قرأت بتمعن وأناة, الحوار الطويل الذي اجرته الزميلة الدستور مع مدير الديوان الرئاسي والناطق الرسمي باسم الجمهورية التونسية د. عدنان المنصر, وكم كانت صدمتي شديدة عندما أجاب الرجل على سؤال «ذكي» مهّد له زميل من أسرة الدستور بالقول: حادثة «بوعزيزي» فجّرت الثورة وكانت الشرارة, السؤال الان من الذي صنع الثورة ومن ركب موجتها؟
وكأن الرجل كان في انتظار سؤال كهذا, فأنقضّ كالصقر على البوعزيزي بكلمات ومفردات نارية, نازعاً عنه أي رمزية واصفاً إياه بالظالم وليس المظلوم, مؤكداً أن عامل البسطة البسيط هو الذي اعتدى على «عون التراتيب» البلدية وأهانها بالكلام وبالعنف..
قد يكون شيء من هذا القبيل قد حدث, وقد تباينت التفسيرات وتعددت, إلا أن الحديث بدا عدوانياً وثأرياً وكأني بالناطق الرسمي الليبرالي والمدافع عن حقوق الانسان, كونه قريباً من رئيس الجمهورية المؤقت الذي بنى مجده السياسي على مسألة حقوق الانسان (ومن باريس) يريد تصفية حساب «ما» مع البوعزيزي, حيث ينزع عنه أي صفة انسانية أو معرفية, ويستعيد أحاديث واشاعات بات عمرها أكثر من ثلاث سنوات, ليقول في شماتة ظاهرة (حتى وان تخفّت خلف قناع إيضاح الحقائق) «.. تم الحديث على أنه من حملة الشهادات العليا, وهذا لم يكن صحيحاً - والقول ما يزال للدكتور نفسه, الذي يواصل - فالبوعزيزي لم يكن يحمل حتى شهادة البكالوريا..
هنا يبدو التصويب مقصوداً, يُراد منه اسقاط هذه «الاسطورة» (وهي مفردة دأب مدير الديوان الرئاسي على تكرارها لينزع عنها دلالاتها وليحيلها الى مجرد حدث عابر, كان له رأي مبكر فيه, عندما أورده في سياق مناسبة اجتماعية حضرها بعد يوم واحد من اشعال البوعزيزي, ليخرج باستنتاج «مُعلَن» قائلاً: من المستحيل ان تتطور الامور الى اي شيء، لأنه حصل سابقاً العديد مثل هذه الحادثة، بمعنى ان كلام صاحبنا يستبطن يأساً «عميقاً» من امكانية اندلاع ثورة او انتفاضة شعبية على حكم الاستبداد والفساد، لكنه هنا لا يكشف صراحة عن يأسه, بقدر ما يريد تسخيف «البناء» على الحريق الذي اذاب جسد العامل الغلبان..
رغم كل ذلك, لا يغادر الناطق الرسمي باسم الجمهورية مربع إهالة التراب على هذا الرجل, الذي-شاء المنصر أم أبى-بات «تيمة» للثورة التونسية, بصرف النظر عما زاد عليه مدير الديوان الرئاسي, عندما نفى ان تكون «الصورة» التي نُشِرت لجسد يحترق هي صورة البوعزيزي, مقرراً ان الاخير توفي «فورا», بل ان الديكتاتور بن علي عندما ظهر وهو يعود البوعزيزي انما كان يعود شخصاً آخر (وهذا الخبر بالمناسبة لم يذكره احد منذ ذلك الوقت حتى الآن، ما يعني انه بحاجة الى توضيح وشهود) ثم يواصل المنصر هجومه اللاذع على ما دأب وصفه بالاسطورة المفتعلة التي تم اختراعها (والشعوب تحتاج الى اساطير-كما اضاف) لإضفاء هالة على البوعزيزي, ليقول لنا في تَشفّ واضح ان احداً لم يعد يتحدث عن البوعزيزي في تونس, بعد ستة او سبعة اشهر من الثورة (كذا)..
تبقى الضربة الاقسى التي وجهها مدير الديوان الرئاسي لعائلة البوعزيزي التي غدت-في نظره-مكروهة «نوعاً ما»-فبعض افراد هذه العائلة استفادوا من هذه الصورة او من هذه الدعاية-ثم يستدرك-ابناء البلدة (سيدي بوزيد) يعرفون بأنها دعاية (كاذبة) ولكن العائلة استفادت من اجل تحقيق مكاسب شخصية، وبعض الامراء-والقول ما يزال للمنصر-كانوا يستدعون والدة البوعزيزي، ويستضيفونها ويعطونها اموالاً, فالمرأة تركت قريتها واشترت مسكناً في ضواحي العاصمة الراقية» (انتهى الاقتباس الطويل)..
أين من هنا؟
ثمة اسئلة يطرحها هذا السجال المنفرد - إقرأ هذا الحقد - على «مواطن» كادح و رَثّ, لا يشكل تهديداً لأحد ولا ينازع الذين سطوا على الثورة, زعامة أو جاهاً أو ثروة أو منصباً, وأياً كان دور البوعزيزي أو مكانة عائلته الطبقية, فإن مجرد التصويب على رمزيته التي يصعب الطمس عليها مهما حاول المتذاكون أو الذين اعتقدوا أنه اختطف الصورة, التي ارادوا احتكارها لأنفسهم, فإن ما أنجزته الترويكا الثلاثية التي مكّنت حركة النهضة من الامساك بالبلاد وإحكام قبضتها على العباد, يبدو متواضعاً بل أقل بكثير مما طمح إليه التوانسة, الذين ارادوا كنس عصابة السرّاق والجلادين والفاسدين, فإذا بهم يفتقدون الأمن ويزدادون عطالة وفقراً؟
فهي من أجل إبعاد الانظار عن فشل الذين تحالفوا مع «النهضة», يجري التصويب على شخص أحرق نفسه ولم يعد موجوداً, لكن «اسطورته» تبدو وكأنها تؤرق الذين يخلعون على أنفسهم القداسة ويحتكرون الوطنية والحقيقة, ويتلطون خلف حركة لم يعد معظم التوانسة يثقون فيها وفي حليفيها ايضاً.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو