الخميس 2024-12-12 03:37 ص
 

‘الأيام السبعة للوقت’ لنوري الجراح: شِعرية تَلفّ حبلَ اللغة حولَ عنقِ البندقية

10:38 ص

الوكيل - عندما اتهم البعض الشاعر الفلسطيني محمود درويش بخروجه عن خط المقاومة في النصف الثاني من عمره الشعري، قال عبارة بليغة: ‘كل شعر جميل مقاومة، وكل شعر رديء يخدم الاحتلال’. اضافة اعلان

هكذا كان الشاعر يواجه رصاص البندقية بوردة الشعر، وقبح الاحتلال بجمال المعنى وفتنة اللغة، مُتجاوزا قصيدة المنبر التي تشحن قارئها للحظات ضيقة زمنيا، ثم تموت، أو تعيش في يَباس فسيح.
أستعيد هذه المقولة، في مرحلة زمنية صعبة يعيشها السوريون، الذين أطلقوا ثورةً حاول الكثيرون تحجيمها وتحويلها إلى مجرد صراع سياسي بين طوائف مسلحة، مرحلة كان من المفترض أن ترافقها قصيدة شاعر، لا تخدم ‘الاحتلال’ قياسا بالمثال السابق، بل تقاوم بدلالاتها وأبعادها ومفرداتها ودهشتها التي تصنع المفارقة في زمن أصبح الدّم فيه مجرّد ماكياج إعلامي يمكن لبعض قنوات الأخبار أن تزّين من خلاله نشرات أخبارها وتملأ أوقات فراغ العاملين فيها.
عديدة هي القصائد التي كتبها شعراء سوريون وعرب عن هذه الثورة، إلا أن منها قصائد كثيرة لم تكن بحجم الحدث السوري، ولم تستطع أن تلف حبل الشعر حول عنق البندقية. ولكن من بين ما كُتب، تبرز قصيدة ‘الأيام السبعة للوقت’ للشاعر السوري نوري الجراح، وهي قصيدة مطوّلة ذات طابع ملحمي، يهديها الشاعر إلى ‘رامي ورفاقه في الثورة السورية’، ترسم فسيفساء شعرية باذخة الجمال، تتخفف من كل الأثقال، لتكون حرّة كما يليق بثورة حرّة. تشتبك مع الواقع السوري، وتنجح في أن تُشبه الثورة أولا، ثم نفسها قبل ذلك.
تبدأ القصيدة بالسوال والإحتجاج بجملة تتكرر كلازمة ‘دَمُ من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر’.. ليتطاول بعد ذلك قمحها ويرى ارتجاف الهضبة! ولتتوالى المشاهد التي تعبُر القصيدة وتمرّ في كل ناحية منها.
في هذه القصيدة، تبدو عين الشاعر واسعة، وقادرة على ان تحدّق في التفاصيل، وتلتقطها لتوثقها في مشهد شعري لافت، يمكنه أن يلملم في مساحته كل ما يحدث على الأرض. هنا يستطيع الشاعر أن يوقف كل شيء، ليكمل هو قصيدته ‘قل للرصاص أن يهدأ قليلا ريثما يكتب الشاعر قصيدته ويفتح نوافذها ويحمل الآس في جسده المسجى’. وهنا أيضا، يلج الشعر أرض المعنى، فيُجمّل الخراب، ويفلح أرض الفكرة، ويزرعها فيحصد الفكرة البكر، وصفاء العبارة.
يبرهن الجراح في قصيدته على انحيازه للجمالي، في تصوير الحدث، بعيدا عن الخطابة والنبرة الصارخة كما هو المعتاد في القصيدة ‘الثورية’ إن صحت تسميتها. بالرغم من ذلك نجد أن القصيدة لا تخلو من صوت مرتفع، وإيقاع عالٍ، لكن على صعيد الدلالة، واكتمال الجملة الشعرية في مساحة إبداعية تحاكي ما حولها، وتحفر في ذهنية القارئ بعمق، لتحرضه على أمرين : الأول هو الاقتراب من الحدث/ الثورة والالتفات إليها والتفاعل معها، والثاني هو الغوص في شعرية يقدمها الشاعر على طبق الحداثة، ليثبت أن القصيدة الحديثة قادرة على استيعاب كل شيء، ومجاراة كل شيء أيضا، ثم التفوّق على ما مضى .
ومن اللافت للإنتباه، ان الشاعر في هذه القصيدة، كان يكتبها وكأنه الحاضر في كل حي ومدينة وناحية، متجاوزا تلك الجغرافيا التي تفصله عن وطنه، ليمنح القارئ بعدا مشهديا وأحيانا دراميا، يصور من خلاله ما واجهه الطفل ‘قالت طفلة كنتُ بلا عينين والآن صرت فراشة’.ثم الفلاح ‘قال فلاح لصبي كسرت رأسه على صخرة إنني أسمع رجفة الشتاء على ركبتي’. وكذلك الممثل والرياضي والشهيد، ثم الشاعر الذي ‘رأى أمه في السرير عارية ومطحونة الوجه’! كل شيء يعيش على الأرض السورية نجده مقيما في القصيدة، وهو ما جعل منها مساحة ممكنة تتّسع أكثر وتتقافز في كل أرض هناك.
بهذه الشعرية الطافحة، يتفوّق نوري الجراح، وينجح في اقتياد الشعر إلى أرض المعركة، ليقاتِلَ، ويكون الجندي الأول، القادر على المواجهة، بخفّة وإرادة عاليتين. مدركا أن الفن _وهو الشعر هنا_ يمكنه أن يحضر في كل حدث، بل وأن يشارك في صناعته وتأريخه، وهو الأهم. ألم تكن القصيدة العربية، همزة الوصل بيننا وبين تاريخنا الذي وثّقت حكاياته واستدعته في مناسبات كثيرة، ما كان لنا أن نعرفها لولا الشعر .
كأن هذه القصيدة أرات أن تقول إن الثورة ليست فقط مجرد بندقية، وهو ما قاله درويش أيضا ‘شاعر الثورة’ عندما أشار إلى أن الثورة ‘ليست بندقية، فلو كانت بندقية لكانت قاطعة طريق، ولكنها نبض شاعر، وريشة فنان، قلم كاتب …. وإبرة لفتاة تخيط قميص فدائييها’. وهو ما يثبته الجراح في قصيدته التي انكتبت لتقف في الصفوف الأولى في قلب المواجهة إلى جانب الرصاصة والإرادة والقلوب المقالتة.
في هذا العمل، نجد الشعر صاعدا على سلّم الاحتجاج ليكون ناطقا رسميا باسم القهر،. ونرى فيه وثيقة يمكن للمستقبل أن يحفظها لمن سيعيشه ويقرأه، ويبحث فيه عن ماضيه الذي شهد الثورة، ويرى كل ما كان بعينين واسعتين يمكنهما أن تبصرا جسدا مستريحا في طلقة الجندي كما تقول القصيدة .
‘الأيام السبعة للوقت’ حملت تاج الشعر في هذه المحنة الشعبية والثقافية، وأسقطت اتهامات كثيرة تحاصره، حيث الاعتقاد بغياب الشعر، ثم المثقف، وانسلاخه عن واقعه، لتكون في النهاية قصيدة تواجه الموت منفردة، بعفويّة طفل يقف أمام دبّابة لا تكف عن إطلاق نارها فوق عينيه .

شاعر وصحافي


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة