الأحد 2024-12-15 09:37 م
 

في الريف الفرنسي: عن الأدب والنادلات وإتيل عدنان وموريس كاريم

03:41 م

الوكيل - -1أحس بجدوى الأطراف كلما مشيت، و أصغي لرنين اللذة في داخلي كلما وضعت قدمي على أرض بعيدة، جسدي أيضا يصير أكثر خفة و حياة في السفر. و الأهم أنني أتخلى و لو لبضعة أيام عن تلك النظرة الفاترة و الزمن الرخو الذي يتمدد على الطريق بين بيتي و المقهى الذي صار بيتا آخر لي في بلدتي الصغيرة و الخمولة.اضافة اعلان

وصلت متأخرا بعد يوم طويل في مطار الدار البيضاء صادف إضرابا للربابنة. كان ذلك قبل أربع سنوات ونصف. في السيارة التي كانت تقطع بنا الطريق الملتوية في الريف الفرنسي تحدثنا أنا و سائقها المارسيلي عن الطقس و الشعر و التاريخ و السياسية و لكنة الجنوب. أخبرني أنني سأقيم لدى عائلة تقيم هي الأخرى و سط بيت كبير من المشاعر العالية، كانت الساعة حوالي الواحدة بعد منتصف الليل حين كنت أخطو بهدوء داخل إقامة أوليفيي و إلين المحاطة بالأشجار، و بالحب أيضا.
أوليفيي عاشق كبير، ترك حياته الأولى بما فيها من ضجيج، ترك أيضا عمله في السينما، باع منزله في مونبيليي، أمسك بيد إلين و جاء ليعيش في لوديف، حيث تتيح له حياة الريف أن يحيا وفق مزاجه. مزاجه طفولي و حركاته و ابتسامته مشحونة بالبراءة، له ابنتان شقراوان: لوو و جولييت، و إلين لها أيضا ابنتان بملامح آسيوية: ساشا و لويز.
يصعب أن أنسى ذلك الصباح الرومانسي حين خرجت من الاستوديو لأتجه إلى مقهى لاهاوس وسط المدينة، هناك حيث يجلس أحمد راشد طوال النهار يكتب، وحيدا و هادئا مثل معلم يوغا، غير أن أوليفيي ناداني فوصلت إلى شرفته عبر الدّرج عابرا حديقته البرية، أحضر لي إبريق شاي مغربيا، و حدثني عن ولعه بالأشياء الصغيرة التي لا ينتبه لها الآخرون، هو الذي تعود على صنع ديكورات و مجسمات من أشياء مهملة، التحقت بنا زوجته و صديقة لها ووصلت بناته الواحدة تلو الأخرى مثل قطط تنفض عن فروها بقايا النوم، غير أن اللحظة المبهرة ستبدأ حين أمسكت لويز القيثارة و شرعت في العزف، لويز ابنة السابعة عشر بعيونها الضيقة جعلتني و أنا أشرب الشاي و أصغي إلى عزفها أحس بأن العالم أرحب مما يبدو لي.
حوّل أوليفيي الطابق السفلي من المنزل إلى ورشة كبيرة للنحت و الرسم، اكتشفت هناك منحوتات رائعة من الخشب لا حصر لها، لا تشغل حيز الورشة فحسب، بل تملأ الردهات و زوايا المطبخ.
كنت أقرأ شعرا في كور كازبلانكا، كان الصف الخلفي فارغا، و حين رفعت عينيّ إليه بعد جملة شعر رأيت هيلين ولو و ساشا على كراسيه، كانوا قد طلبوا من الأطفال أن يرسموا على ورق أبيض ما يشعرون به و هم يسمعون قصائدي، الصغار رسموا أشياء كثيرة، لكن في كل ورقة كانت هناك أشجار، ربما حدسوا أني منذ طفولتي كنت صديقا قديما للغابة.
في الخارج كان أوليفيي يحمل إعلانا كبيرا على ظهره، كَتبه على لوحة دقيقة من الخشب، يخبر فيه المارة و الحاضرين أن ورشته ترحب بهم يوميا على الرابعة بعد الزوال من أجل الشرب و الفرح و تجاذب أطراف الفن.
عبر الممرات الملتوية التي تعلو بك شيئا فشيئا نحو معبد بوذا على رأس الجبال المتاخمة للمدينة كانت السيارة تتقدم بنا في صباح صيفي هادئ، و كانت الصغيرة لو تشير بيديها إلى القرى التي تتكاثف منازلها فوق المرتفعات، توقف أوليفيي أمام بيت كبير كان بابه مفتوحا على مسبح، و كانت شابة رشيقة تتمشى على جنباته بقطعتي سباحة زرقاوين، أعرب لي عن رغبته في أن يتركنا في السيارة أنا و ابنتيه و ثيابه أيضا ليركض مخترقا الباب و يرتمي في الماء، شغل محرك السيارة و قال لي :’بوذا أفضل’.
في منتصف الطريق اكتشفنا أنها مقطوعة، و أنه يتعذر علينا أن نضع أقدامنا في معبد بوذا، لذلك غيرنا الوجهة باتجاه تمثال العذراء الذي ينتصب على أعلى مرتفع في المدينة، تمثال أبيض منحوت بعناية، و حين ينعكس عليه الضوء في الليل تراه فوق ظلمة الجبال فاردا جناحيه مثل ملاك نازل من السماء.
شمال المتوسط يسهل أن تنتقل في يوم واحد بين بوذا و مريم أو أي اسم آخر، قال لي أوليفيي:’أنا مع كل الديانات، لكنني بلا دين’.

-2-
في شقة محمد حمودان كانت صور بوذا تملأ كل مكان، صاحبة الشقة تركت كل شيء رهن رغبته، لكنه لم يكن يدخل المطبخ أو يشغل التلفاز، كان يفضل أن ينام على سرير ابنها، و حين يستيقظ يروقه أن يجلس على أريكة في البهو و يعيد قراءة كلماته بصوت مسموع.
يملك حمودان من الجنون القدر نفسه من العقل و الرزانة، يحب الحياة و يكتب بلغة صادمة لا تراعي على الإطلاق المشاعر الهادئة و المرهفة للآخرين. مرة قالت له سيدة فرنسية و هو يقرأ شعرا عنيفا في حديقة نوتردام :’ما بك سيدي؟ هل يمكنني ان أقدم لك مساعدة ما؟ إذا كنت مريضا فأنا أستطيع أن أعالجك’ ضحك و أخبرها بأنه في كامل وعيه، و أنه لا يعاني من مشاكل عقلية مضيفا: ‘إنه الشعر سيدتي، إنه الشعر’.
كنت أدرك أن العنف في نصوص حمودان هو رد فعل على عنف آخر يوجد في الحياة، القوي يبتلع الضعيف و الآخر دائما مرفوض أو على الأقل مشتبه فيه، ليس هذا ما يعانيه المهاجرون في فرنسا فحسب، بل هذا ما يعانيه الإنسان الذي يعيش على هذا الكوكب من إنسان آخر يعيش معه على نفس الكوكب.
قرأت شعرا على ضوء الشموع و آخر تحت الأشجار أو في النهر حيث يجلس الشعراء على منصة فوق جسر واطئ بينما يتكئ الآخرون على أرائك عائمة تتحرك و تتهادى فوق مياه النهر. و في حديقة لاميجيسري كان الإسباني كارلوس باتيرنا يعزف على العود بإيقاع يعلو و ينخفض متفاعلا مع نصي ‘المحارب’. كارلوس هو الوحيد الذي كان ينطق اسمي كما هو، بعينه و حائه اللذين يتعذر على الأوربيين نطقهما، عبد الرحيم أو عبد الرحمان من أكثر الأسماء تداولا في عهد الأندلس. يعزف كارلوس على العود بخشوع متعبد في محراب، و بفرح طفل يصحو على هدايا العيد، في مقهى أوليزار كان يحكي لي عن طفولته و حرمانه و عن تسكعه و تطوافه بسبب هوسه بالموسيقى.

-3-
تبدو لوديف من مرتفع العذراء مثل لوحة من القرن التاسع عشر: الأبنية الخفيضة بالقرميد و الأزقة الضيقة و النوافذ الكبيرة المشرعة على بعضها، و الفوانيس المعلقة على واجهات المنازل، و النهر الذي يقطع المدينة، و الجسور التي كان يحلو لي الوقوف عندها في الصباحات الهادئه، تذكرت يوما ما و أنا واقف على الجسر فوق النهر كل الشعراء الفرنسيين الذين أحببتهم: أراغون، رامبو، إيلوار، بيرس، كروفيل… لكن الشاعر الذي حضر أمامي بقوة في تلك اللحظة و تماست مع كياني هالته هو جيرار دونيرفال العاشق الكبير الذي قتله عشقه.
لم أر في حياتي امرأة وفية لرجل مثل وفاء جانين بورني لموريس كاريم، هذه العجوز جعلت من هذا الشاعر البلجيكي أسطورة، هو الذي عاش منشغلا بالكتابة للأطفال و الشباب، تذكر اسمه في كل حديث أكثر من ذكرها لضمير المتكلم في الفرنسية، تمحو ذاتها هي الحية لتفسح المجال لطيفه هو الراحل منذ سنين، سمعت منها اسم موريس مع كل وجبة كنا نلتقي فيها على نفس المائدة، ومع كل تحية، و حتى و هي تمر دون أن تتكلم كنت أعرف أنها مسكونة بأشباحه، و حين تجلس وحيدة و هادئة في خيمتها بمعرض الكتاب كنت أحس أنها ليس وحيدة على الإطلاق، فثمة دائما هواء تتنسمه من حين لآخر، هواء رطب و خفيف اسمه موريس كاريم.

-4-
النظر إلى النادل الذي يشبه هنديا أحمر في مقهى لاهاوس هو ما يجعلني أشرب ليبتون المبرّد أكثر من مرة في اليوم. أتذكر النادلات القرويات اللواتي يقدمن لي ليبتون بالحليب في المقاهي التي أجلس بها حيث أقيم، أكرههن لأنهن يتصرفن في المقهى كعاهرات، يجلسن مع وجوه قادمة من الجحيم على نفس الطاولة، كما لو أنهن يتفاوضن معهم من أجل ليلة.
أحب النادلة التي لا تقتحم حياتي، تضع المشروب وتنصرف، يكفي أن نتبادل التحية. الهدوء هو كل ما أبحث عنه في أي مقهى أينما كان، هناك أمكنة أخرى للصخب و الإزعاج و الدعارة أيضا. أن تكون نادلا معناه أن تحمل ثقافة، معناه أيضا أن تهب كنسيم ولا تزعج أحدا.
سألت شابة جميلة عن كوليج سيزار، كانت تجلس في مقهى أوليزار على الطريق، لم أنتبه إلى الشاب الوسيم الذي كان يجلس بجانبها، عرفتْ من البادج الذي أحمله أنني شاعر، ربما لذلك قالت لي: ‘يسعدني أن أرافقك إلى هذا المكان’، خبرتها و أنا أومئ إلى صديقها بأنني أشك في هذه السعادة، ابتسمت وقالت لي: ‘لا تهتم، إنه زميلي في العمل، و لدينا مقهى صيفي أمام الكوليج’. في ليلة الغد التقيت بها هناك، و كانت أجمل بكثير مما رأت عيناي في النهار، هناك التقيت صالح دياب الشاعر السوري الذي يهيم في الدروب الفرنسية باحثا عن الدفء و الجمال، هو الذي دعاني إلى حفلة الكلمات في هذا الجنوب الذي لا يشبه جنوبنا.
أمام الكاتدرائية ينصب سمير جاوي خيمة تابعة لمقهى لاهاوس، حيث يمرح الشباب بالليل، يتحدث سمير بأكثر من لغة و يشغل كل أنواع الموسيقى لضيوفه: روك، سلو، أندلسي، جاز…و رغم الصخب الذي يملأ حياته كان يستبد به حنين دائم إلى مدينته: مكناس، رواد المقهى ينادونه ‘الجنرال’ فيما كان يبدو لي بملامحه و بملابسه الغريبة طفلا لم يكبر بعد، أو بتشبيه أدق: طفلا لم يصدق أنه كبر.
-5-
مرة تحدثت الكاتبة أندريا ماتوراني عن نوع من الحب يربطك بأشخاص قبل أن تراهم، هذا بالتحديد ما وقع لي مع تلك الشاعرة، أحببتها قبل أن أقرأ لها، أعتقد أنه في الغالب رنين الاسم أو تلك الهالة التي تتماس مع حواسك حين تطيل النظر في صورة امرأة بوجه طفولي رغم أنها تجاوزت عتبة الثمانين. بعينيها الواثقتين و بشعرها الأبيض القصير كانت تجلس أمامي في منصة الحديقة لتقرأ نصوصها الجديدة بفرنسية هادئة وجذابة، كنت أستمع إليها كما لو أني ضال أمام راهبة في كنيسة، ثمة الكثير من الحنان و الدفء الذي ينساب مع كلمات هذه المرأة.
بعد دقائق قليلة وجدت نفسي مكانها أقرأ مقاطع من نص طويل، و حين نزلت و هممت بالجلوس أمسكت بيدي و همست: ‘بدّي أتكلم معك’. ماذا ستقول امرأة طاعنة في الشعر لطفل في الكتابة؟ تحلّق حولها الكثيرون بعد نهاية القراءات، و وقفت أنتظر. قالت لي و نحن نتمشى باتجاه باب الحديقة: ‘عبد الرحيم، أنا كثير حبيت شعرك’، أحسست كما يحس تلميذ بيد المعلمة حين تربت على شعره منوهة بذكائه. ربما صار سيان عندي أن يقول لي أحدهم أنت تكتب بشكل جيد أو رديء، لكن شعور الطفل الذي تملكني حينها ما كان ليكون لو لم تخرج تلك الكلمات من بين شفتي سيدة عظيمة اسمها إتيل عدنان.
قبل عشرين سنة كنت في حاجة إلى أن أسمع كلمة حب تجعلني أتشبث بالكتابة، و أنا هنا أستعيد صباحا خريفيا أيقظني فيه أحد الأساتذة من النوم حين طرق تلميذه باب البيت و طلب مني أن ألتحق بالقسم في أسرع وقت، وصلت لأفطر في ذلك الصباح بجمل طويلة من اللوم و التوبيخ لأنني تجرأت و نشرت في مجلة المؤسسة قصيدة على البحر البسيط تتخللها بعض أخطاء العروض، كنت في عامي الرابع عشر، و لم يكن بوسعي أن أرد على هذا الغبي الذي انتبه للزحافات و العلل و لم ينتبه إلى هذه الموهبة الصغيرة التي تحتاج للرعاية و للحب بدل الشتائم، تألمت كثيرا و أنا أرى قصيدتي ممزقة بين يديه، لكنني على كل حال مدين له، فربما كان سببا و لو من بعيد في ميلي لاحقا إلى قصيدة النثر.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة