الجمعة 2024-12-13 01:49 م
 

الشيخ

10:33 ص

الموت حق وحينما يغشى بعض الرجال يجعلك تكتشف فجأة أن الفقيد بموته ترك فراغا شاسعا لم تكن لتلحظه في حياته ، وقد لا تسعف السنون القلائل بملء رجل يماثله إلا في أضيق الفرص وفي زمن شح بالرجال الذين لا يقف مطمع ولا غاية بينهم وبين قول الحق والكلمة الفصل . اضافة اعلان

في الأمس رحل عن عالمنا الصاخب رجل من طراز الشيوخ العتاق هو الشيخ سامي مثقال الفايز ، رجل اختلف معه كثيرون ، واتفق معه كثيرون ، ولكن لم يختلف عليه إلا القليل ممن لا يقرأون المشهد إلا بلغة أهوائهم أو حال بينهم وبين الحق عجزهم الذي يغطون عليه برمي غيرهم بما لا يليق بهم .
في ظل بحثنا عن رجال يقيلون العثرات ويغيثون الملهوف ولا يتبعون إحسانهم منّاً ولا أذى ،نستذكر « ابو محمد» حيث بيني وبينه رابط كان موصولا رغم فارق السن الكبير بيننا ، فحينما كان مبرّزا بشخصيته البدوية وتوفي والده الشيخ مثقال ابن فايز لم أكن كائنا مولودا على هذه الأرض ، ولكن الله يقدر الأشياء ليفتح الطريق أمام الرجال ليتعلموا كيف يكونون زعامات حق بين أهلهم ،فالزعامة والفروسية لا ترتبط باسم أو نسب ، بل بأفعال الرجال وانحيازهم للحق ومكارم الأفعال وجرأة الأقوال .
الشيخ سامي تنقل بشكل طبيعي بين مراحل الحياة على الأرض الأردنية فمن مولود على أرض بادية ،إمتطى بعدها مراحل التطور الطبيعي لحياة الناس حتى وصل الى ما انتهى عليه من زعامة و موئل للضعفاء ومحج لكثير من الناس من مختلف مشاربهم ومقاطنهم ، وكان آخر عهده قبل رحيله بعائلة من البادية الشمالية جاؤوا «دخالة» تنفيذا لإجراء عرفي غبي يسمى « الجلوة» ، وما كان منه إلا أن استأجر لهم عمارة من ثماني شقق لإسكانهم حتى موعد الصلح ، فيما لا تزال ثلاث وعشرون عائلة يناهز تعدادهم المئتين وخمسين نفسا من أشقائنا اللاجئين السوريين تسكن عمارتين أخريين في الجيزة تسلم رحمه الله مفاتحها وأسكنهم فيها وتولى هو والأجواد من ربعنا الإنفاق عليهم ، فرجّ الله كربهم جميعا .
«ديواني لا تبرد القهوة فيه حتى منتصف الليل» ، جملة قالها قبل أن يتوفاه الله بثلاثة أيام ، وأشهد أنه ملاذ الضعيف والعاني ، و القاضي العشائري ، الذي يحتج عنده الخصوم ، ويخرج من ديوانه الفرقاء كل راض بالحق ، وحينما رضخ لابسو العباءات الجدد للضغوط من أجل تمرير القانون المتفرع من اتفاقية «سيداو» والمادة الخلافية في تجريم مناهضي الإباحية حسب فهمه ، قام من المجلس المنعقد ، وترك «المبعوث» ورهطه دون خوف ولا وجل ، فيما بقي من بقي .
جالست الفقيد كثيرا ، وكان يتعامل مع الشاب الصغير كما يتعامل مع الشيخ الكبير ، ولهذا أثر في صقل الشخصية الاجتماعية تجعلها مثقفة في وعي الأجيال دون استصغار أو احتقار للآخر ، وكان في كثير من الأحايين كلما تحدث استشهد بحوادث وأقوال مأثورة عن عمه « الشيخ ظاهر الذياب » الذي كان اسطورة القبيلة بعد وفاة شيخها مثقال ، فقد رافقه في العديد من الحوادث التاريخية ، وكان حاضرا معه في كثير من المواقف الوطنية ، ولك أن تسمع أقوال من عرفوه بأنه « الفقيد » لأن كثيرا من الرجال لا أحد يفتقدهم وهم أحياء بيننا .
هذا الخريف أشهدنا على سقوط محتوم لورقة كبيرة من ورق شجرة هذا الوطن ، ونحن لا نخشى على شجرتنا من أن تعرى لأن الأمل بالله وبالرجال أن تعود تينع الأوراق وتزهو برجال يعيدون الألق للشخصية الوطنية ، دون انتظار إشارة أو جائزة ، فهذه الأرض وإن أجدبت فإن البطحاء تنجب النجباء والجبال تنجب الرجال، وهذا الأردن ينجب رجاله من كل حسب ونسب ما بين جبل وبطحاء.
رحمك الله يا شيخنا دفعت ودافعت مجانا ، حينما قدم البعض فواتير خدماتهم .


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة