الإثنين 29-04-2024
الوكيل الاخباري
 

ذكريات رمضان (1)



كان ذلك في زمن بعيد. قبل أن تدرج العائلات على إرسال «طرحة» العجين الى الفرن. وقبل أن يصبح الخبز سلعة تباع في الأفران والبقالات.اضافة اعلان


قبل موعد إفطار رمضان بساعة تقريبا، ترفع امي كُمّيها وتزمّ تنورتّها وتجلس القرفصاء، وهي تطلب مني ان أساعدها فأحمل لها «لقن» العجين الخامر وان أباشر في إيقاد القش تحت الصاج.

كانت عليّ مهمتان شبه يوميتين.

الأولى منهما ممتعة وهي جمع القشُ وبقايا الواح الخشب «الطَّبَشُ» من الحارة والبريّة التي يقع بيتنا على اطرافها.

والثانية ان «أوِزّ» تحت الصاج حتى تمسك النارُ القشَّ والحطب. بما يترتب على ذلك من تشبع بالدخان لم تكن تطرده إلا رائحة شراك القمح الذي «تشمره» ام محمد. تلك الرائحة التي لا تبارح.

كانت المهمة الأولى ممتعة لأنها كانت تتيح لي ان أشاهد خيال أو زول الصبية التي أهواها، وهي تقف خلف نافذة بيتها، عن بعد يزيد على قُدرة زرقاء اليمامة على تمييز شخوصه.

تقع حارة المعانية غرب سكة حديد المفرق التي كان مديرها جميل الديخ ابو وليد. ويقع بيتنا غرب الحارة ويتكون من غرفة ومطبخ ودورة مياه. بناه جدي لأمي مزعل مشري الخوالدة ابو ابراهيم من الطين والقصل والقصيب والخشب يحملها جسر من الحديد يسميه المعانية الدامر.

تكونت الحارة من بيوت معانية وشمالات ومهاجرين ومغاربة وليبيين وبدو. بيوت يسكنها رجال أشداء طيبون ونساء جميلات حانيات.

اذكر منها بيوت: عزيز سقالله المعاني أبو علي وأبو هاجس الرواد وعلي التميمي أبو صديق العمر عبدالمهدي وفهّاد الخريشا وذعار الجمعة وخلف الخصاونة ابو محمد وابو هايل الدخيل وخلف الناطور المخزومي وسبع وخالد جدوع وعلي ابو ذوابة وابو عبدالله ومحمد الشريف وابو عقلة وابراهيم باشا المغايرة وخلف وعطالله غاصب ومفلح الشويطر وحسين ورّاد ومحمود كريّم الخصاونة وابو جمعة جدوع وابو شحاده الخليلي وابو زكريا الدويك والحج اعمر الرواد وعوفان الخطيب وفرحان ابو درويش وهويمل كريشان وعبد الله اسماعيل المعاني وسليمان فياض وسلمان فياض وحسين العقايلة (صاحب اول مطحنة في المفرق) واحمد حربا (صاحب أول سيارة في المفرق).

لم نكن نعرف الكنافة ولا القطايف، ولم يكن رمضان مرتبطا بها. كانت الحلوى، عندما يكون ذلك ممكنا، هريسة العم «أبو جمال».

كانت كل بيوت الحارة تفطر على نفس الأطباق، كل يوم طيلة أيام رمضان، في تعاونية محبة تضامنية فريدة.

والمهم، لم يكن ممكنا معرفة اي بيت من بيوت الحارة لم يطبخ ولم يوزع، بسبب ضعف الحال !

كانت كل ربة بيت تطبخ كمية كبيرة من الطعام تحتفظ بجزء منها لعائلتها، ويقوم الأبناء والبنات بتوزيع «طبق الحارة» بيتا بيتا، زنقة زنقة، قبل موعد إطلاق مدفع الإفطار المنصوب بالقرب من تلة السهاونة.

كان يتجمع على «طبلية» الإفطار عدد كبير من الأطباق الصغيرة: ملفوف. شوربة عدس. مجدرة. رز حامض، رز بشعيرية، مجللة بالزيت أو بالسمن البلدي، عجّة، مفركة بيض وبطاطا، مقالي...الخ.

كانت كل الأطباق شهية. (ما يزال يستهويني منها طبقا المجللة والملفوف) !

كانت قلاية البندورة تتكون من بندورة وبصل وزيت زيتون وقرن فلفل حار. وكان اسمها «مذبلة».

ولم تدخل عليها اللحمة الا في الربع الأخير من القرن العشرين.

كانت اللحوم نادرة جدا وموسمية.

كنا نسمع بالسمك، إلى أن دخل السمك العماني المقطوع الرأس إلى المفرق أواخر الستينات.

لقد ظل رمضان طيلة أعوام وأعوام وأعوام، هو رمضان المُنتظَر الجميل البهيج بالقطايف او بدونها. بالمذبلة أو بالقلاية.

والحلو ان رمضان يظل هو الحلو.