الوكيل - منذ سنوات ليست بالقصيرة، دأب الفنان حافظ مربو على الاشتغال على مفهوم الأثر..الأثر المفتوح..والمتحرِّك على إيقاع الجسد والفكر في آن، وأعني بذلك الأثر التشكيلي المطبوع بكثير من المجازية والإشراقية Lillumunisme الموسومة بالألوان المتباينة التي وصفها إخوان الصفاء بالبرَّاقة والمشعة.
الأثر التشكيلي، إذن، هو لعبة الفنان مربو وافقه الجمالي القائم بالأساس على إنشائيات خطية ولونية ومادوية مَلْمَسِيَّة يصعب فهمها دون تذوُّقها في الرُّوح، والرُّوح فقط. بواسطة الأثر/ الآثار يجعل من جسده المحرَّر تجدُّداً لازمنياً وشكلاً جمالياً للتواصل مع الآخر بالمعنى الأصيل للفن الذي لا يعني سوى اللقاء الحسي بالعالم.
الأثر الفني لديه شكل منفتح لا حدود تؤطره، عنيد وواخز، يقاوم السكونية باستمرار عبر حركة الأشكال الحرة المنصهرة داخل الحيز التشكيلي، وكأنه بذلك يرسم ‘شعرية الأثر المفتوح’ التي تهدف إلى إثارة أفعال الحرية الواعية بتوصيف بوسار Poussar. فهذا الأثر يقاس في لوحات الفنان بالعلاقة بين المادة والسند، وباستعمال شبكة لامتناهية من التجاعيد للحدِّ من صلابة التكوين ولإعطاء البناء والتوليف نوعاً من الحركية المتكئة على أنساق مادوية وألوان متضادة بالتجاور.
بهذا المعنى، نفهم انخراط الفنان في تجربة الأثر الذي يَعتبره شرطاً للظهور في المجمل والمطلق واللامحدود..وبهذا الفهم، نجده يشتغل بحس إتيقي Ethique، لأنه يؤمن إيماناً قطعياً بأن المعنى التشكيلي لا يُوجد سوى في الحركة الجسدية، وفي الآثار والتبصيمات التي تتركها فوق السند. هو هكذا الفن مثير للرغبة ومنشط لإرادة القوة، كما يقول ف. نيتشه F. Nietzshe..
وقد لامست شخصياً هذا المنحى في تجربة الفنان مربو من خلال معايشتي المباشرة لطقوس اشتغاله وتابعت فترات مهمة من إبداعه بمرسمه الذي يَنْبُتُ وسط حي تالبورجت (أكَادير/ جنوب المغرب). إنه فضاء حميمي تتكدَّس بداخله مجموعة من المحتويات: كتب وكراسات حول الفن، لوحات جاهزة مصطفة وأخرى معلقة على الحائط، إلى جانب أخرى منشورة على الأرض لا تترك للزائر سوى مساحات صغيرة للخطو، فضلاً عن منحوتات صغيرة وأغراض اقتناها من الجوطية المحلية بسوق الأحد ولفافات أوراق مختلطة مع قارورات الصباغة والمواد الكيميائية التي تملأ المكان بروائح مُدَوِّخَة أكثر من مفعول نبيذ الرُّوخو وجعَّة البيرَّة..هناك يعتكف الفنان في خلوته الأبدية، وهناك يقضي معظم أوقاته مختبئاً يُداعب لوحاته..وتداعبه هي أيضاً..يلمسها تارة، ويشمُّها تارة أخرى، وقد شاهدته لمرات متكرِّرة يُحَادِثُ قماشاته ويُكَلِّمها كما لو ‘مخلوقات حيَّة’..
فهذا التعامل الطقسي الذي يطبع فنه يرسم في جوهره حقيقة هي أن الفنان مربو يبدع بوعي جمالي مؤسس على إدراك صاحٍ لرسالة الفنان. ففي لوحاته، يسعى إلى أن يُعيد إلى الرسم السيطرة على السطح، وإلى المراهنة على الفن المتحرِّك، المُتَرَحِّل، اللاتشخيصي، الحر، الطافر، المفتوح، الفن القائم على المدى الحركي الذي يمنح اللوحة عمقها التشكيلي المفترض انطلاقاً من اختيار المادة وتطويعها في حدود الضحالة والكثافة المنشودين..
إن كل لوحة من لوحاته، هي في الأصل واقعة تصويرية Fait pictural تختزل زلزالاً لونياً يُوَلِّدُ المعنى الذي يشتبك بداخله تصادم المواد والأصباغ والنتوءات البارزة (الرولييف) الناتجة عن دمج أجسام رفيعة ودفنها في جسد اللوحة لمنح الأثر قوته الخالدة، ويتعلق الأمر على هذا المستوى بالأتربة ومسحوق الرخام وحجر النيلة (الأنديغو) والأسلاك الرقيقة والأنسجة الحريرية وخيوط الفيلاس والورق الشفيف وقماش الخيش والمواد الشمعية..إلى غير ذلك من المواد والخامات التي يقوم بتغريتها بطرائق فنية متنوعة يحيل البعض منها على عوالم الباتيك والتامبرا، وهي الألوان المخلوطة بالبيض أو الغراء بدلاً عن الزيت.
الفنان بهذه الاستعمالات، التي تمتزج فيها المرونة بالقوَّة، ينفخ الحياة في الأثر عبر تدفقات الألوان المخلوطة والمواد المنصهرة، وذلك على درجة عالية من التحرُّر الممكن، وكأنه بذلك يُدَرِّبُنَا على الإنصات بالعين لنبضات اللوحة باعتبار أن المرئي قابل للقراءة والسماع أيضاً..
وعلى امتداد فضاءات مخدَّدة، وبكثير من الوعي والحدوسية الإبداعية، يبدأ الفنان في تشكيل لوحاته بخطوط مجرَّدة، ما قبل تصويرية ليلبسها هوية جمالية أخرى، قائمة على التضاد، بالخدش والمحو ووضع اللون على اللون والمادة داخل المادة، بالتعديد والتكثيف والتعضيد، إذ لا وجود للفن سوى في حدود كثافته وتعدُّده، كما يقول جيل دولوز G. Deleuze..
فهو كمن يبحث عن اللاشي، ودون أن يفصل التشكيل عن التلوينية، يستعمل ألواناً اصطلاحية أبرزها الأزرق الداكن والبني والأخضر الطحلبي والأحمر الياجوري والزيتوني والأوكر، إلى جانب استعمالات لونية أخرى عميقة الارتباط بالأرض يروم من خلالها المحافظة على قيم الفاتح والداكن، المضيء والحالك، الظاهر والضامر، المسطح والناتئ..وغير ذلك من التقابلات والثنائيات التي يُشار إليها في هذه التجربة بوصفها علامات أيقونية مُلَغَّزَة، متخلصة من الواقع، وتحتمل مساحة بصرية واسعة من القراءات والتأويلات..
ويبقى القول في الأخير، أن في كل لوحة من لوحات الفنان مضمون تشكيلي داخلي يتفاعل فيه اللون والأثر اللذين يتبادلان المواقع والدلالات ضمن علاقة تفاضلية تتحكم في النسق الإبداعي العام في مسار تجربته..
حافظ مربو، ولا شك، أستاذ التربية التشكيلية ورسام وتشكيلي جنوبي يُبدع بحس تأمُّلي وبمعرفة واعية..يشتغل بصبرٍ وأناةٍ، وكل المستقبل أمامه لنقش مكانته ضمن عداد الفنانين الكبار..
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو