الأحد 2024-12-15 09:29 م
 

سيريل جافاري: "اليي ينغ" لا يقول لنا شيئا لكنه يطلق الحدس فينا

06:25 م

'اليي كنغ' YI KING (أو اليي ينغ Yi Jing)، هو النص المؤسس للحضارة الصينية وعماد فلسفتها. وقد صار اليي كنغ، اليوم، إرثاً للبشرية جمعاء. يُستشار كتابُ التحولات الصيني وكأنه كائنٌ حقيقي، ونحصل منه على أجوبة ذكية ذات الصلة المباشرة مع انشغال اللحظة. كل الأوضاع البشرية الممكنة ممثلة بـ 64 سُداسياً، وكل سداسي متكوّن من 6 خطوط. اضافة اعلان

بعض الخطوط تتحول، فتتيح لنا الانتقال من سداسي إلى سداسي آخر. أما الأجوبة فهي تقع ضمن التعليقات المرافقة لكل سداسي من السداسيات، ولكل خط متحوّل. قال فيه المحلل النفسي الكبير كارل غوستاف يونغ: 'كتاب اليي ينغ، من بدايته إلى نهايته كتابٌ يلحّ على معرفة الذات. لكنّ الكيفية التي يتم بها الحصول على نتيجة قد تفتح الأبواب لاستعمالات تعسفية ولتفسيرات خاطئة أو مفرطة، ولذلك فهي ليست موجهة للعقول الطائشة أو التي ينقصها النضج. فضلاً عن أنها ليست موجّهة لعقول المثقفين العقلانيين الجامدة. فهي لا تليق إلا بالعقول المهيئة للتأمل فيما تفعله وفي ما يحدث لها، وهي النزعة التي لا ينبغي خلطها بالاجترار المَرَضي'.
ويتساءل يونغ في حيرة 'كيف يمكن لعقل غربي أن يجهل عقولاً كبيرة، أمثال كومفيشيوس Confucius، أو 'لاو تسو'؟ Lao Tseu . أفكارُ المعلمين الكبار لها عندي قيمة أكبر من الآراء الفلسفية المسبقة في الفكر الغربي. كتابُ اليي ينغ كتابٌ يحمل أدلة ونتائج. لكنه ليس كتاباً سهل التناول. فهو يشكل عنصراً من عناصر الطبيعة، وينتظر منا أن نكتشفه. فالذين ينشدون معرفة الذات الكامنة والحكمة فهو كتابٌ ملائم ومفيد للغاية.'
اُعتبر كتاب (اليي كِنغ ) لفترات طويلة كتاباً للتنبؤ، لكنه في الواقع لا يكشف عن أي شيء لاعقلاني. إنه يكتفي فقط بأن يثبت بديهية لا يرفضها أي معتقد، ولا يناقضها أي علم، ألا وهي أنّ التحوّل هو الحياة!
أشكاله الأربعة والستون (السداسيات) التي تعبّر عن هذه الحقيقة الشمولية، مجسدةً في اليي ينغ، لا يُفترض فيها 'التنبؤ بالمستقبل'، لكنّ بنيتها والتعليقات التي ترافقها، المطبوعة بطابع الحكمة الطاوية والكنفوشيوسية يمكن أن تساعد أيّ واحد منا على إيجاد المعادلة المتناغمة بين المشروع الذي يهدف إلى تحقيقه وبين المجموع الذي يندرج فيه. على هذا النحو يصبح اليي ينغ أداة عصرية للبحث والتقصي، في النشاط اليومي وفي معرفة الذات سواء بسواء.
وتجدر الإشارة إلى أن اليي ينغ، على عكس المقولة الشائعة، يوضح لنا أن المظاهر ليست خداعة بل تكشف عن حقيقة كامنة. المظاهر لا تخطئ لكنّ تفسيرها هو الذي قد يكون خاطئاً، لذلك وجب معرفة تفسير الظواهر من أجل اكتشاف الحقيقة.
قام بترجمة هذا الكتاب إلى الفرنسية الباحث الأخصائي في الكتاب الصيني 'اليي يِنغ' سيريل جافاري Cyrille Javary الذي يرفض التأويلات الشائعة عن كتاب التحولات الكبرى التي تجعل منه كتاب طلاسم سحرية تتيح لنا التنبؤ بالمستقبل. فهو يفضل التطرق للحدس، لكن الحدس بمعانيه ودلالاته الصينية.
في هذا الكتاب يوضح جافاري أن كلمة 'صدفة' في اللغة الصينية 'يمكن أن تكون مرادفة لكلمة تزاوج (أو مزاوجة)، وأن الرمز ليس كما هو عندنا قطعة من النقد نُطلقها في الفضاء بل هو عصفور يحط على أحد الأغصان'. فما الذي يحدث لو ترجمنا كلمة 'حدس' بالمعنى الصيني إلى الفرنسية؟ ويجيبنا جافاري' لنقل أوّلاً أن إيثيمولوجية (اشتقاق) هذه الكلمة، سواء في الفرنسية أو في الصينية، تردُّنا إلى العين. ففي اللغة الفرنسية، 'الحدس' كلمة تأتينا من اللاتينية 'اين' in + tuitere، أي بمعنى 'نظَر بإمعان نحو الداخل'، أو 'وضَع عينَه على...'، ومن ثم معنى 'الحماية'. وهذا المعنى يمكن أن ينحرف نحو كلمات مثل مُعلّم، أي إلى فكرة التعليم - بالإنجليزية tuition, teaching. ففي اللغة الصينية كل الحروف التي تتحدث عن الحدس تتشكل من مخرج ذي حدّين binôme يظل الحرف الأول فيه هو نفسه: العين + خط بدون سهم، أي في الوقت نفسه الشخص الذي يرى العينَ وما تراه العينُ في آنٍ. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النظر، في رأي الصينيين القدامى هو عبارة عن شعاع تبثه العينُ لكي يضرب الشيءَ قبل أن يعود (يرتد) إليه (على غرار رادار الخفافيش). وهو ما نلمسه من خلال هذا المثل الجميل 'إن جمال 'شي زي' Chi-Ze يكمن في عين من ينظر إليها (أجمل النساء في التاريخ هي شي زي Chi-Ze). ومن هنا فإن هذه العين، متبوعةً بهذا الخط، ستحمل معنىً مجازياً: مستقيم (مقابل مُنْحَنٍ)، تقويم، تصحيح، صحيح، مباشر، طبيعي، بدون لف أو دوران. ففي ترجمة كلمة الحدس في الصينية هناك إذا مبدأ الإدراك الحسي المباشر. وهنا ينبغي القول إنني ألتقي مع الفيلسوف برغسون الذي لفتت انتباهي فيه إحدى المقاطع في كتاباته حول التحول فتأملتها طويلاً، حيث يقال إن الحدس نوع من المودة بين الشخص وبين الشيء الملاحَظ. لذلك يبدو لي أن تناول العلاقة بين الحدس وبين ممارسة اليي ينغ، بهذه الكيفية بالذات، أمْرٌ مثمرٌ ومفيد'. ويعود جافاري لكلمة 'حدس' ليضيف 'إن هذا الإدراك المباشر من قِبل العين يمتزج بالضرورة بطابع آخر كلُّ شيء مرهون به، كما هو الشأن في الصين دائماً، ألا وهو: اليِن yin واليَنغ yang، أو أن إشارة العين ستُدْمَجُ في فعلٍ مثل 'توعّى'، أو 'وَجَدَ'، أو 'أحسَّ'، ويُشبِه هذا، المعنَى الذي نمنحه عادة لكلمة حدس في اللغة الفرنسية، أي ذلك الإحساس الدقيق الذي لا نستطيع التحقق منه رغم دقته، أو الذي لمْ يوجَد بعد، على الرغم من أنه يطفو بقوة على مستوى الوعي'. لكن ما سر تأثير اليي ينغ ونجاعته؟ 'الشعرُ الصيني، يقول جافاري، هو الذي جعلني أفهم السر. في هذا الشعر لا يستعمل الشعراء أبداً الاسم الشخصي. فإذا كان اسمك 'فيرلين' وكتبتَ في قصيدتك الشعرية 'عَبَراتُ آلة الكَمَان الخريفية تهدهد قلبي بحنين كئيب' لقال قراؤك 'ما أروع 'فيرلين'، لا سيما إذا كان الوقت خريفاً. أما الشاعر الصيني فسيكتب 'عَبَرات آلة الكَمان الخريفية تهدهد القلوب بحنين كئيب. القلوب وليس القلب! لكن أي قلوب تُرى؟ ويجيب الباحث: 'ليس الأمر مُهِمّاً. الخريف، مثلا، يحث على الكآبات الحالمة عند كل من يعرف كيف يشعر بها. فالشاعر الصيني الذي لا يضع ضمائر شخصية في قصيدته نراه يتيح للقارئ أو للمستمع بأن يعتنق أبياته الشعرية ويتناغم معها، وبأن يمنحها الحياة. وبالتالي فأنت تستطيع أن تمتلكها لأنها ليست ملكاً لأحد'. وهل الأمر كذلك في مجال الفنون التشكيلية؟ 'أجل، يقول جافاري، في اللوحات الصينية نجد الفراغ يملأ المساحات أكثر مما يملؤها، أي أن الفراغ هو الطاغي على فضاء اللوحة التشكيلية. فإذا نظرتَ إلى لوحة 'الجوكاندا' ستقول إنها جميلة جداً، وأن 'دي فينتشي' قد أبدع فيها أيما إبداع، وبأنك لن تستطيع أن ترسم مثلها مهما أبدعت. أما في لوحة صينية فإنك تجد من الفراغ ما يسمح لك بأن تدخل فيه، وبأن تُنهي العمل الفني بوحْي من قلبك وخيالك. الفراغ الذي تفسحه لك اللوحه الصينية يُحْدِث عندك 'لا-انفعالاً'، أي عكس الانفعال: فهو يُحدث شيئاً في داخل القلب. واللا-انفعال هذا، المتولد عن نظرةٍ، هو الحدس تحديداً. الفيلسوف كومفوشيوس في أقواله المأثورة الشهيرة لا نراه يقول أبداً 'إفعل كذا ولا تفعل كذا!'. بل هو ينير أمامك مسلكاً، ويدعوك لأن تسير فيه. فذات يوم وفيما كان في رحلة مع طلابه كانت المدينة التي كان ينوي التسوق فيها تتعرض لحريق مهول. وكانت المدينة التي تليها على مسار ثلاثة أيام، ولم يكن عندهم ما يأكلون. كان طلابه شديدي البأس، لكنهم ما لبثوا أن أصيبوا بالمرض. وأصاب أحدَهم الذعرُ فقال :'كيف يقع فرسان مرموقون مثلنا في مثل هذه المصيبة؟ فأجابه كومفوشيوس: 'بالتأكيد، يقع أناس مرموقون مثلنا في المرض، لكن الناس قليلي الشأن وحدهم هم الذين يتأثرون بمثل هذا الوضع، ولا يطيقونه!' لكن هل وظيفة اليي ينغ هي قول الحقيقة؟ 'لا، يجيبنا جافار، اليي ينغ لا يقول شيئا بل أنه يحرّك فينا شيئاً. إنه محرّضٌ. إنه يُطلق الحدس فينا؟'. وتوضيحا لهذه يضيف جافاري: 'لا شك أن وجهة النظر، ثم الأفق الذي يفتحهما اليي ينغ فينا هما اللذان يحثّاننا على اتخاذ الموقت الصحيح في الوقت الصحيح. ولذلك فهو 'فعّال'. فهو إذْ يعطينا رؤية مجردة، بلغته الثنائية يي/يَنغ yin/yang، وبواسطة تركيبة من الخطوط الصغيرة، عن الوضع الذي نكون فيه، فإنه يتيح لنا بأن نبتعد قليلاً عن هذه الوضعية لكي نحصل على رؤية صحيحة عن هذه الوضعية، ونجيب على الأسئلة كما ينبغي أن نجيب، تبعاً لخصوصياتنا الفيزيائية والذهنية والنفسية والدينية. إذاً، ليس اليي ينغ هو الذي يجيب بل نحن الذين نجيب. إنه أكثر محرّضي الحدس حساسيةً في الفكر الصيني على الإطلاق، لكنه ليس سوى كتاب. وكذلك الشأن مع الإبر الصينية في العلاج. إن الإبرة الصينية 'لا تفعل' شيئاً، على عكس الدواء الذي يؤثر. الإبر الصينية لا تفعل شيئاً آخر غير تحريض منطقة سيرورة الشفاء، الراكدة، التي تكون بركودها قد أفسحت المجال لهجومات الميكروبات'
مع كتاب سيريل جافاري صار لدينا مفتاح ضروري لفك أسرار الرسوم الدلالية (الكتابة التصويرية) وتحديث هذا الكتاب القديم. فهذا الكتاب المستوحى من نص صيني قديم يقدم للقارئ أجوبة واضحة ومليئة بالحكمة عن الأسئلة التي يطرحها عليه. لذلك يعتبر دليلا قيّما من الحكمة يساعد على فهم وإدارة التغيرات في كافة مجالات الحياة، كالحب والعمل والأسرة والصراعات، والتحولات...!
 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة