الأحد 2024-12-15 03:12 م
 

تعثر التاريخ

10:35 ص

ليست وحدها الحركات السياسية الإسلامية تعاني العزلة عن التاريخ، بل تشاركها نخب أخرى تنافح عن قيم لا تمارسها، وفوق ذلك يستمر غياب الناس والمجتمعات ونشعر في كل مرة بفشل مرير في بناء موقف من حركة التاريخ والأحداث لافتقاد الناظم المشترك ولافتقاد القدرة على التوافق، كما هو الحال في الاختلاف وأيضا لافتقاد أرض المعرفة التي يمكن أن نشيد عليها بناء في معمار العقول قبل معمار الأوطان. اضافة اعلان

لا يمكن أن نكذب طويلا على أنفسنا وعلى الناس، فالمشهد اليوم أكثر تعقيدا وسوءا وتجاوز زمن الهجمات الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ثمة دورة تاريخية من الانحطاط تمر بها المنطقة غير مسبوقة منذ أكثر من خمسة قرون، ويبدو أن أجيالا قادمة سوف تدور في دورة الانحطاط إلى أن تستوي وتنضج بنى أخرى، فالتاريخ يتعثر من جديد في هذا الجزء من العالم.
المشاهد المتكررة اليوم ترسم صورة قاتمة وصادمة ليس لمستقبل الدولة ككيان سياسي، بل للمآل الذي سيقود إليه تحول الدول إلى كيانات سياسية عاجزة أو شبه فاشلة، وهذا المآل يرتبط بالقدرة على استمرار الحياة في هذا الجزء من العالم في ضوء فشل التنمية وما ستعكسه نماذج الصراعات الراهنة والقادمة من تحولات قاسية على نوعية حياة الأفراد والمجتمعات. فيما يبدو أن فرصة ظهور الدولة الوطنية الديمقراطية على المدى القريب والمتوسط محدودة، فلا توجد أدلة في سياق التطور الاجتماعي والسياسي تذهب في هذا الاتجاه على مدى ثلاثة عقود قادمة على أقل تقدير.
على الرغم من حيوية الشعوب العربية التي أدهشت العالم قبل خمس سنوات في قدرتها على تحريك البحيرات الراكدة، وخلخلة الأرض تحت الأنظمة السياسية الفاسدة، فإننا نقف بعد كل هذه السنوات عند حقيقة ماثلة تشير بوضوح إلى أننا أكثر الشعوب قدرة على إعادة إنتاج الاستبداد والفساد؛ إن حالة التشوه التي مرت بها المنطقة، لا تقتصر على شكل الدولة السياسي، ونظمها السياسية وتسلطها؛ بل نالت المجتمعات العربية أيضا. ومن دون الاعتراف بأزمة المجتمعات العربية؛ بأبعادها السياسية والثقافية، فإنه لا يمكن إنقاذ الدولة الوطنية العربية، أو بناء التنمية والتحديث.
لا يمكن أن تفضي التحولات العربية الراهنة إلى مصير مشترك أو متشابه في الأقاليم العربية، فعلينا أن ندرك أن ثمة تفاوتا وتباينا واضحين بين هذه الأقاليم في حجم الأزمة وعمقها وفي موقف المجتمعات منها، كما هو الحال في التطور الاجتماعي والسياسي، لذا فلا يوجد سيناريو واحد مشترك بل ثمة سيناريوهات عدة وثمة مصائر مختلفة منتظرة.
إن السؤال العربي في زمن التحولات غير المسبوقة، أي سؤال تعثر التاريخ في هذا الجزء من العالم، يحفر عميقا في الثقافة العربية المعاصرة وفي البنى الاجتماعية، وفي مدى قدرة هذه الثقافة على بناء مواقف جديدة واتجاهات صديقة لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية التي تحسم الخلاف على القيم وتتصالح مع التاريخ ومع الحاجة إلى التغيير. في العالم العربي المعاصر لا توجد دول عميقة، لا تصدقوا هذه الكذبة، فالكيانات السياسية الهزيلة تذهب ويذهب معها كل ما جاءت به في رمشة عين، لكن ما يبقى هو الراكد والمتحفز في حياة الناس في ثقافتهم التي غرستها عوامل تاريخية طويلة ومدد من التجهيل والفقر والعوز والمسكونة بالخوف والوهم ورفض التغيير والشك والريبة والفردانية والانغلاق، وهذه هي قيم الممارسة السياسية العربية المعاصرة تمسك بالتاريخ وتشد به إلى الخلف منذ عقود طويلة، كأن ثمة أثقالا في قدمي التاريخ كلما حاول أن يتململ تعثر وانكب على وجهه.

 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة