الأحد 2024-12-15 10:39 ص
 

وصفة "أم صبحي"!

07:30 ص

لا ينفع أن تتندر بموضوع المصروف مع الخالة أم صبحي، القاطنة في إحدى قرى الجنوب، منذ تسعة وخمسين عاما لم تغادرها قط. لا يصلح أن تجرب وتمازح هذه السيدة ذات الرداء الأسود منذ أكثر من ثلاثين حولا، وضعوه عليها أثناء غيابها عن الوعي بعد أن أخبرها زميل زوجها في الرتبة، بأنه استشهد دفاعا عن وطن ما. ومذ تلك الدقيقة التصق الثوب الخشن بجسدها الهزيل، وفوقه رؤوس أيتامها غير الآبهين إلا بحكايات حزينة، لم تقفل ليلة بنهاية واحدة سعيدة قبل أن تذبل أعينهم وتنام.

اضافة اعلان


الخالة أم صبحي وإن لم تتلق تعليما أساسيا كاملا في بلدتها، امرأة تدهشك بثقافتها غير المحدودة، والتي اكتسبتها سمعيا طوال فترة اشتغال مذياع المرحوم، ببطاريتيه “القلم” وهو ميراثه الوحيد لسيدة، لم تنتظر منه ميراثا ولا حتى هدية، اللهم كيس الفستق المملح للصغار، ورداء داخليا شفافا زهري اللون، خبيئته الوحيدة الملفوفة بجريدة، كانت تغسله وتنشره تحت جنح الظلام، حتى لا يراه الجيران، فيتغامزون بينهم أن من أين لهم هذا الترف؟!


وبالنسبة لموضوع المصروف، فالأمر جدي لا يتحمل مزحة أو خفة دم، يطلقها أحدهم هنا أو هناك، خصوصا بعد مرور الأسبوع الأول على استلام الراتب التقاعدي. بمعنى آخر بعد مرور ثلثي الأربعمائة دينار من أمام ناظريها، ذاهبة إلى مجاريها المحسوبة بالقرش؛ قسط الجمعية وقسط صوبة الكاز، فاتورة الكهرباء دين أبو جابر الدكنجي، علبتي مرهم الأكزيما لابنتها العازفة عن الزواج لحين أن تشفى تماما، ونقوط ابن صديقة عمرها العائد من الغربة، بشهادة طب تغطي عين الشمس، وتذكرها بولديها اليتيمين، اللذين تنازلا طوعا عن إكمال الدراسة، بحجج لم تمسح حتى على جبهتها، إنما ادعت أنها تصدق حتى لا يكون كسر الخاطر مقسما على ثلاثة!


حين مرت قبل يومين من أمام دكان أبي جابر رافعة رأسها، المتحلل تماما من دين يقض مضجعها عشرين ليلة في الشهر، سمعته يتجادل مع أحد الزبائن الغرباء الجدد على القرية، حول شائعة رفع الأسعار. كان أبو جابر يغلظ في أيمانه و طلاقه من زوجته، أن وراء تلك الإشاعة، حدث أكبر “منا جميعا”، ولن ترتفع الأسعار قرشا واحدا، يتهلل وجه أم صبحي وتنفرج أسارير خديها اليابستين، كغصن ياسمين أوائل الخريف. فيرد عليه الغريب العالم بسيناريوهات الأمور وتتابعها، عن خبرة سابقة، أنه لا مناص من رفع الأسعار هذه المرة، والتلويح بالخبر ليس أكثر من توطئة مؤدبة، ليستقبلها الناس على مهل. تقطب أم صبحي جبينها وتنظر بعينين نصف مغمضتين متسائلة بصوت غير مسموع: من الأخ؟ ومنذ متى تستقبل قريتنا الغرباء أساسا؟


تعجبك ثقافة هذه السيدة المبنية على مبدأين لا ثالث لهما؛ لطمات السنين وصبرها الجميل!
تمد أصابعها داخل جيبها السري لتتأكد بخبرتها، أنها ستون ليرة كاملة، تقرأ عليها “لإيلاف قريش إيلافهم” وتؤكد لقلبها المرتجف بأن الستين لن تخذلها هذه المرة أيضا، لا أمام طابور الكاز البارد، ولا تحت “ركسة” اللحف المرثية، ولا فوق رأس حفيدها الساخن، ولا خلف شاهد قبر الجندي المجهول، الذي تصر أن توزع شهريا على روحه بخمسة دنانير خبزا و كعكا!.


لو فقط يدري النواب الكرام أو المسؤولون المحترمون، أن دينارا واحدا زيادة سوف يقلب حياة أم صبحي رأسا على عقب، ومعها آلاف مثلها و أعز أنفس. لو أنهم فقط يقفون دقيقة تقدير واحترام لبالع السكين على حديه وساكت إكراما للوطن. لو أنهم فقط يجربون أن يعيشوا عشرين يوما بمائة وبستين وبخمسين دينارا، بدون أن تصدر عن واحد فيهم كلمة “آخ”. لو أنهم يلتهون بملايين تسرق وتنهب وتختلس وتهرب، تحت جنح النهار، ويعيدونها لهم هم، لا يطمع أحد من فقراء البلد بفلس واحد منها. لو شيء حصل من أحلام اليقظة السابقة تلك، لنامت أم صبحي ليلتها بشكل عادي جدا، حتى بدون نهاية سعيدة لحكاية اكتملت!


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة