الثلاثاء 2025-03-04 10:15 ص
 

حين يكون الكاتب مملكة الثقافة

02:27 م

الوكيل - للإنسان علاقة وطيدة مع المكان، قد تكون علاقة حب أو ألم، تعلق أو نفور ويكفي أن يسأل أي منا من حوله أين يرغب ان يعيش، وهل يحب المكان الذي يعيش به كي تنهال الإجابات، لأنه سؤال يمس الذات الدفينة لكل منا.اضافة اعلان

ولكن علاقة الكاتب بالمكان هي العلاقة الخاصة جداً، فبعض الكتاب لا يكتب إلا في مكانٍ محدد، بعضهم يتوقف عن الكتابة حين يسافر لمكان ما، وبعضهم تلهمه المدن بل والقرى وربما القفار.
من المدن التي حصلت على امتياز رغبة الكتاب بالحياة بها باريس ونيويورك، كتاب ‘باريس كانت لنا’ (Paris was ours) للكاتب بينلوب رولاندز، يوضح هذه الصورة ؛ لقد جمع الكتاب حوالى 32 شهادة شخصية لكُتاب قرروا أن يعيشوا في باريس من شتى أنحاء العالم، منهم من أمريكا- كندا- بريطانيا – العراق ـ ايران- وكوبا وغيرها . بعض ما ورد في شهاداتهم أن باريس تنتمي لكل شخص بطريقة مختلفة، وأنه في باريس يبدو أن طعم الأشياء مختلف وأن باريس غيرت حياة هؤلاء الكُتاب، ويجدون بها الإلهام المنشود. أما المدينة الأخرى شديدة الجاذبية للكُتاب فهي نيويورك مركز الحياة الثقافية في أمريكا بمسارحها وبكونها أول مدينة أمريكية وُلدت بها الفنون الأفريقية السوداء، وبالأعداد الكبيرة للمهاجرين من كل دول العالم وبكونها مركز صناعة الموسيقى الأمريكية بكافة أنواعها، وحالياً تبدو نيويورك مركزا عالميا لسوق الفنون، بمتاحفها ومسارحها، وهي ثاني أهم مدينة أمريكية لصناعي الأفلام بعد هوليوود. أما عن الكتب فنيويورك هي أول مدينة وُجدت بها الكتب الكوميدية منذ عام 1930. حتى أن إدارة الشؤون الثقافية في نيويورك هي الأكبر من بين جميع الولايات الأمريكية. وبالطبع تبدو هذه المدينة بشوارعها الواسعة والتنوع السكاني الواضح وبناياتها الشاهقة مدينة مُلهمة للكُتاب لاحتوائها على تنوع انساني ثري وملحوظ ولأنها تجاوزت محدودية العروق والأديان بل والطبقات أيضاً.
وهناك موسكو، بمظهرها المحافظ ومقاهيها القديمة وأبنيتها الأثرية والتي تبدو لشدة جمالها كلعب أطفال وليس أبنية حقيقية، ولكن موسكو لم تكن محط أنظار الكتاب من كل دول العالم ولكن اقتصرت أهميتها على سكانها المحليين أو الكُتاب من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً .
أما على الجانب الشرقي، فالمدن الثقافية العربية تخضع دائماً للتحديات السياسية، تتقدم ثم تتراجع، تعلن هوية ما لها لعام حين تُختار كمدينة للثقافة ثم يختفي ذكرها ؛ ولكننا لا نجد مدينة محددة في الوطن العربي تحمل مزايا وصفات وامتيازات مدينة ثقافية عالمية، بمسارحها، بمعارض الفنون، بالموسيقى الشرقية الأصيلة، بإستقبال الكُتاب من كل بقاع العالم، بدعم مالي من مشاريع استثمارية للحياة الثقافية مثلما يتم ذلك في مدينة نيويورك، بل تتناثر معارض الكتب بين الدول العربية وبأوقات متفرقة من السنة، ويكاد ينعدم وجود مسرح خاص بالأطفال له شهرة عالمية يقدم عالم الطفل عبر عروض رفيعة المستوى للتعريف بالطفل العربي.
لذا نجد أن الكاتب العربي يختار مدينة ما يحبها، مدينة قريبة إلى روحه وقلبه ولكنها ليست بمواصفات مدن ثقافية عالمية حيث يكون له وجود وانتماء والهام ومجتمع كامل يتخاطب معه ويشعر بأن له هوية اخرى تختلف عن جواز سفره ؛ لأننا نفتقر لهذه المدن ذات الصفة الثقافية البحتة، هذه المدن التي تجعلنا ننسى الحياة اليومية وتصحبنا معها إلى عالم الجمال، جمال الأماكن، المتاحف، المسارح، الموسيقى الأصيلة، الكتب، البنايات الشرقية، مدينة ذات هوية، ذات هدف ومدينة تقدم نفسها بكل الجمال، بكل الانتماء النفسي والروحي ؛ فهل تعجز كل الأموال العربية على أن تؤسس مثل هذه المدينة التي كانت كذلك فيما مضى تتمثل في بغداد والقاهرة أو دمشق؟
الثفاقة ليست شيئا كماليا، وهي لا تقتصر على الكاتب، بل هي حاجة أساسية في روح كل انسان، حتى الشخص الذي يقول عن نفسه بأنه ليس رومانسيا يرغب في أن يكون جزء من هذا العالم الثقافي شديد الجمال، لأن هذا العالم لا يقتلعك من عالمك اليومي بل يُغريك بأن تترك كل مشاغلك، كل همومك على باب متحفٍ ما، أمام أوراق كتابٍ ما، أو حين سماع مقطوعة موسيقية شرقية بألحان الماضي الجميل.
الكاتب الحقيقي لا يكتب عن نفسه فقط، بل يكتب عن الأماكن من حوله وعن الأرواح والنفوس والقلوب التي تسكن هذه الأماكن، ولابد أن يحرص الكاتب على إيجاد الجمال من حوله لأنه هناك من سيقرأ له، لذا لابد أن يكون الجمال العنصر الأساسي فيما يكتب حتى ولو كتب عن الألم. والمكان يؤثر في الكاتب ويمنحه مساحات من الإبداع كما أنه قد يسلبه كل الإبداع ؛ وبعض المدن العالمية تمنح إقامة مجانية للكتاب المشهورين كي تضمن أنه سيكتب عن مدينتهم وعن حياة هذه المدينة لأن الكاتب يموت ولكن ما كتبه لا يموت، فهو يُخلد جمال المدينة عبر ما يكتب .
ومن ناحيةٍ أخرى، إذا كان الكاتب صاحب موهبة أصيلة ومتألقة، فلا يهمه المكان ولا الزمان، لأن الكاتب صاحب الرؤية النيرة يستطيع أن يتجول في كل الأماكن عبر الخيال والشعور والفكرة، لا يمكن لكل كاتب أن يرحل لمدن ثقافية عريقة كي يكتب، ولكن أي كاتب يرى العالم عبر البصيرة وشفافية الروح يستطيع أن يتجول في كل الأماكن، ويكفي أن يجلس مع ورقته وقلمه كي تبدأ رحلاته مع كل الوجود وليس في مدن الثقافة فقط، وتتحول مدن الثقافة بالنسبة له إلى انعكاس لعوالم موجودة أساساً في شعوره، عوالم من الجمال، من المعرفة، من الإتساع الإنساني ومن التنوع الثقافي بأن يرى بأن كل ثقافات العالم تنتمي له وينتمي لها، ويكفي أن أجمل ما في الثقافة هي حرية الإنتماء هذه لأنها ترفض العروق والجنسيات والإنتماءات ولهذا تصدرت بعض المدن العالمية هذه المكانة في العالم، وكذلك لابد أن يكون الكاتب، بهذا المنظور واسع الآفاق وبرؤية انسانية أعلى من اعتبارات المكان والعرق، أن يرى انسانيته قبل أن يرى موهبته، أن يشعر بانتمائه للوجود بشموليته وليس بمحدوديته، ويرى الوجود كل الوجود بين ورقة وقلم، ساعتئذٍ يمكنه أن يؤسس ليس لمدينة الثقافة بل يبني في صدره مملكة الثقافة، فمملكة الثقافة لا تحتاج إلى أموال بل تحتاج إلى روح تنشد الكمال وتبحث عن الجمال في البشر والأماكن ثم أوراق وقلم، فينثر أفكاره ومشاعره على أوراق تتوجه للإنسانية جمعاء بل للوجود بأكمله، وحينذاك يستوي جمال الأماكن بجمال النفس، وتكف النفس عن البحث المُضني عن الإلهام لأنها حين تجده بأعماقها يصبح الوجود الخارجي لكل شيء مجرد مُكمل لعملية الإبداع الداخلية.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة