الوكيل - وفد اسم صلاح بوسريف إلى مشهدنا الشِّعري الأدبي، أواسط الثمانينيات من القرن الفارط، والشِّعر المغربي آنَئذٍ يلتقط أنفاسَه الحارة بعد عُرام السبعينيات، حيث كان مُحاصَراً بين جمر ورصاصٍ، مسكوناً بالقصيدة والقضية في قَرَن واحد، ومنذوراً لرهاناتٍ صعبة، يتعلق بعضها بالحداثة الإبداعية، ويتعلق بعضها الآخر بالحداثة السياسية.
طلع اسم صلاح بوسريف بين ثنايا الثمانينيات، وئيداً واثقاً وواعداً. متجهاً بكليته وجوارحه صوب أفق الشِّعر، لاشيء سوى الشِّعر، يَمْحَضُه كلّ العشق وكل الوفاء. وكان إيقاع المرحلة الذي يشبه سكون العواصف، يدفع بالشعر المغربي الجديد إلى تأمل ذاته وهمومه، كما يدفع بالشُّعراء المغاربة إلى العكوف على ذواتهم وهمومهم. كان صلاح بوسريف في مقدمة الشعراء الذين اشترعوا هذه الشِّرْعَة، واتجهوا بالشعر صوب هذا الأفق الحر الجديد، وأبْلَوْا فيه البلاء الحسن، إبداعاً ونقداً وتنظيراً، وما يزال صلاح بوسريف مأخوذاً بـ ‘القيمة الشعرية’ و ‘الوعد الشعري’ و ‘النص القلق’ حريصاً على ‘مواظبة الشعر’ و ‘توليد الأشياء’. إلى الآنَ، ما بدَّل تبديلا. بل يمضي دأباً وقُدُماً، في رهانات حداثته المتجددة، مخترقاً بثقة وأناة ‘فخاخ المعنى’ و ‘مضايق الكتابة’، مُسْتَجيباً وعلى الدَّوام، وبكل أُبَّهَة وأناقةٍ، لـ ‘نداء الشعر’. وللإشارة، فكل هذه لكلمات الموضوعة بين مزدوجتين، هي عناوين نصوص وكتب نقدية ونظرية خَطَّها يراع صلاح بوسريف، وهي تشي، في حد ذاتها، بعشقه الصوفي للشِّعر، ودفاعه المسُتميت عن قيمته، كما ترسم، بلا شك، خطوطاً عريضة عن شِرْعَتِه ونهجه.
كانت الثمانينيات التي دَرَجَ على تخومها بوسريف إذن، انعطافة نوعية جديدة في مسار الشِّعر المغربي المعاصر. انعطافة، شاءت أن تتحرر من قيود والتزامات المرحلة الآنفة، وتستعيد للشِّعر ذاتيته وحريته. من هنا اتَّسَعَت فُسحة الشِّعر، واتَّسَعت، تبعاً، فسحة الشُّعراء، وتكاثروا عدداً.
وهنا منبع الإشكال الذي يُحيلنا إلى قولة شوقي المأثورة ‘إذا كثر الشُّعراء قَلَّ الشِّعر’. ففي مقابل الغزارة اللافتة في العطاء الشِّعري والأسماء الشِّعرية، بدت ‘القيمة الشعرية’ شحيحة وباهتة في هذا العطاء، التي ألحَّ عليها صلاح، إلا في ما ندر، والأمر راجع بالأساس، إلى شحِّ وكسل الإحساس باللغة، والعناية باللغة، في النماذج الكاثرة من هذا العطاء. والشعر، كما هو معلوم، لغة مُقَطَّرَة من اللغة. وفي كل قصيدة عظيمة، قصيدة ثانية، هي اللغة، كما قال إيلوار.
ومنذ البدء كانت اللغة هي الشُّغْل الشَّاغِل لصلاح بوسريف، وهي الرِّهان الأساس في تجربته الإبداعية، سواء أكتب شعراً أم نثراً.
من هنا كانت نصوصه الشِّعرية والنثرية معاً، بلغتها الأنيقة، المسبوكة، بمثابة نسمة بَلِيلَة تَهُبُّ على حقلنا الشعري، وتعيد للكتابة الشعرية بعض روائها وبهائها، كانت ‘غرفة إنعاش’ لهذه الكتابة.
عندما طلع علينا بوسريف في الثمانينيات، كان فيه شيء من ‘الأدونيسية’، يسكن ذاكرته، ويُلابِس لغته. وأدونيس كان سيد المرحلة. لكن مع توالي الأيام وتناسُل الكلام، رسا بوسريف على أسلوبه الخاص الذي ارتضاه لنفسه، ونبع صوته من صميم لهاته وحنجرته. والأسلوب هو الرجل، كما قال بوفون.
يجمع بوسريف ويُؤاخي بين الكتابة الشِّعرية، والكتابة عن الشِّعر. يجمع بين الشِّعر والنثر. بين إبداع الشِّعر وفقه الشِّعر. لكنه سواء أشعر أم نثر، فهو شاعر، في جميع الأحوال، يُتْقِن فَنَّ تَطْريز الكلام. والشِّعر سيد الكلام.
في الشعر أصدر بوسريف الأعمال التالية:
1. فاكهة الليل
2. على إثر سماء
3. شجر النوم
4. نتوءات زرقاء
5. حامل المرآة
6. شهوات العاشق
7. شرفة يتيمة [في جزئين: 'خبز العائلة' و 'حجر الفلاسفة']
وفي الكتابة عن الشِّعر، أصدر الأعمال التالية:
1. رهانات الحداثة، أفق لأشكال مُحتمَلَة
2. المغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر
3. بين الحداثة و التقليد
4. فخاخ المعنى
5. مضايق الشِّعر، مقدمات لما بعد القصيدة
6. الكتابي والشفاهي في الشعِّر المغربي المعاصر
7. نداء الشِّعر
8. ديوان الشِّعر المغربي المعاصر
ثم أخيراً وليس آخراً، كتابه الجديد، موضوع هذا اللقاء ‘حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر’.
وسنلاحظ بدءاً، بأن الكلمات المفاتيح LES MOTS CLâFS في هذه العناوين هي: الحداثة ـ المغايرة والاختلاف ـ الشِّعر ـ التقليد ـ المعنى ـ الكتابة ـ الكتابي ـ الشفهيô وهي بالضبط الأسئلة والموضوعات التي أخذت بجماع اهتمام صلاح بوسريف، والتي سينشغل بها سوية ومجتمعةً، في هذا الكتاب الجديد والجريء، بإحاطة معرفية، وحصافة نقدية، حجاجية وبلاغية أدبية ناصعة، وهي السمات الرئيسية التي تتسم بها كتابة صلاح بوسريف.
ليس هذا الكتاب مجرد كتاب عادي ومألوف عن الحداثة، ينضاف إلى سجل الكتب المهتمة بالشأن الحداثي. بل هو سفر باذخ ومتميز عن الحداثة. وفي الإمكان القول، بلاشطط في القول، بأنه منذ مدة لم يصدر كتاب عن الحداثة في مثل هذه الأهمية والإحاطة والنباهة، والأناقة أيضاً.
منذ مُدَّة، رَانَ ما يشبه الصمت والرُّتُوب على مشهد المقاربة الحداثية للحداثة الشِّعرية العربية، وهذا الكتاب يُحَرِّك السواكن، ويزرع الكمائن، ويُعيد للحداثة ألقَها من جديد، ويضخّ دماءً حارَّةً في أوصالها. وليس من السهل الحديث عن هذا الكتاب والخوض في غماره واستيفاء كل تفاصيله وأفكاره، بل غايتي هنا تقديم بطاقة تعريف مُصَغَّرَة للكتاب، هي غيضٌ من فيضه.
هذا كتاب أطروحة، كما ورد في مقدمته. وذلك بدلالتين: بالدلالة الأكاديمية والجامعية من جهة، وبالدلالة العلمية والفكرية من جهة ثانية وأساسية، أعني بناء نظرية حول الكتابة الشِّعرية العربية، أو الحداثة الشِّعربية، والبرهنة النصية والفعلية عليها، والدفاع العلمي والأدبي عنها. وبوسريف، دائماً، مُجْتَرِح أسئلة وقضايا خلافية، وأطروحات فكرية، فيها جِدَّة وجِدِّيَة.
يتكوَّن برنامج الكتاب، ومَحْفلُه الدِّراسيّ من قسمين رئيسين وسبعة فصول، ثلاثة منها في القسم الأول، وأربعة منها في القسم الثاني، وهو مناط الكتاب ومجاله الحيوي. القسم الأول ‘ من القصيدة إلى الكتابة ‘، يتحدث فيه عن المرحلة الموسومة بمرحلة الشِّعر الحر، أو شِعر التفعيلة، متأمِّلاً ومُتسائِلاً ومُعيداً النظر في كثير من المُسلَّمات والمعطيات، ونابِشاً في مناطق وبياضات غير مُفَكَّرٍ فيها.
القسم الثاني ‘أساسيات الكتابة’، وفيه يُقارب المرحلة الثانية من الحداثة الشِّعرية العربية، أو مرحلة ما بعد الحداثة. يختار الباحث مصطلح الكتابة l’criture على بَيِّنَةٍ من أمره، وباستراتيجية واعية بمقاصده، لأن الكتابةَ هي رهان الباحث، وأفقه المُشْرَع على التجديد والمُغايَرَة، والمُغامَرَة. فهو، إذن، شِعريُّ المنزع، بَارْثِيُّ الهوى.
في هذا القسم يتوقف الباحث عن أساسيات وسمات الكتابة في هذه المرحلة، راصداً بعض تجليات هذه الكتابة من خلال أربعة نماذج تطبيقية، لكل من سليم بركات [لبنان] وقاسم حدَّاد [البحرين] وعبد المنعم رمضان [مصر] ومحمد بنيس [المغرب]. والمُلاحَظ أن هذه الأسماء من جيل واحد متقارب، وتنتمي لأقطار عربية هي بؤر الحداثة الساخنة في الوطن العربي.
هو إذن كتاب نظري وتطبيقي، جديد وجريء، في طرحه ومُقاربته ومنهجيته، يتضافر ويتآزر فيه الحس الشِّعري مع الحس النقدي، مُدَعَّمَيْن بمرجعية معرفية رحيبة وخصيبة.
هكذا يطوف بنا الكتاب أفقياً وعمودياً، حول أسئلة الحداثة وموضوعاتها الساخنة، وأساسيات الكتابة وتجلِّياتِها، منطلقاً من بيانات الكتابة، ومتأنِّياً عند أسئلة وموضوعات بأعيانها، كالكتابة الصوفية وجبران نواة لكتابة، والوزن والإيقاع، والكتابة إيقاع مفتوح، والخيال وتواشج الأنواع، وشعرية الغموض، وتوزيع الكتابة، والكتابة وإنتاجية القراءةôإلخ.
كل ذلك مع حضور أنا الباحث، وبَصْمَته الدَّالَّة عليه. وميزة صلاح أنه بقدر ما يمتح من الشِّعرية الغربية ويهتدي بهديها، في مشروعه النقدي ـ النظري، يُرْهِف السَّمْع والوجدان في الآن ذاته، لأصوات السلف وجهودهم واجتهاداتهم، وفي جميع الحالات يحضر الحس النقدي، عنده، يقظاً مُتَأَهِّباً، لا يترك شاذّةً ولا فاذَّةً إلا أحصاها، و محَّصَها.
ونحن نقرأ الكتابَ ونلج موالجه، كما نقرأ صلاح دائماً، نُحِسّ بما أسماه بارث ‘متعة النص’، حتى وهو يتحرَّك في فضاء مفهومي. إنَّ صلاح الشَّاعر، ساكن في صلاح الباحث. وأظن أنَّ الإصغاء للكتاب، هو خير ما يقربنا من لغته وأدائه. فلنستمع لهذه الفقرة حول ‘التوالُج وتواشُج الأنواع′ في الفصل المخصص لـ ‘البيانات الشعرية وأوليات المُساءلة’، كمسك ختام ولحن كلام:
‘تلتقي البيانات، جميعها، حول مفهوم انفتاح الشكل في الكتابة. ويعني الانفتاح هنا، خروج الشِّعر من هيمنة القصيدة، أي من الشكل الواحد المُهَيْمِن. وهذا، طبعاً، لم يكن لِيَتِمَّ في نظر أصحاب البيانات، إلاَّ بتحقُّق أو بإنجاز ما سمَّيْناه بالتَّوالُج المفهوم الذي نقترحه للتعبير عن طبيعة اللقاء، أو العناق الذي تحققه الكتابة في أكثر من مستوى.
لعل أهم هذه المستويات، عِناق الشِّعر والنثر. أي حذف، وإزالة تلك المسافة الفاصلة بين ما كان خاصّاً بالشِّعر، من مفرداتٍ وتعابير وصور، وبين ما كان خاصّاً بالنثر. فما تَمَّ من توالُج في الممارسة النصية بين الشِّعر والنثر، جعل كليهما يستمد شعريته، وفرادة تعبيره، ليس من ذاته كمفردة أو تعبير أو صورة، بل من السياق الذي هو أحد مستويات تحَقُّق التَّوالُج، الذي فيه تذوب المسافة بينهما، ليصيرا، معاً، أرضاً واحدةً لهواء واحد’ [ص 111]
ذلك هو صلاح بوسريف، الباحث الشَّاعِر، يغوص في صميم حداثة الكتابة. لستُ في سياق تفصيل وإفاضة، بل أنا في سياق وإيماضة، في سياق تعريف وتقديم. ويبقى صلاح مشدوداً دائماً إلى نداء الشِّعر، صادحاً، دائماً، بنشيد الحداثة، سواء أكتب شعراً أم كتب عن الشِّعر. له التحية حداثيةً.
ناقد من المغرب
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو