الخميس 2024-12-12 08:23 ص
 

استعادة محمود جنداري: الكتابة الضد وظاهراتية الوعي

10:30 ص

الوكيل - يضعنا القاص والروائي محمود جنداري امام فضاءات مفتوحة في النظر للوظيفة السردية، اذ تتبدى اسئلة هذه الوظيفة وكأنها نزوع للتجديد والتجريب، مثلما تبدو الاقرب الى تلمس انشغالاته الوجودية والنفسية، تلك التي تتعلق بوعي جنداري لهاجس التجريب.اضافة اعلان

ولاحساسه بان الكتابة تحولت الى نوع من الوعي الظاهراتي المضاد للتاريخ، الوعي الذي يستعيد العالم من خلال الاسئلة الاستعادية للذات، والوعي بوجود هذه الذات كقوة مولدة، قوة تلصص ورؤيا، قوة يمكنها اصطناع المجال الذي يمارس فيه القاص السارد رؤيته للوجود، وللانسان، وللتاريخ بوصفه نصا، لذلك حاول جنداري ان يؤسطر هذه الرؤيا، وان يقدمها بوصفها عملية كشف وحفر وتشفير، فبقدر نظرته المراوغة للوجود، والذي لايقدم عنه صورة مثالية، فانه يصطنع وعيا متعاليا، وعيا حادا، وعيا تسكنه الكثير من الحمولات الدلالية لمواجهة ازمة التاريخ وازمة الانسان فيه، وازمة علاقاته الشوهاء بالسلطة، أي السلطة التي تضعه ازاء المتاهة، والنفي، او التي تحرضه بدافع المواجهة على التمرد، والكتابة بوصفها تمردا، تلك التي لها مجالها العلائقي، الوجودي، وبنيتها السردية القائمة على اساس استحضار فعالية التخيل في المكان والزمان، وعبر اصطناع الشخصية السلبية والايجابية، الثورية والعاطلة، او الشخصية النامية او العاجزة، بما فيها الشخصيات التاريخية والاسطورية التي يتحدث عنها جنداري بوصفها شخصيات مسحوبة للحاضر، تلك التي تتمثل اقنعة او عتبات للاستغراق في الكشف تزامنا او تباعدا، او ارتهانا لمقتضيات الزمن السردي ولفضائه الدلالي (لان الغرض ليس السردية من حيث هي عرض لاحداث عفا عليه التاريخ، وانما لاستحضار القيم الاتعاظية من خلال التداخل الزمني، واختراق التاريخ بالتلاقي بين الموجود والسابق في الوجود، والآتي في الوجود)1
هذا الارتهان ارتبط باغتراب القاص الوجودي عن التاريخ، مثلما دفعه باتجاه استقراء التحولات التي وصلت اليها تقنيات لكتابات السردية في القصة والرواية، والتعالق النصوصي مع التاريخ والاسطورة والحكاية’، والذي قاربه القاص بوصفه استشرافا لنص رؤيوي غير حكواتي، والذي يضع القاص امام كتابة داخلية، أي التداخل الميتاسردي، الذي يقوم على التداخل التزامني مع التاريخ، ومع الوثيقة، والسيرة، ومع التوظيف الاسطوري، اذ تتحول هذه الكتابة الميتاسردية الى مايشبه كتابة النص الذاتوي التعويضي الاشباعي الرمزي، والمائز بالمناورة التي تتيح له وضع وعيه المراوغ، في سياق اشتغالات الظاهراتي القصدي، والاستعادي الذي يصمم العالم في وعيه وليس في الوثيقة او التاريخ او حتى السيرة.
هذه المغايرة التي استشرفها جنداري، وضعته امام لحظة مفارقة، وامام لحظة وعي صادم، اذ هو المشغول بالمكان والانسان، بوصفهما علامات ازمة، مثلما هو المشغول بالتقنية السردية، التقنية التي تقوم على تفكيك البنية التتابعية الخطية للزمن، باتجاه بنية تزامنية متعالقة بالوعي، فضلا عن انشغاله ببنية المكان، المكان الخارج الى سيمياء وجودية، تسحب معها الكائن، والتاريخ، والسيرة، باتجاه ان يكون المكان هو عتبة قلقة لهذا الكائن، لانه المكان المهدد، المندحر، الطارد. وهو ما يعني ايضا ارتباطه بازمة الشخصية، تلك الخاضعة لتوريات قامعة، اذ تضعها خارج الالفة، بوصفها شخصية مازومة، محاصرة، مراقبة (شوهدت على مقربة من بابل، وعلى مقربة من الأنبار، وعلى شواطئ جزيرة دلمون / شوهدت في اغلب البحار والمحيطات والأنهار والمستنقعات التي تلحسها موجات المياه المالحة المندفعة من البحر السفلي . شوهدت وبداخلها ألواح من طين نينوى، منقولة إلى بابل ، ومن بابل إلى شروباك ومن ثم ارابخا : ألواح يقتعدها أنبياء وملوك مجانين وطواغيت من حجر).
هذه الصورة المشهدية القائمة على تقطيع خطية الامكنة، وخطية الزمان، ترتبط عبر وعي ظاهراتي بنوع من التواشج الذي يستعيد هذا التشظي الى اللكتابة، ليصطنع عبرها مجالا تعالقيا، تتناص فيه الاسماء والامكنة والازمنة مع بعضها، ولتضعنا امام (وحدة المنظور) الذي يستعيد فعل المشاهدة، من خلال تقنية وظيفة التزامن، ووظيفة الميتاسرد والميتاتاريخ، اذ ان خلخلة السرد والبنية الخيطية، يفضي الى استدراج الجملة الثقافية لتكون هي الجملة التعبيرية الجامعة، مثلما يدفع باتجاه اصطناع زمن لامحدود، قد يكون هو زمن القاص النفسي، او زمنه التخيلي الاسطوري، او زمنه التعويضي الرهين بازمة وعيه وارتيابه بالسلطة والتاريخ والوثائق.
هذا الوعي للوظيفة السردية، يضع القاص في سياق ان يكون هو (انا) السارد، او الحاكي، او المؤول، او ربما هو صاحب الاعتراف، لان هذا الاعتراف سيكون تطهيريا من جانب، وتبريريا من جانب اخر للتعرف على زمن السرد، وعلى هوية المكان المتخيل وسيرته( الان علمني كيف يقام الاعتراف، ساعترف لك وحدك، ساعترف باني سئمت من النوم، ونبذت المكوث في تجاويف الحقب التي تجري خلف بعضها مثل دلاء النواعير)
تحت هذا الهاجس تتلبس القاص الرغبة في التمرد والنفور، وتقصي الوجود خارج(تجاويف الحقب)وعبر ما يحوزه من تخيلات، تلك التي تدفعه باتجاه النظر عبر تبئيرات، لايمكن الاّ ان تضع القاص بوصفه رائيا، وكاتبا ومدونا لعالم مضاد للتاريخ رغم تواشجه معه كاسماء وظواهر. هذه الضدية الشيئية هي جوهر وعيه الضدي القصدي بظاهراتيته، وهي الباعث التي جعلت جنداري لان يكون احد ابرز القصاصيين الوظائفيين في القصة العراقية، فدائما نجد عند جنداري (فائض المعنى) كما يسميه ايكو، هذا الفائض الخارج عن التاريخ والوثيقة، والداخل في استغراقات الوعي، بوصفه هنا وظيفة استعادية لرؤية العالم، وللتلصص عليه..
انشغالات جنداري بهاجس التجريب، ليس انشغالا بريئا، فبقدر ماهو نزوع للتورية، وللتمرد على الواقع وعلى وثائقه وصوره، فانه ايضا نزوع لاستكناه محمولاته الرمزية، وللكشف عن انساقها المضمره، انساق ثقافة اليومي المثيولوجي، وثقافة المكان المؤسطر، وتشوهات الاضطراب النفسي لشخصيات واقعية وتاريخية، لكنها تتحول الى شخصيات عيادية تستعير الكثير من وجودها اللساني والدلالي من خلال شفراتها القائمة على سايكولوجيا الاعتراف، او الافراط في بنية التخيل، تلك التي مهدت هذه المعطيات لنشوء وعي جديد خرج على التقاليد الفنية للكتابة، وعلى وظيفة المنظور، اذ تمثلها القاص جنداري من خلال استدعائه( ىتقانات جديدة عبرت عن وعيه بالكتابة والتجريب الفني في تعرية الواقع والجرأة والغور في نسيجه، في في تقنيات مكنته من قول مايريد، لاسيما اشتغاله على التاريخ بشكل مكثف واضح، أي اختراق التاريخ من جميع جوانبه- ازمة امكنة، احداثا، ومعرفة متراكمة)2
هذا المعطى المكتنز بالوعي الاستعادي، يلامس في الكثير من معطياته ما يحدث من صور نقيضة في الواقع، وما يقابلها على المستوى البنية الدلالية للقص، اذ يستدعي القاص- لاغراض تبئير وعيه الظاهراتي- صيغا واساليب واستعارات تربط بين الكتابة والصورة، او تحيل الى التعالق بين الواقعي والسحري او الى اليومي مع المثيولوجي، التاريخي والمتخيل.
هذه الثنائيات لم تكن خارج المتن القصصي الذي يكتبه جنداري، اذ تبدت عبر مجموعة من التحولات الاسلوبية والبنائية، وعبر رؤيا القاص الرائي، القاص الذي يصنع له منظومة من الاشتغالات التي تتجه نحو(الكشف عن المخفي، وعن تفكيك المركز الثيمي للتاريخ والوثيقة) واعادة قراءة الواقع بوصفه وجودا استعاديا، اوبوصف كائناته وابطاله موجودات مؤسطرة، لكنها في لحظة ازمة دائمة، وهذا التلازم مابين البطل/الشخصية والازمة هو تعبير عن ازمة وعيه الشقي، الوعي الذي يعيش اشتباكاته مع اليومي المرعب بالخوف والاحساس بالمراقبة، ومع السحري الاغترابي.
في قصص مجموعته الاولى (اعوام الظمأ) لانجد الاّ قصص للعتبات، رؤى مبكرة تستشرف عالما يتحول، عالما مفجوعا بالخيانة، وباحثا عن وجوده وسط متاهة هذا الوجود ووسط صراعات لايملك فيها القاص الاّ التمرد على لحظته، والبحث عن سيروات للتخيل، تتعالق مع الرؤيا او الحلم، تلك التي اشرّت وعيه المبكر لاسطرة الواقع، مثلما اشرت ملامح نضج تحوله الفني القصصي، اذ بات هذا التحول انشغالا فنيا وفكريا للقاص ولمجموعة من القصاصين بوصفه تحولا باتجاه فضاءات التجريب، و نزوعا الى تبئيرات لمنظور الزمن، وللمكان، اذ يضع الزمن القصصي خطابه الواقعي امام زمن سردي تتراكب فيه الوظائف والرؤى، ويتحول منظوره الى وسيلة لاستعادة الزمن التخيلي بوصفه قوة مضادة ونقيضة لمواجهة الحاضر بكل رعبه ومتاهاته، وهذا ما يعكس وعي القاص للوظيفة المتغايرة لمفهوم الزمن في السياق السردي وفي السياق التاريخي ايضا، اذ يتمثله القاص عبر تقانات جديدة( عبرت عن وعيه بالكتابة والتجريب الفني في تعرية الواقع والجرأة والغور في نسيجه في تقنيات مكثفة في قول ما يريد، لا سيما اشتغاله على التاريخ بشكل مكثف وواضح، أي اختراق التاريخ من جميع جوانبه- ازمة، امكنة، واحداثا، معرفة متراكمة اشياء واسبابا) 3
وعي القاص محمود جنداري لمعطى الكتابة، ارتبط بوعيه للوجود، اذ تكون الكتابة وجودا، ويكون القاص شاهدا على تشكّل هذا الوجود في وعيه، وهذا ليس استغراقا في التجريب، او التجريد، بل هو جزء من تحولات مهمة عاشتها السردية العراقية منذ نهاية الستينيات، اذ دأب القصاصون العراقيون وبوقت مبكر على التماس مايمكن ان يعبّر عن تمظهرات الكتابة الجديدة، وان يقترحوا لها فضاءات مغايرة على مستوى الظاهرة، والشكل، والبناء، وعلى مستوى توظيف السياق السردي- مخيالاته ووظائفه وتوصيفاته- وبما يمنح هذه التمظهرات وجودا نصوصيا مفارقا، وان يصطنع لها اطرا فنية جمالية اسلوبية وتداوليا، وبالشكل الذ جعلها اكثر اشتباكا التحولات الاجتماعية والثقافية التي كثيرا ما كانت تتعالق مع التاريخ والنصوص، مع التحولات الداخلية التي بدأت تقترح وجودها بوصفها تبديات وتناصات وتأثرات.
هذه التمظهرات في السردية العراقية تحولت بالمقابل الى بواعث فاعلة، والى اسئلة تمس جوهر فاعليات القراءة والفحص والمراجعة والتأويل والى اثارة المزيد من الاسئلة الاكثر عمقا، خاصة في ما يتعاطى مع السمات التي بدأت تتموضع فيها هويات هذه المعطيات، على مستوى التحولات الفنية، وعلى مستوى فك الاشتباك مع الكثير من المرجعيات الايديولوجية، واستبيان جدّتها وفعالية وعي القصاصين ازاء محمولاتها النفسية والسياسية، وازاء طبائع تجريبها ومغامرتها التي تضمر اصواتا خبيئة ومواقف تستكنه الكثير من المسكوت عنه. فاذا اردنا ان نستعيد تاريخ المعطى الفني في هذه القصة لاجراءات البحث والكشف والمقاربة، فاننا سنجد انفسنا امام تحولات شاخصة، وامام فضاءات غامرة، تشبه الى حد كبير ما عايشته الظاهرة الشعرية، اذ اتسعت امام اشتغالات السردية العراقية ذات الاسئلة التي تبحث في الشكل والمعنى والهوية والتاريخ واصل الحكاية، او في تبديات العلاقة مابين القصة والحكاية، وطبعا فان استقراء مقاربات هذا الاشتغال ظل محسورا بسبب ضعف المرجعيات النظرية والمناهجية والنقدية التي لم تتأصل بشكل فاعل، لافي البيئة الثقافية المهددة والقلقة ولا في المؤسسات الاكاديمية المغلقة، وباستثناءات محدودة انعكست على الارهاص بالمغامرات الكبرى التي حدثت في اشكال ثقافية محددة، على مستوى الشعر ومغامرته التجديدية المعروفة، وعلى مستوى الكتابات السردية ونزوعها الواقعي التجديدي خاصة في قصص القصاصيين عبد الملك نوري الذي استشرف بوقت مبكر وعي التحول الفني في الكتابة القصصية، وقصص فؤاد التكرلي ونزار سليم ومحمد روزنامجي ونزار عباس وغيرهم.
المنجز القصصي للقاص جنداري في هذا السياق التجديدي كان اكثر تمثلا لشروط المغايرة والانفتاح، اذ بقدر اقترابه من التجريب، فانه كان على وعي تام بانماط جديدة من الواقعية ذات العمق الانساني، تلك الواقعية التي تاثرت في البداية بكاتبات موباسان وتشيخوف وغوغول الذين أنسنوا النظر الى الواقع والى الصراع والانساني والى طبيعة الشخصية القصصية، لكنها انشدت فيما بعد الى تجريبات الواقعية السحرية، والى التأثر بتقنيات القص السينمائي/ السيناريو، والبناء الكولاجي، او البناء التركيبي على مستوى التوظيف الدلالي والرمزي، وعلى مستوى توظيف البنية التزامنية للزمن، واسطرة المكان، بوصفه مكانا تعويضيا طهرانيا. وحتى شخصياته في مجموعاته الاولى، تأثرت الى حد ما بالمقاربة الواقعية، والتأثر بنماذجها الهامشية واليومية وعوالمها القلقة، من منطلق البحث عن سمات جديدة رؤى مغايرة لمفاهيم الزمن والمكان والصراع والشخصية، تلك التي وضعته عند انشغالات التجريب البنائي والاسلوبي ذي الاشتغالات التجديدية التي اسهمت في تشكيل الملامح الفنية للكتابة القصصية الجديدة، والتاثير في الطبيعة السياقية لانماطه على مستوى الصياغة والوظيفة واستثمار البناء الحكواتي والوعظي، اذ كان المنجز القصصي العراقي من اكثر الفنون السردية التزاما بالاطار الحكواتي او الوعظي، أي حيازته على البنية النسقية التي جعلته حامل رسالة اخلاقية واجتماعية الى جماعة ما، وليس تمثله لوظيفة داخلية تقوم على اساس الكفاية التي تشبعها وظيفته الاجتماعية ازاء تصوير مشكلاته العامة.
تظل تجريبية القاص محمود جنداري اثرا مفتوحا لفاعلية الكتابة، ولسحرية الرؤية التي تستعيد التاريخ الى الواقع لكنها استعادة التزامن، واستعادة تلك الرؤية التي يصطنعها الوعي، بوصفه وعي الظاهراتي الذي يجعل ذاته الرائية مركزا تبئيريا، وقوة مولدة للامحدود الزمني وللتشظي المكاني، وللشخصية التي تحاول ان تمركز العالم في كتابتها…

محمد احمد الخضراوي/ ذاكرة النص/ التأصيل والتشخيص/ مجلة كتابات معاصرة/ العدد 24/نيسان- ايار/1995
د. جاسم الياس/ التجريب في قصص مجموعة(مصاطب الالهة) للقاص محمود جنداري/ مجلة امضاء/ العدد المزدوج 1-2
ذات المصدر


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة