الخميس 2024-12-12 03:50 ص
 

غزالة

07:29 ص

مثل أنشودة تنتظر بيتها الأخير فتنظم أغنية، تتمدد ريم بين ورد وعدت أن تقفز من بين أوراقه حالما ينفض المودعون، تهرب إلى الشرفة المطلة على بيارات مرج بني عامر، تدخل البيت خلسة وتعد العشاء لأطفالها، وتوقد الشمع -كما أردفت- وتنتظرهم مع فنجان الميرمية المحبب.

اضافة اعلان


تلتقط الغزالة من الهواء الصامت نفسا طريا يقويها على احتمال دمع أمها بعد قليل فوق شعرها المرتب بعناية فائقة. وبعد قليل، ستمسد ابنتها على رأسها وتغني فوق أذنها ترنيمة النوم الأخيرة.


هي تحاول أن تغلق شفتيها عن الابتسام مطولا حين تسمع نشيد موطني من شتى الحناجر التي حوطت بصندوقها الملتف بالعلم الفلسطيني. غادرت ريم بنا وقع الحياة المستعر وحلقت في الأجواء كما كانت تتمنى وأكثر.


لمن لا يعرف لماذا ذرف العالم على غزالة فلسطين كل هذا الحزن، فليعلم أنه لولا وجودها وسط صخب ضجيج الاحتلال، تلعلع بصوتها وموسيقاها أغاني الفلكلور الفلسطيني، برتم وإيقاع عصري، لما تعرف آخرون ممن لا يعرفون عن القضية الفلسطينية إلا أخبارها المزعجة، على الزرع الأخضر في حنجرة الشعب، وحبه للحياة والمضي قدما نحو الفرح.


ريم البنا، زرعت في أصص عتبات البيوت والشرفات في أوروبا وأميركا وروسيا والدول العربية كلها، ريحانا وعطرة وأقحوانا بلديا، تمدد بحياء وجمال شديدين وتصور أغنيات عربية مفهومة المعنى بسلاسة صوتها وشجاعة عزمها.


لم تستسلم الغزالة لأي من محتليها البشعين؛ الاحتلال والسرطان. بل واجهت الاثنين بأسلحتها نفسها فربحت بدل المرة مرتين وثلاثا.


نعاها أصحابها وبكى على فراقها الحزين آلاف الناس ممن كانوا يعتقدون أن الغزالة أبية على الغياب. ظلت بأغنياتها وكلماتها المجبولة بحناء وطنها، تسكب الماء البارد على فكرة الرحيل من أي مكان وأي زمان. ومنذ اليوم الأول لمرضها أعدت العدة جيدا لمحصول جيد من الذكريات التي لن ينساها محبوها في العالم. كتبت شعرا كثيرا وجالت الأرض بالجيتار والقلائد الملونة والحطة الفلسطينية. أخذت تجوب الزمن وتصارع المرض بالصوت والوجود. فقدر لنا أن نستمتع ويستمتع فيما بعد أجيال قادمة بموسم البنفسج ونوار نيسان ومرايا الروح.


حين غادرت روحها الجسد الذي شبهته بالقميص الرث، أصبحت ريم في ليلة وضحاها أنشودة فلسطين بشهادة من يعرفها أو من يعجبه أن يمشي في الركب لو لم يسمع بها من قبل. رمت حزنا على شبابيك كل من فتح شاشته ذاك النهار وصارت في لحظة الاسم الأكثر بحثا على مواقع البحث. فلقصتها التي لم تنته بعد إنساني ووجداني كبير، عاصرت من خلالها آلام البشر وأوجاعهم، قبل أن تشاركهم الفرح ولحظات السعادة القصيرة.
وجهها لا ينفك يقفز مثل غزال شارد بين الأخبار والمنشورات والتعليقات، ويذكر كل من يشاهده كم كان مألوفا في يوم ما.


ربما كانت هذه إرادتها التي عملت طويلا كي ترسخها في أذهاننا، وقد نجحت!
فلترقد روحك بسلام يا ريم، ولتبق 'غزالة' سارحة في المرج.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة