الوكيل - ثمة نصوص كثيرة نُجهد أنفسنا في البحث والتفتيش عما فيها من خلْق وإبداع غير أن مسعانا غالباً ما يبوء بالفشل الذريع.كذلك ثمة على الشاطيء الآخر نصوص كثيرة ـ أيضاً ـ تفوح إبداعاً وشاعرية ويكفيك فقط أن تقترب من عالمها حتى تتأكد من ذلك.
بين مدينتين
للشاعر الكويتي (محمد جابر النبهان) أصدرتْ سلسلة (آفاق عربية) إحدى سلاسل الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة مختاراتٍ شعريةً عنوانها (بين مدينتين صغيرتين)..وتضم هذه المختارات قصائد من عدة دواوين أصدرها الشاعر من قبل وهي:غربة أخرى ـ دمي حجر على صمت بابك (سفر يوسف /سفر الجنون) ـ امرأة من أقصى المدينة.هذا وبعد قراءة متأنية ومتأمِّلة لهذه المختارات نجد أن ثمة خيط سميك يربط فيما بينها وهو خيط العزف على أوتار الغربة بتنويعات شتى.ولحظة أن نقترب من تخوم عوالم النبهان الشعرية نُدرك أنه كائنٌ يسكنه الاغتراب بكل ما تحمله هذه الكلمة من آلام وأحزان ومعاناة. ومنشأ ذلك هو واقع الغربة والاغتراب والغياب الذي يحياه وهو واقعٌ من دون شك يبدو بعيداً تماماً عن مدى وفضاءاتِ أحلام الشاعر وتطلعاته بما فيه من أزمات وعوائق وقيود خانقة تتعدد ألوانها وتتباين أشكالها حتى تمنعه ـ دائماًـ من ممارسة طقوس حياته كما ينبغي لإنسان طبيعي.حالة الاغتراب هذه تلبَّستْ الشاعر بعدما أخفق في الوصول إلى حل لمعادلة الواقع/ الحياة/الحلم والتي تستعصي رموزها / طلاسمها على الحل..فلا هي ـ تلك الحياة ـ كما يتوقع منها ويتمناها أن تكون ولا هو قادر بطيبة الرومانسي الحالم بـ (العالم الفاضل) على أن يُغَيِّر من معالمها أي شئ.
قصيدة طويلة
قد لا أكون مُخطئاً ـ أو هكذا أدَّعي ـ حين أقول إن عدداً قليلاً من الدواوين /المجموعات الشعرية هو ما ترتكز بنيته على محور وحيد تدور في فلَكِه كل قصائده حتى لتشعر وكأن الديوان ـ بكل قصائده ـ ما هو إلا قصيدة واحدة طويلة غير أنها تم تقسيمها إلى مقاطع أعطيَ لكل مقطع منها عنوان فرعي.واللافت أن دواوين النبهان هذه يمكن تصنيفها ضمن هذه الدواوين التي تنتمي إلى الوحدة الشعورية فكراً وعاطفة.
في قصيدة غيابات أخرى من مجموعة سِفْر يوسف وفي مقطع تتعدى دلالته المعنى القريب ويتسع فضاء تأويله ليشمل تأويلات أخرى يصور النبهان بريشته الشعرية مستخدماً تقنية التكثيف حالة الاغتراب التي تُحْكمُ قبضتها عليه مثلما فعلت من قبل بالنبي يوسف عليه السلام:
بدم كذب..
وحكايا زور كوجوه الناس أمُرُّ غريباً
ـ مثلك ـ
في الشام ومصر
وفي بلد لا يحضنني فرحاً
أو يبكي لغيابي.
وكذلك ـ بعد أن بلغت به الغربة ما بلغت يقول:
هذا أنا
متعب من غيابي
قصيدتي البعد.
وهو هنا يناجي سراً وطناً تركه يركض منفرداً في دهاليز الغربة وفيافيها دون أن يرحمه من هذا العذاب الذي يتجرعه ليل نهار وهو في بلاد أخرى تمثل المنفى الدائم والاضطراري بالنسبة له:
وسواك نعرف أننا منفى
بلا وطن
وذاكرة
وموت.
جسد عابر
أما في مجموعته سِفر الجنون فهو ينتقي عزلةً للغياب بغية أن يتدلى شبحاً يقطع بيديه الحبل السري ثمة تفضحه الغربة وكذلك لا يعثر على وطن يلمس تعبه.وفي مجموعته امرأة من أقصى المدينة فيعلن أن الغريب ما هو إلا جسد عابر يتكيء على ذكرى عابرة..بل إنه يفقد وهجه وتوهجه بفعل الغربة:
كل غريب
وهج
يطفأ حيث يقيم.
أما ديوانه (غربة أخرى) فنجد بدايةً أن عنوانه ـ وهو العتبة التي لا بد من المرور بها للدخول إلى عوالمه ـ يفضح محتواه وهو بالفعل يضم فيما بين دفتيه قصائد كتبها الشاعر وهو واقع بالفعل تحت تأثيرالغربة التي ذاق طعمها بكل مرارته وفظاظته يوم أن ترك وطنه وهاجر إلى بلدة أخرى.وبدءاً من عنوان الديوان مروراً بالقصائد التي يحتوي عدد كبير منها على مفردات معجم الغربة وهي:غربة/الغريب/الغياب/تغريبة/غرّبني/البعد/الغرباء/ مغادر/ الغريبة / غربتين/ تغرّب/غائب/ وحيداً/ رحيل/المنافي /غاب/ غابوا/ نفْينا/ الغروب..ندرك أن هذه القصائد تدور في عوالم الغربة وأفلاكها بما فيها من أحاسيس ومشاعرصعبة تنتاب هذا الغريب بل وتلوكه بأسنانها الحادة منفرداً وتجثم على صدره بل وكل أعضائه وهي تقوده دون رغبة منه ـ غالباً ـ إلى نقطة العيش اختناقاً.هذه المفردات تتكرر بشكل لافت للنظرفي هذا الديوان وكأنه تأكيد من الشاعر على إبراز هذه الحالة بتفاصيلها كأفضل ما يكون.ورحلة الغربة هذه تبدأ مع الشاعر منذ قصيدته الأولى (أينما جرف النهر ظل الغياب) وفيها يقول:
كيفما جرف النهر ظل النخيل
ابتعدتُ
ابتعدتُ
وغافلني النصل في الخاصرة.
وشيئاً فشيئاً تزداد آلام الغربة وتتكاثر جراحها اللا بُرْءَ منها خاصة مع مُضيِّ الوقت حدَّ أن تصل إلى كونها منفىً:
وأنا وحدي
لا أرضاً أملك
لا تملكني كل الأرض
وحيداً..
أحمل نفيي الآخر
جوعي الآخر
أعواد الصلب
أدور غريباً
أبحث عمن يصلبني تحت ظهيرة عشق.
وهكذا تجد الذات الشاعرة نفسها غريبة بين فكيّ هذا الوحش الذي يُسَمَّى ـ حركيَّا ـ بالغربة:
تنهشنا الغربة
أنت هنالك
ما بين الماء وبين النار
تعد سنيناً
تسقطها العتمة.
وبعد أن تفشل في أن تتبيَّن مصيرها الأبدي المشئوم هناك ـ في مجرة الغربة ـ تعود وتتساءل مرة أخرى في ألم:
كيف عانقت الغياب؟
ربما يكون هذا التساؤل نتيجة حتمية للواقع المأزوم الذي وجدت الذات الشاعرة نفسها فيه دون أن تعرف من الذي ألقى بها هكذا هنا:
كأني
كأن البلاد البعيدة
ترمم أيامها فوق وجهي
وتحصي الغياب.
لا سيما وأن الذات الشاعرة تعيش وحيدة ـ مغتربةًـ في عالم بدا فيه:
كل شيء معد هنا للرحيل
شارع لا يؤدي إلى آخر
والوجوه..
تودع أحلامها في ركام المكان/
المقاهي/
رجال يبيعون أسمالهم في الطريق.
غربة أخرى
هذا وقد يحتاج الشاعر في خضم غربته إلى وطنه الذي يتوق إلى العودة إليه ليقبل ثراه ويحتضن أشياءه الجميلة ليزيل من قلبه مرارة الأيام التي قضاها غائباً عنه:
وطني
واشتقتك نهراً يحرث في القلب
اشتقتك قلباً يختارك رغم البعد
اشتقتك عنواناً.
غير أن الذات الشاعرة هنا تخشى أن تعود إلى أرض الوطن فراراً من ويلات الغربة فتُصدم بغربة أخرى في قلب الوطن غير أن هذه الغربة هي أقسى مئات المرات من الغربة خارج حدود الوطن:
وحيداً
وحيداً
ترتب أشلاءك الآن
كيما تعود غريباً لأرض نستك
كأن السنين المضت في المنافي
رحيل بلا فائدة.
ومن هنا نكتشف مدى ما آلت إليه حالة الشاعرالنفسية والتي يبدو لنا تمزقها ذهاباً وإياباً بين الغربة بما لها من أنياب وبين الغياب الذي يُوجِّه إليه ضربات قاسية في الرأس مباشرة تُفقده اتزانه وتَشل تفكيره وربما لا تغادره حتى تتركه جثةً هامدة لا حراكَ فيها.
أما الغربة المتجسدة لحماً ودماً فنعثر عليها فيما بين سطور قصيدته (غربة أخرى) والتي أعطى اسمها للديوان:
غربة أخرى صديقي
تمنح الصبر جوازاً
ثم تنسى وجهي المصلوب جوعاً
في زوايا الأرصفة.
لا أحد هنا يشعر بما يقاسيه الشاعر أو يبادله الإحساس على الرغم من أنه ليس متجهاً صوب الصحراء التي لا أحد فيها بل هو كائنٌ يحيا بين أناس غير أنهم لا يمثلون بالنسبة له أي شئ..وهذا ما جعله ييأس من العثور على أنيس/ منقذ يُخرجه من بين دوامات الغربة ومتاهاتها:
أعرف أني
بت وحيداً
تلسعني بسياط الغربة.
وتعود ترتفع درجة حرارة إحساس الشاعر بغربته حتى يظن أنها غربة أبدية ولا تعنُّ له في اللأفق نهاية محتملة لها:
آهٍ يا صاحب
من يمسح طين الغربة عن وجه الطفل؟
ومن يحكي
إن غبتَ
بأن الراحل لا شك يعود؟
يا صاحب..
من قال بأن الراحل لا شك يعود؟
وبعد أن فعلتْ جيوش الغربة التي تكالبت على الشاعر ما فعلت واتضح له أن حلمه قد ضاع سدى..كان لابد من أن يجلس أعلى كرسي الاعتراف ليعترف أمام نفسه بخسارته التي نالت منه ثم تساءل:
من أي زاوية نفر من الرصاص؟
وهكذا يعنُّ لنا أن الشاعر يكاد لا يخرج من غربة ـ ليستريح من آلامها ومتاعبها ـ إلا ويبدأ من جديد طقوس غربة أخرى ربما تكون نيرانها أشد وطيساً من غيرها.وهنا نتساءل أهوـ حقا ـ قدَر الشعراء أن يعيشوا غرباء مغتربين في كل حالاتهم سواء أرحلوا عن أوطانهم إلى أوطان أخرى أم ظلوا تدوس أقدامهم ثرى أراضي أوطانهم ؟
إنه ليس مجرد تساؤل بل سؤال لا يملك الإجابة عنه إلا الشعراء أنفسهم فهل من جواب؟
الواعي البصير
هذا عن غربة النبهان أما عن لغته الشعرية فهي لغة سلسة تنساب انسياباً رائقاً ورائعاً ـ في آن ـ عبر أسطر قصائده الشعرية..فيما يحاول ـ بواسطة ما يمتلكه من أدوات فنية ـ ألا يعزف كثيراً على أوتار المجاز..مبتعداً بنصه الشعرى عما يسمى بمجانية كل من اللغة والتناول والصورة وجميعها لا تضيف إلى العمل قدر ما تُنقص منه.كما ينتقي مفردات قصائده انتقاء الواعي البصير مبتعداً عن تلك التي تحوَّلت إلى جثث متْحفيةٍ وكذلك عن التي لا تُوصف إلا بأنها ركيكة.إذن يمكن لنا أن نصفها بأنها لغة بسيطة لا يعاني القارئ/ المتلقي في فهمها والتواصل شِعرياً معها.وميزة أخرى تمتلكها قصائد هذه المختارات وهي روعة التصوير والإدهاش الشِّعري والدلالة التي تسمح بأكثر من تأويل.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو