الأحد 2025-01-19 10:38 ص
 

استحسان القبيح

07:13 ص

جاء في الخرافة أن ذكر النعامة لم يكن مستاء من كونه يملك أذنين صغيرتين فحسب، بل كان استياؤه الأشد كونه لا يملك قروناً يقوى بها، كباقي الكائنات التي تزامله في البرية والهضاب، فهام يبحث عن قرنين، يركبهما على رأسه الصغير، لكنه لم يعد بخفي حنين، إنما رجع وقد خسر بعضاً من أذنيه، ولهذا يسمى ذكر النعامة بالظليم، زيادة على أنه بقي أصمعياً (أي صغير الأذن)!.اضافة اعلان

وتجاوزاً عن الخطل والصمع، أي عن كبر الأذن وصغرها، فإن الأصمعي كان أديباً ذائع الصيت والذكر، له عقل راجح، ونفس طويل، وقريحة سديدة!، ومما يروى عنه، أنه كان ناقداً لاذعاً، لا يعجبه العجب، ولا صيام رجب، ولا تأخذه في الحقيقة لومة لائم، أو بطشة باطش!.
وذات مرة جاءه أحد مدعي الشعر، وهم كثر في كلِّ زمان ومكان، جاءه طالباً منه أن يستمع إلى قصيدته العرمرمية، فقال له الأصمعي: هاتِ ما عندك، وأصحابه من حوله يشنفون آذانهم!!.
انطلق الرجل مبحراً بقصيدته الحلمنتيشية، التي كركبت الدنيا وقلبت موازين الشعر من ساسها لرأسها، فقد كانت بلا جمال ولا مقال، وبينما هو منهمك في الإلقاء مزبداً وملوحاً بيديه، يتفطر عرقاً وعناء وثغاء، وكان الأصمعي أيها الأصدقاء يهز رأسه قائلاً: أحسنت، أحسنت، استمر، تابع، استمر يا رجل تابع بسرعة، وأصحابه منه حوله يتعجبون!، وبعد أن فرغ الشاعر العظيم، من قصيدته البكماء العصماء الشمطاء، انقلب إلى أهله مسروراً، فقد أجازه الناقد العظيم!.
أما أصحاب الأصمعي المحيطون به، تعجبوا من هذا التصرف غير المعهود من أديبهم، فكيف أعجبته هذه القصيدة البالية، التي لا تشبه إلا خرقة شربت كثيراً من ماء آسن حتى ثملت؟!!.
تبسم الأصمعي قائلاً بمرارة وحرقة: يا أصدقائي وأصحابي، لا تعجبوا من أمري، فوالله لو بقي هذا الكلام في جوف ذلك الرجل لقتله: إنه سمٌّ زعاف، وأردت أن أخلصه من سمه، ليس استحساناً به، بل رأفةً بهذه الحياة!.
وربما هذا الذي يحدو الناس في هذه الأيام إلى التصفيق والإعجاب بالرداءات السائدة، التي تتواكب علينا من جهاتنا الخمسة، ليس استحساناً وإجازة لها، وإنما من باب الرأفة بالحياة، فلو بقيت هذه السموم، في صدور أصحابها؛ لقتلتهم!.
لكن إلى متى نبقى نتعامل مع السموم المبثوثة والرداءات الطاغية طبقا لنظرية الأصمعي: والله تعبنا؟!


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة