشمت سيارته في حادث أودى بحياته . وفي مساء اليوم نفسه وحتى فجر اليوم التالي، كانت المجزرة في محيط العباسية، وتم اقتحام مستشفيات الجامعة. وكان علاء فايز غائباً عن المشهد’. إن ما تقدمه د. رضوى عاشور هنا في كتابها وهو كثير- وثيقة إدانة لنظامنا السياسي المتخلف وكومبرادوريته العميلة اللذيْن حرما النشطاء من الطلاب من دخول حرم الجامعة ؛ جزاء لهم على المشاركة في مظاهرة، أو كتابة جريدة حائط أو ما شابه . وأديا إلى ‘فتح خراطيم الماء، وإلقاء الحجارة والزجاجات الفارغة على طلاب جامعة الإسكندرية .. ولم تستقل د. هند حنفي رئيسة الجامعة إلا بعد معارك شرسة شهدها حرم الجامعة. ودَهَمَ مسؤول كبيرفي جامعة المنوفية بسيارته المسرعة جمهرة من الطلاب المعترضين فأصاب من أصاب منهم .وأطلقت البلطجية المدججة بالعصي والسلاح الأبيض على الطلاب المتجمهرين في قاعة من قاعات كلية الإعلام’ . ومن ثم ؛ نشأ في مصر نظام تعليمي يشكو من تدني نسق المدركات والقيم والسلوكيات، وضعف الإنفاق على البحث العلمي والتطويرنتيجة ضعف الإنفاق على التعليم، ومحاربة حرية التفكير والتعبير عن الرأي، واستنزاف قدرات جامعات الدولة من خلال إغراء الأساتذة بالعمل في الجامعات الخاصة التي أنشأها أصحاب السيراميك وتربية العجول وإنشاء مفارخ البيض والمضاربين في البورصة ومرتباتهم الدسمة. إزاء هذا الوضع المأساوي الرث، يتعين فهم تجربة د. رضوى عاشور مع مرض الشوانوما في إطار وصف تجربتها الكلية الإنسانية، وفي تقاطعها مع صورة المجتمع في اختلاله واعتلاله وما أصابه من تدهور على مختلف الأصعدة، وهو ما تعبر عنه بقولها: لا أفهم في الصدف . أتأملها وأفشل في فهمها، ولا أعني الصدفة كظاهرة، بل تصادف تواريخ أمريْن داليْن، أو تصادف حدوث أمر حزين مع آخر سعيد ‘أو العكس′ في اليوم نفسه من ذات السنة أو بعدها بسنوات ؛ كأن أفقد والدي يوم عيد زواجي، وأن يتعرض صديقنا رسام الكاريكاتور ناجي العلي للاغتيال في التاريخ نفسه، وأن يرحل طارق في يوم عيد ميلاده السابع والستين .تصادف إذن أن أكون في مسرح العمليات بين أيدي جراحيْن يُعملان مشارطهما ومعارفهما في رأسي، وتونس تشتعل بعد أن أحرق البوعزيزي نفسه. لا علاقة بين الأمريْن، ولكنني أربط بينهما’. لذلك عندما أصيب شقيقها طارق في يونية 1967، وهو شاب دون الرابعة والعشرين بانسكاب بلوري ألزمه الفراش أسابيع طويلة، ربطت ‘بصرف النظر عن أي رأي طبي، بين مرضه وكمده على فقد الآلاف من أبناء جيله ومنهم أصحاب ومعارف له، نقلوا إلى سيناء ولم يعودوا. تعززت قناعتي لاحقاً حين أصبت بالمرض نفسه في سبتمبر 1981 حين اعتقل السادات في حملته الشهيرة 1536 معارضاً من معارضيه، كان بينهم معظم صديقاتي وأصدقائي’. غير أن رحيل شقيقها طارق، وتجربتها مع المرض لفتا نظرها إلى خطر داهم يمثله وحش ضارٍ متربص اسمه الموت لاتنفك صورته تطوف بمخيلتها، وتلح عليها ؛ فتخايلها لمحاً أسماء فرانز فانون ومحمود درويش ود. محمد أنيس ‘وكلهم ماتوا في الغربة إثر عمليات جراحية’، وتستعيد في شرفة شقتها ببودابست تفاصيل اغتيال الفنان ناجي العلي ‘متى وأين سمعنا بالحادث .. رحيله بعد ثمانية وثلاثين يوماً من الاغتيال .. أستعيد وجه زوجته وأولاده’، وكأنها تستقطر المعنى الذي وهب الإنسان نفسه له، محاولاً تجسيد مغزى وجوده ومصيره الإنساني . وهنا تتبدى لها جدوى الحكاية التي يقدمها الراوي، والأشكال الدائرية التي تتداخل فيها المسارات والمآلات. لهذا ترى أن غرناطة في ثلاثيتها ‘ليست فقط حكاية موت واندثار ؛ غرناطة حياة، بستان من المعاني المكنونة في باطن الأرض نذهب إليه عبر الحكاية’. وبذلك تتعامل مع الموت في إطار المفارقة، أي المفارقة التي دخل بها الإنسان إلى التاريخ وأكد بها زمنيته، وهو يواجه كل عوامل الحصار والإفناء والتذويب ؛ بوصف الوجود بأكمله في حال الصيرورة ؛ ذلك أننا نؤكد على الحياة، بتأكيدنا على حقيقة الموت وواقعيته ؛ من أجل توسيع التفكير في الحياة ومغزاها. ومن ثم ؛ تشتق فكرتها عن الموت من جدل الذات والواقع .. الحصار والمقاومة .. النفي وسؤال التحرر الإنساني. لذا واجهت الموت بالسخرية، كما نلمسه مما كتبته لصديقتها الكاتبة اللبنانية هدى بركات ‘عن الورم الثابت والمبدئي، والوصف الساخر للجراحين الذين يقترحون استئصال القلب والرأس من باب الاحتياط ‘، منبهة إيانا إلى أن ‘هذه السخرية كانت تعبيراً عن حاجة للدفاع عن النفس . درعاً من نوع ما إزاء خطر قررت أن أفضل أسلوب لمواجهته، هو التصغير من شأنه وتجاهل خطورته . حتى الورقة المطبوعة التي وقعتُ عليها عند إجراء الفحوصات في اليوم السابق للجراحة، حولتها لموضوع للفكاهة الصاخبة . كانت الورقة إقراراً مني بأن التخدير قد يسبب لي الشلل أو الموت، وأنني لا المستشفى، أتحمل المترتبات . أضحك: كيف أتحملها وأنا ميتة؟!’. وأمدها حب الأصدقاء لها كما عكستها تلفوناتهم التي لم تكف عن الرنين يوماً للسؤال والاطمئنان عليها، بطاقة إضافية على حب الحياة والتشبث بها، فقالت لنفسها: ‘أعي أنني امرأة محظوظة ، فمن يجرؤ على الرحيل في وجود كل هؤلاء الأصدقاء؟’. وقررتْ مواصلة حياتها كما ألِفَتْ ودَرَجَت، دون أن تلقي بالاً إلى هذه ‘الدراما التي تدور في دماغها’، تنمو بشكل أهوج وتمارس جنونها على طريقة’سكتناله دخل بحماره’، حتى إن ‘أول ما نطقتُ به عندما أفقتُ من التخدير هو السؤال: ضربوا العيال؟ كما روى لها زوجها، وعادت إلى القراءة بيسر، ‘ميلها التلقائي إلى المكابرة’، وراحت تستقبل المعزين (في وفاة شقيقها )، ‘وأشارك زملائي في توزيع حكم المحكمة الإدارية العليا في الجامعة، وأنا أكتب مسودة بيان 9مارس، وأنا أخرج مخذولة من مكتب العميد لأنه كما قال، لا يستطيع أن يعرض المذكرة على مجلس الكلية، وأنا أدرس مقرر الدراسات العليا بهمة’. وانشغلتْ مع أسرتها بالمشاركة في أحداث ثورة 25يناير الشعبية بآمالها وتحدياتها، متمثلة ‘حركة الزمن والأجيال وتبدل الأدوار’، عبر تلاميذها ‘نوارة نجم والأخويْن الكفيفيْن مصطفى سعيد ومحمد عنتر وسلمى سعيد وسواهم ‘ التي دَرستْ لهم، وشاركوا في الثورة بقسط وافر، رافضة لعب دور ‘المرجع والأصل الذي تفرع عنه هؤلاء الشباب، في ثورة لم أخطط لها ولم أشارك فيها بشكل مباشر، بل غبتُ اضطراراً عن كل نشاطاتها في شهورها الأربعة الأولى، وحين شاركتُ كانت المشاركة خافتة وهامشية لأنني لم أتعافَ تماماً من مرضي ؛ ولأنني ستينية، قدراتي على الكر والفر محدودة’، وعندما حاولتِ الكتابة عنها ‘بدت لي غير ممكنة لأنني هيابة، لا أثق في قدرتي على إضافة جديد من خلالها، والأهم أنني كنت أتوجس من فكرة القفز أمام أولئك الشباب وإعاقتهم أوإرباكهم، وإن حسنت النوايا، برؤية قاصرة أو توجيهات تنتمي لجيل سابق وتجربة مغايرة’. وهذا في الحقيقة درس غالٍ في التواضع، يزيل العلاقة الملتبسة بين الذات والآخر ؛ فيجمعهما التواصل والحلم ؛ تواصل التاريخ الحي والحلم بالغد المأمول، فتتواشج الحياة مع الأصوات والألوان والشعاع الصاعد من الفرح الداخلي الذي يمنحنا الإحساس بالمستقبل. لهذا جاء الفصل الرابع عشر ‘من يكتب هذا المشهد؟’؛ مشهد ميدان التحرير عبر شرفة بيير، وما يموج به من حركة ثورية هادرة، جاء مفعماً بشاعرية نادرة واستثنائية نعايش من خلالها الإنسان كذات فاعلة في التاريخ، لا كموضوع للتاريخ، لاسيما البورتريهات البديعة التي رسمتْها بالكلمات لأحمد الشحات ود. شعبان مكاوي ومصطفى سعيد وخالد سعيد ومينا دانيال وطارق معوض ومايكل كرارة، وعلاء عبد الهادي ود. علاء فايز وسواهم، ملتقطة الوهج الصادر من تحررهم الروحي وذواتهم التواقة إلى التغيير والتثوير، وقدمت لنا بجسارة فنية لافتة سرداً روائيا يكتشف الطاقات الدرامية الخصبة التي تختزنها المظاهرات والمواجهات التي دارت في ميادين التحرير وطلعت حرب وباب اللوق، وشارع محمد محمود وشارع الشيخ ريحان وشارع يوسف الجندي وشارع الفلكي وشارع منصور وأمام مجلس الوزراء لاسيما ما حدث لهند التي قبض عليها مع زميلاتها الثماني وقيام العسكر بتعرية إحدى البنات وضربها، ولنشيد مصطفى صادق الرافعي وصَفر علي، وأغنية أم كلثوم ‘يا ليلة العيد أنستينا’، التي تتجاوز في النظر إليهما ‘القيمة الفنية للأغنية’ ؛ لتتوقف عند ‘مكانتهما في حياة الناس′، ولرسوم الجرافيتي بوصفهما ‘فنيْن وفعليْن متداخليْن متزاوجيْن ربما كالروح والبدن، لا ندري أيهما يجسد الآخر’، ودورها التاريخي في ثورات الطلبة والعمال في فرنسا عام 1968، والمكسيك، ثم مصر، ولهتافات الألتراس ‘البذيئة المنغمة المغناة تقريباً في المدرجات وخارجها التي تستغرب لمشاعر الارتياح والطرب التي تغمرها لدى سماعها . لا كصغير يثيره الممنوع، بل كراشدة تقر وتعترف أن الصفاقة لا تكمن في هتافهم، بل في الفعل المتجبر لسلطة فاجرة في سياساتها وسلوكها’. أما اجتهادها الخاص في تناول لوحة الجِرنيكا التي أبدعها الفنان العالمي الخالد بابلو بيكاسو، فتظل أنموذجاً مرهفاً للتأمل الهادئ في رحلة البحث بين الحقيقة الإنسانية والحقيقة الفنية، وللتذوق الصافي لجماليات العمل الفني. ويبدو أن د. رضوى أخذت بالتصويب الذي قذمه جان كوكتو لعبارة بيكاسو: إنني لا أبحث، ولكنني أجد’، فأصبحتْ: إنني أجد أولاً، وأبحث بعد ذلك’. بَيْدَ أن د. رضوى حرصت على توثيق أسماء الشوارع والمحال والميادين ومراتع صباها الأول ومدارس تعليمها، وذكرياتها مع الأمكنة والأصدقاء المقربين ؛ لأن الحاضر تاريخ، ووعينا بالماضي وفهمنا للحاضر متشابكان تشابكاً عميقاً، والتذكر أحد مصادر المعنى والحقيقة معاً. لهذا بحثت عن بيت الزعيم الوطني أحمد عرابي الذي كان في ميدان باب اللوق، وحوله الإنجليز إلى مستشفى الليدي ستانجفورد ؛ ليوهموا الناس أنهم ‘يعطفون على المصريين، يعالجونهم ويعتنون بصحتهم . أين؟ في عقر دار أحمد عرابي .باختصار، نحن إزاء مجموعة من الصور عن ‘عبء الرجل الأبيض، ومهامه الحضارية النبيلة في استعمار الآخرين’. لكنها أرادت لتلميذتها سلمى سعيد ‘التي أطلقت عليها المجنزرة ثلاث طلقات خرطوش، في كل خرطوش منها ستون بلية أصابت وجهها واستقرت في ساقيْها، أن تعلم أنها أصيبت بالقرب من بيت عرابي، وأريد لأولادها من بعدها أن يعرفوا أن أمهم وهي صبية في العشرينيات أطلق عليها النار في هذا المكان. وأريد ألا ينسى أولادها ولا أحفادها ولا أحفاد أحمد حرارة ومالك مصطفى وماري دانيال وأشقاء جابر صلاح ،أن أهلهم والمئات غيرهم ممن استشهدوا أو أصيبوا في هذا المكان، كانوا وهم يصنعون تاريخاً جديداً، يتواصلون مع تاريخ لم يحكوا لنا عنه، أو حكوا حكايات منقوصة ‘. وعلى هذا النحو، تتجلى لنا قدرة الكاتبة على تضفير التفاصيل، واكتشاف الجوهري الثاوي خلف العَرَضي، ونقل حقائق الحياة اليومية الصغيرة ببساطة وإيجاز وبعين طفل جعلت ‘هذه المرأة وأعني رضوى، ما إن تجد الشارع خالياً نسبيا، حتى تروح تركل أي حجر صغير تصادفه بقدمها اليمنى المرة بعد المرة ؛ في محاولة لتوصيله إلى أبعد نقطة ممكنة’، وتقديم الشخصيات الإنسانية من الداخل بما يدعونا إلى إعادة اكتشاف النفس والحياة والواقع في ضوء جديد، لتضمنا ‘تلك العائلة الممتدة من الشغيلة والثوار والحالمين الذين يناطحون زمانهم، من حزب العناد، نمقتُ الهزيمة’. لذلك ستظل د. رضوى عاشور حية في وعينا ووجداننا، تشع بفكرها وتجربتها الناضجة القادريْن على منحنا الأمل العصي على التلاشي، مادمنا قررنا معها ‘أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا’.
*كاتب وناقد من مصر
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو