الأربعاء 2025-03-05 01:48 ص
 

‘أريج البستان في تصاريف العميان’ لأنيس الرافعي

06:01 م

الوكيل - ها هو ذا فعلها، جهارا نهارا، وخرج على الناس في خطبة كتابه ‘أريج البستان في تصاريف العميان ‘(دار العين، القاهرة، 2013) وتبرَّأ من التجريب الذي ألصق به ردحا من الزمن.اضافة اعلان

إنه أنيس الرافعي، الذي، رفعا لكل لبس، ودفعا لكل ظن، بيَّن بكل وضوح موقفه وموقعه مما يروج في ساحة الكتابة القصصية هذه بعد ‘أن ازدحم الميدان،’واختل الميزان، وهان الحرف، وعاث الرفت، وعم الرفس، وحاد القوس، وتعثر المعدن النفيس في الفلز الخسيس، وتلبس السخيف بالشريف، وتعامد الذليل بالجليل، وتماثل اللئيم بالكريم، وتشبه الحقير بالخطير، وتعلق المهين بالمكين ‘(ص، 16)، وهو في ذلك يصرح أكثر مما يلمح، ولو ظفرنا من الأريج بهذا القطف لكفانا عن سواه، لكن الداخل إلى هذا البستان ـ المتاهة لا بد له أن يكمل الطواف، ويسعى وراء دروبه المتشعبة، الصاعدة النازلة، يلتقي رجالا من هذا الزمن في زمن برزخي، فيه الشيء وضده، زمن يختلط فيه الحلم باليقظة، الأصل والنسخة، النص ونقيضه، المكان والعدم، دليلنا في ذلك الخيال، هو الذي عودنا على الذهاب بالخيال إلى أقاصيه. يتجول بنا في مدينة نعرفها كما يعرفها العالم، لكنها تغد وبفعل ذلك الحبر النفيس، المغموس في العتاقة، مراكشه هو، وإن سار على هدي من سبقوه في درب الإحسان إلى الكتابة.
لقد اختار أنيس الرافعي مرة أخرى شكل ‘ الكتاب’، مثلما صنع في ‘اعتقال الغابة في زجاجة ‘ والشركة المغربية لنقل الأموات’على سبيل المثال لا الحصر، حيث هناك وحدة الموضوعة، والبنية والتصور. إذ نفترض أن الرافعي يفكر في مشروع الكتاب ثم يتصدى للنصوص المشكلة له، التي يمكن قراءتها في وحدتها وفي استقلاليتها معا، حيث تقوم الكتابة على وعي نقدي مسبق، وهذا خلافا لما نقرؤه عند الكثير من كتاب القصة مغربيا وعربيا، إنه قاص يكتب بنفَس الروائي. وهذا ما نجد تبريره في العنوان الفرعي: دليل حكائي متخيل؛ إنه لا يتحدث عن قصة بل بمفردات: خطبة الكتاب، مقصد الكتاب، خاتمة الكتاب. وإذا كان الكاتب في السابق قد اشتغل، من بين موضوعات عديدة، على موضوعة التداخل بين الواقع والحلم، أ واستلهم النص الفيلمي ودخل معه في حوار جمالي سمته التوتر والتكامل بين جماليتي الحرف والصورة، فهو وفي ‘أريج البستان’ فضَّل حوارية الفن التشكيلي التصويري على الأخص، بما أن الكتاب في مجموعه، منذور لشخصيات قاسمها المشترك الاهتمام بفن الرسم احترافا أوهواية. وهذه حال صلادي، أوتشرشل، أوماجوريل، وغيرهم. إنه يستلهم الدليل السياحي بصفته جنس خطاب أول، وينسج على منواله ومفارقا له دليلا حكائيا متخيلا يستحضر فضاءات مراكش بأضرحتها وأزقتها وحاراتها وساحاتها وشخصياتها. يستحضر ويُغيِّب في الآن معا. فالأبواب السبعة تحاكي في عددها رجالات بلاد البهجة السبع، لكن الرافعي يضيف من عنده أبوابا متخيلة. بل حتى المدينة بما هي طبوغرافيا تصير مبررا لمدينة موازية، أبوابها ليست مفتوحة على المستوى الأفقي فحسب، بل تعرج بالقارئ إلى سماوات التخييل، (ففتحوا لنا بابا فإذا هي سماء من دخان يقال لها الرَّفيعة)، أوهي سماء من حديد، وقد تكون من نحاس أوفضة، بل وذهب أحمر، وياقوت، أبواب مثل باب القطط، أوباب الأكتع، أوباب الحال، وباب السماق وباب الذباب، باب الوشم، وباب الآخرة، كلها تخرق حجب الظاهر والمرئي، إلى الباطن والرؤيوي. وهذه الباروديا تنسحب على مستويات عديدة من النص. بدء بالجنس الأدبي، مرورا باللغة، وأشكال الأسلبة المختلفة، والشخصيات التاريخية منها والتراثية والفنية التي اتخذها عمادا لقصصه. ولعل القارئ يدرك التشابه مع أبواب ومدن ألف ليلة وليلة، ولعله يستريح إلى هذا المتناص، لكنه تشابه مخادع، فإن كان الرافعي يستلهم النص الألفي بغرائبيته وعجائبيته، فإنه لا يفعل ذلك على سبيل المحاكاة التي تضاهي، بل بفاعلية الكتابة المبدعة، إذ أن الإطار السردي له ظاهر النص التراثي، لكنه في حقيقة الأمر نص حديث، استنادا إلى التواريخ المثبتة في ثنايا النص على الأقل، علاوة على الإشارات التي ذيل بها المؤلف نصوصه، وهي نصوص موازية في حد ذاتها، ونقصد الحاشية ـ السند، إذ’أن أبعد تاريخ يتعلق بزيارة جورج أورويل لمراكش سنة 1939، وبالتالي فالقالب التراثي هو وذريعة فقط، بل إنه يتعرض للهدم من خلال ما أسلفنا، وهذا إجراء نلمسه أيضا في التعامل مع كل مكونات النص القصصي: من شخصيات، وفضاءات، وأزمنة. حيث أن الخطاب الافتتاحي عن ‘الشخصيات حسب ترتيب ركوبها على مطية البراق’ وتقسيمها من طرف السارد ـ بديل المؤلف إلى شخصيات واقعية وشخصيات مختلقة، (ص 9) لا يسلم من هذا الهدم بدوره، ونحن نعرف أن صلادي، وقطة مينوش، أولويس بورخيس، وزيارته المتوهمة أوالمتحققة لمراكش، أووينستون تشرشل وإقامته في المامونية، وباقي الشخصيات المسماة واقعية، ما إن صارت بين دفتي الكتاب، فإنها لم تعد واقعية بالمعنى التاريخي للكلمة، فالشخصيات، تصير جميعها بنات أفكار المؤلف، وتفقد أبوتها الواقعية، إننا إذن إزاء الإيهام بالواقع وهدمٍ له في الوقت نفسه، إنه ما يمكن أن أسميه’التخييل الغيري، فصلادي في الأريج ليس هو وصلادي ‘الفنان التشكيلي الراحل(1950 ـ 1992)(ص 33)، وفق السند، وكذلك الشأن بالنسبة لباقي الشخصيات ذات المرجعية الواقعية حسب توصيف الرافعي في مستهل كتابه، فالأمر يتعلق بإقرار من السارد بـ’دليل حكائي متخيل للتطواف على مطية البراق بالحاضرة المراكشية، وجذوة الاقتباس في ذكر من أقام أوحل بها من الأعلام البهية، وهو وبمثابة نيل الابتهاج بتطريز الديباج عن مكان ساحر محضته القرارة وطالما رأيته ربيبا للمتاهة ‘(ص 15)، فطبوغرافيا الأمكنة تستحيل فضاءات بل مساحات داخلية، نفسية، لا يجب التطواف فيها أفقيا، بل عموديا، نفسيا، وهذه عدوى تصل إلى معالجة الزمن، إذ تضطرب الحواس، وتختلط الظلال، ويرتبك التسلسل الزمني المنطقي للأحداث. فالأبواب تفتح على فضاءات مستوية بالأرض وصاعدة إلى السماء (باروديا المعراج) حيث يقول السارد بوضوح ‘ وقد رتبته،’أي الكتاب، مغنيا لي عن أكثر الأصحاب، نائبا عن حضور الأحباب، ومفيدا لمحمود الآداب، بعد خطبة هي الفاتحة ومقصِد هو والآية وخاتمة هي الغاية، على سمت السماوات المرتجاة في رحلة الإسراء والمعراج حسب رواية الإمام ابن عباس، وفق سبعة أبواب متوهمة توازي بعضا من الأبواب الأصلية الموحدية لمراكش كما أدرجها العلامة محمد بن محمد بن عبد الله الموقت بين ثنايا مصنفه ‘السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية’. فمخلوقات الرافعي بناسها وحجرها وشجرها، بألوانها وأطيافها هي من ‘طين الوجدان ‘ نفخ فيه من روح الأسطورة والخرافة والغريبة والعجيبة فجاءت كما ارتضى الكاتب في خاتمة خطبته إذ يقول: ‘وكل رجائي أن أكون قد كفيت بصنيعتي مؤونة، وسددت ثغرة، وسررت فريقا، وأجبت سؤلا، والله من وراء القصد ‘(ص 17)، كل عناصر النص القديم حاضرة لكن المقصد مغاير، حديث طبعا، إذ ينبني ‘أريج البستان ‘ على تبادلات مستمرة بين الأعلى والأسفل، بين الوجه والقفا، بين الخلف والأمام، الإقبال والإدبار، الحقيقة والوهم، المتجلي والخفي، الشك واليقين. ولعل ثنوية العالم المتصلة هذه هي ما يميز العالم الخيالي عند أنيس الرافعي، إذ تطالعنا الأشياء وأضدادها في الآن نفسه. فهذا صلادي ـ الذي لا عقب له يرتبط وجدانيا بقط أسماه مينوش ‘وعدَّه بمثابة ذلك الابن الذي لم ينجبه ‘(ص 27) وذاك الحكيم الشاعر على نهج ابن المعرة، لويس بورخيس، تتداخل في عماه بصره مشاهد هي وليدة اختلاط اليقظة بالحلم، والنظر بعينين جامدتين كعيون التماثيل؛كل واحد من هذه الشخصيات يسعى إلى موضوع بحثه، أ وفقده، شأن وينستون تشرشل الذي يحلم في يقظته باستكمال لوحته القماشية غير المكتملة؛ ومن عسر التواصل مع الآخر، كما في حالة صلادي، إلى عسر الإلهام عند رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي كَلف بمراكش، وراح يذرع فضاءاتها الساحرة بحثا عما يسعفه في إنجاز اللوحة العصية على الاستكمال، ‘مندسا وسط الحرفيين الذين يرتادون في أوقات فراغهم مقهى المصرف’ أومتلهيا ‘بمراقبة الجماعات المتحلقة على لعبتي الضامة والكارطة أوالهامات المتمايلة على قصائد الملحون والأغاني المشرقية القديمة’ (ص53 )، إن الرافعي يقتنص اللامكتمل وينجز ما لم يحكه قاص أويرسمه رسام من شخصيات الأريج، وذلك عبر تكنيك الأحلام وأضدادها الكوابيس، والدمج بين الداخل والخارج، بل وإزالة الحدود الفارقة بينها، فهذا ونستون ‘ينهض مضطربا ويقف أمام الحامل قبالة مصراعي الشرفة المفتوحة على النجوم، فيرى ‘الحلقة’على أشدها والناس على رؤوسهم الطير، تلتقي نظرته داخل اللوحة بنظرته خارجها، وتعطيه النظرة داخل اللوحة الإيحاء بأنها لم تعرفه. يقترب أكثر، فتزداد النظرة إمعانا في الإنكار ‘(ص56). والفقد ذاته يجعل جاك ماجوريل”ابن مدينة نانسي الفرنسية . . . يشد الرحال إلى مراكش في ضيافة السبعة رجال، ليواصل مهنته كرسام، وبعد أن شيد بستانه الذي سارت بذكره الركبان، ‘ظل حائرا فحسبْ في أمرين حاسمين ينقصان فردوسه الصغير:طلاء قح، وبارع، يناسب أيام البستان وطبيعته الغامضة وكذا قطع التزيين التقليدية الملائمة لتدرجات الشمس ‘(ص 62) ولقاؤه، بل صدامه مع الموت، أوتلك الفتاة الفاتنة التي يدعونها في بلاد الشلوح ‘ممَّاس′، ومأساة الرسام عقب ذلك الحادث المأساوي، والذي لم يخفف من حدته سوى الاهتداء إلى ذلك الأزرق النادر الذي بات يدعى باسم صاحب بستان ‘جليز′ الخرافي الذائع الصيت. وفي المسافة ذاتها المتموجة والمتداخلة بين الحقيقة والوهم، بين ما حدث سلفا ولم يحدث بعد، يحملنا سفر جورج أورويل ذاك المغامر إلى مراكش، ه والذي ‘حدس بغريزة الطائر المجرب، أنه مُقدم لا محالة على الولوج إلى حاضر كأنه الأمس، وإِلى أمس كأنه الآتي، وبأنه من دون ريب في سبيله إلى التورط في مكان محير لا توجد فيه حدود فصيحة بين الحقيقة والوهم ‘( ص 75) زاده ألبوم للفنان أوجين دولاكروا، هو والذي يفتقد الصحة والعافية، الهارب من الدرن الرئوي، ليسقط في براثين الحمى الهذيانية، التي تستحيل مشاهد قوامها الوهم والخيال. وستكون حاضرة الحوز ملجأ لهارب آخر على طريقته، إنه إلياس كانيتي، الذي فر بجلده من أفران النازية، هو والذي كان في مسيس الحاجة لأن يسبح في لغط الأصوات ووشوشاتها علَّها تضمد فتقا مافتئ يتسع في روحه (ص86). أرواح أخرى تتقاذفها تصاريف اليقظة والحلم المزعج، جنوبا وشمالا، صبا ودبورا، في حارات مدينة البهجة ودروبها ومنازلها العتيقة التي لها بابان. ‘الأول أمامي، للساكن، وهو وصحيح، والثاني، خلفي، للزائر، وهو وخاطئ. وفي كنف واحد منها (…) يحمل تحديدا رقم سبعة كان يسكن إسباني يطلق على نفسه مسمَّى خوان…. خوان الشارد والمغيَّب عن ذاته، والذي لا نعلم إن كان قد قطع كل هذه المسافة في الواقع أم أنه كان يمشي فحسب داخل رأسه في غضون الحلم . (ص97). وهكذا فإن أبواب ‘أريج البستان ‘ السبع لا تفضي بنا سوى إلى باب متاهة الخيال الثامن المفتوح على كل الاحتمالات التأويلية.
وإذا كان من المؤكد أن القارئ يظفر بالمتعة بعد هذه الرحلة المراكشية على مطية البراق الرافعي، فإن متعة اخرى لا بد أنه واجد لذتها، وأقصد لذة اللغة المجازية بتشبيهاتها واستعاراتها المبدِعة، التي نُسجت بها كل جملة من جمل الكتاب، وهي أي اللغة المجازية، جديرة لوحدها بدراسة مستقلة أتمنى أن يضطلع بها الدارس اللساني البلاغي، في إطار بلاغة النصوص السردية تحديدا.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة