الوكيل - لعل المتعارف عليه كثيراً هو أن الراثي يمضي في ذكر فضائل الشخص المرثي إثر رحيله، فهو مديح شديد الإيحاء لميْت، لكن الجانب الجدير بالتذكير هو أن الراثي قد يلجأ إلى اعتماد الرثاء كيلاً لمديح ذاتي: ما إن يُذكر المرثي حتى يُستدعى الراثي، كما لو أن الراثي لا يشارك المرثي في مجد مختوم باسمه فقط، وإنما قد ينزُّه لأنه يتقدم باسمه عليه.
والراثي قد يرثي شخصاً أو جماعة أو مجتمعاً أو أمَّة، وبهذا يكون التنوع في الرثاء، إنما بالمقابل تكون مقدرة الراثي في انتقاء المسالك التي تعرّف به الجدير بالبقاء، أكثر من ذلك: ما يكون المتقدم على كل ما تقدَّم.
يدخل في هذا النطاق الشاعر والفارس، أو الفارس والشاعر الإسباني الوسيط’ خورخيه مانريكي1440-1479م’، والذي آثر كما يبدو وهو في فتوّة العمر أن يترك أثراً يعنيه شاعراً متبصّراً لما حوله وفي عصره المضطرب، أكثر مما يعنيه فارساً لأن ثمة الكثير من نظرائه، كما لو أنه آمن بمدى قدرة الكلمة في البقاء واستبقاء قائلها إن أبدع فيها.
ربما وفقاً لهذا التصور يمكن قراءة الكتاب المعنون بـ( خورخية مانريكي: شاعر عصره)، لمؤلفه جلال زنكبادي، تولد 1951- إقليم كوردستان العراق، والمقيم راهناً في أربيل، عاصمة الإقليم)، والذي يتقن أكثر من لغة حية، وقد صدر عن ‘ الدار العربية للعلوم- بيروت 2012′ في ’120ص’ من القطع الوسط، وهو يتميز بأهميته اللافتة: باعتباره يتعرض لعصر منقسم على نفسه وفي إسبانيا بالذات، ويسلّط الضوء على علاقة الكاتب بمجتمعه وفَورة الشعور بالقومية حينها رغم التطعيم الديني لها، واعتبار الكاتب مثقفاً ذا رؤية نافذة في زمانه’ ص 22-38-40…الخ’، ويتطرق إلى التثاقف القائم بين ما يذهب إليه الشاعر في مرثيته ذات الـ42 مقطوعةً، بالشاعر العربي الأندلسي’ أبي البقاء الرّندي 1204-1285م’، في القسم الأخير من الكتاب، دون الجزم في ذلك، سوى أن ما ذهب إليه حول تأثر مانريكي بالرندي لهو بمثابة السؤال الذي يطرق باب كل باحث معني بهذا الجانب’ص77′، حيث إن الرندي نفسه عايش اضطرابات جمة في زمانه وفتناً وتصارعات ‘ص72′..
في هذا الكتاب الصغير حجماً والأثير مكانةً، تتداخل المراثي والأمكنة والأشخاص واللغات والمصائر، حيث البحث عن الحقيقة وراء هذا الرعب المتمثل في الحروب وسفك الدماء والسعي إلى الأبدية شغل المبدعين كتاباً وفنانين، وقول الباحث( يلتقي خ. مانريكي في مرثيته هذه مع الشاعرين الشرقيين الكبيرين أبي العلاء المعرّي(973-1057) وعمر الخيام( ؟1021-؟1123) في طرح الحقيقة الأزلية المتمثلة بزوال وفناء الإنسان أمام جبروت الموت..ص26)، لا يعدو أن يكون تشديداً على حالة نفي لهذا الأمان أو الطريق الذي يستدرجنا إليه وسرعان ما ينعرج هنا وهناك.
بغضّ النظر عن مكوّنات هذه المرثية وأبعادها الاجتماعية والجمالية، فإن رهان الباحث عدا تطرقه إلى الكثير من الجوانب التاريخية والسياسية والأدبية والنفسية، هو على المستتر فيما ذهب إليه الشاعر، هو استمراره أبدياً.
الشاهد على ذلك هو التفاف الكثير من رموز الأدب الحديث، وفي الشعر كمثال حي حول اسمه، كما يذكر الباحث طبعاً ‘ ص40′، ويتقدم هؤلاء الشاعر الاسباني الكبير’ رافائيل ألبرتي’ وهو يثني عليه’ص40′، وحتى بالنسبة لنيرودا الشاعر التشيلي الكبير الآخر، والناطق بالاسبانية حيث يكتب أنشودة باسمه’ص41′، وما وجود أكثر من تمثال، والاهتمام به في آداب الشعوب الناطقة بالاسبانية، عدا ‘ بلده الأم’ والجائزة الشعرية السنوية التي تحمل اسمه وتعطى لأحد الشعراء المبدعين ‘ ص42′ إلا شهادة جلية على أن الأبقى هنا هو المبدع، أي الشاعر ضمناً.
في صحبة المرثية ومتتبعاتها:
يقول المترجم وربما من موقع كونه شاعراً أنه راعى في ترجمتها ( التوفيق بين حرفية المتن وروحيته، حيث توخيت تقديم ترجمة فنية ذات أقصى شعرية ممكنة..ص12)، وهذا يظهر بوضوح في طريقة الترجمة، منذ البداية:
نبّه النفْس الوسنى- أحْي العقل-واستفق، كي تتأمل- كيف تمضي الحياة- كيف يأتي الممات- صموتاً جداً..ص43.
أخبروني:ماذا سيبقى- من الوجه الجميل- ذي البشرة الملساء- ومن الخد الأسيل- حين تأتي الشيخوخة[ الشمطاء]؟!ص43.
وهكذا- بهذا الإدراك العميق- والأحاسيس الإنسانية السامية- وقرب زوجته، بنيه، إخوته وخدمه- أسلَم الروح لمن حباها إياه-فأسكنها في فردوس السماء- وإن يكن قد غادر هذي الحياة- فقد خلَّف أبلغ عزاء- بذكراه.. ص64.
أعني بذلك من خلال السعي إلى الحفاظ على إيقاع متداول أو موروث، عبر تشابه كلمات نهايات الأسطر، وإن كنت أجد أن ترك الأبيات طليقة دون هذا المستدعى بما هو سجعي أكثر استدعاء لذائقة الجمالي، خاصة وأن المترجم شاعر وله صلة وثيقة بالحداثي، أي التحرر من وطأة القافية أو الوزن المعتمد في القصيدة الكلاسية.
ولحظة الانتقال إلى التذكير بمرثية الرندي ذات الصلة بالأندلس ومجتمع الأندلس، يتداعى أكثر من تداخل وتشابه:
لكل شيء إذا ما تم نقصـــــان فلا يغرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دُول من سرَّه زمن ساءته أزمان ص78…الخ.
ما هو جدير بالتوقف عنده، وله صلة بطبيعة العلاقة مع الكاتب من قبل الجهات الناشرة،ما أشار إليه المترجم، وهو أن من المتفق عليه أن تُنشَر هذه الترجمة في القاهرة، ضمن’ المشروع القومي للترجمة’، بعد اتفاق مذكور معه، سوى أن الجهة المتفَقة معه تخلت عن ذلك، بحجة أن المرثية منشورة من قبل مترجم آخر، هو’ البمبي، سنة2005، ويقدّم أكثر من حجة تأكيداً على عدم مصداقية ما تقدم، كونه ترجم المرثية باللغتين الكوردية والعربية ونشرهما قبل ترجمة البمبي سنة 2002، عدا عن ذلك، يتساءل: لماذا جاءت الموافقة أصلاً وثمة علم بذلك، ثم ما الضير في وجود أكثر من ترجمة، إن تم التسليم جدلاً بما تقدم، وثمة نشر لأكثر من كتب مترجمة في هذا السياق، عدا عن أن ترجمة زنكبادي محاطة بدراسة حول الشاعر، وليكون في ذلك ما يذكّر المترجم بما هو مؤسف قوله قبل ذلك( لقد أدركت لاحقاً كم كنت ساذجاً غير مدرك لمدى الفساد الثقافي المستشري في مصر، ناهيكم عن التعامل غير السوي لأصحاب القرار السياسي( وأكثرهم من ماركة كوبونات النفط !) مع المبدعين العراقيين( إلا الذين تعفلقوا وتقومجوا وناوأوا العراق بعد سقوط النظام الفاشي- الشوفيني…ص88).. ولاحقاً ثمة نسخة مصورة عن ترجمته للمرثية تخص أسبقيتها على ترجمة البمبي..
إن هذا الكلام: البيان يدخل في عِداد منغّصات الكاتب ومجتمع الذين يتعامل معهم، وطبيعة التصورات التي تحدد العلاقات بين وبينهم، كونهم لا ينفصلون عما هو اجتماعي وسياسي وقيمي، ويكون له تأثير نافذ في تكوينه على صعيد تلقي الأثر ورد الفعل…
على خلفية مرئية للمترجمة:
كما أوضحت منذ البداية أن الراثي يقف على مسافة من الآخر وهو ينظر في أمر نفسه، وبالتالي، فإن ثمة استراتيجية واسعة المدى تخص الطرق التي يسلطها الراثي عبر مفردات منتقاة أحياناً لجعل المرثي في الخلف منه، ومن جهة أخرى حين تخص المرثية أمَّة أو شعباً أو مجتمعاً، فإن تقدماً ملحوظاً يسمي الراثي في نصه، وهو أن الرؤيا لديه تعلِم من يعلم بموقعه، وأنه فيما يقوم به إنما يعلو الكثيرين مقاماً بمرثيته، وتلك هي إرادة القوة التي يمتلكها دون سواه.
لكن هل يمكن لباحث في مرثية شاعر هنا أن يكون هو الراثي ضمناً، أي تكون مرثيته مستترة؟ لأن الجواب بالرفض لا يضعنا في أصل المشكل، بقدر ما ينأى بنا عن حرَفية الموضوع، وتحديداً من جهة الذي يسعى جاهداً إلى الإحاطة بالمجتمع المأزوم أو المناخ المتلبد للراثي، ومن خلال طريقة المقاربة الكشفية أو جمالية الحِداد، لنصه.
جلال زنكبادي كاتب وشاعر كوردي عراقي، متنقل بين أكثر من لغة: الكوردية’ وهي لغته الأم’، والفارسية، والانكليزية، والإسبانية، والآذرية، له أكثر من نشاط في حقل الكتابة والترجمة والثقافة وغيرها، له أعمال شعرية وروائية وترجمات مختلفة وكتابات لها صلة بالواقع الكوردي والأدب الكوردي…الخ.
لا يظهر أن جلال زنكبادي، وهو المعتبَر من الجيل الرافض للكثير مما يجري مؤسساتياً، على وئام بمحيطه، بقدر ما يكون أقرب إلى ‘ اللامنتمي’، إن جاز استدعاء’ ملهِم’ كولن ولسن هنا في ‘ اللامنتمي’ وما بعده..
في بنية الكتاب ثمة حضور طيفي رحَّالة للمترجم والباحث في شخص واحد، أي كما لو أنه لم يقم بما قام به إلا لأنه استشعر حضوراً رمزياً للآخر في وجدانه، وكأن المرثية مرثيته، كأن هذا المرئي أمامه ومن حوله وهو في حرصه اللافت عليه يوشك على التداعي، وهو لم يزل في أوان تشكيله مجتمعاً وكياناً قومياً وثقافياً، وكل ذلك يترجم مدى التفاعل مع الأثر المترجَم !
جلال زنكبادي في الظل، وهو موصول بكليته بالنور، حيث تعرّف به لغته، وأكثر من لغة يتكلمها، وما يعتبره مكانته التي تنسَب إليه على صعيد الجهد الذاتي، وله في هذا المنحى ما يثيره من الداخل، ما يعمّق صلاته بما هو كارثي، وإن كان شديد القرب من مجتمعه وبني جلدته، ولكنه أصعب من أن يحاط به جهة الانخراط في لغة اليومي المستهلكة.
ربما في هذا الاستشراف تبرز متعة الكتاب وطرافته: التعريف بمرثية ومن يكون الراثي والمديح الضمني الذاتي له.
التعريف بالقريب من الراثي الآخر: الرندي، واستمراره في الزمن وها هو حضوره بيننا كما لو أن المعرَف يعرَف به.
التعريف المصاحب بالباحث، حيث مرثيته مستخلصة ممن يكتب عنه أو عنهم، عبر تمرير عبارات أو أوصاف، وما في ذلك من تنبيه إلى أولي أمر المجتمع، بلعبة الثقافة والانخساف الرؤيوي فيها.. وفي الليلة الظلماء يفتقَد البدر!
باحث من سوريا
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو