السبت 2024-12-14 03:09 م
 

بدر شاكر السّياب في أيامه الأخيرة (3 ــ 3) لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبد الألم!

11:48 ص

الوكيل - كنا نتساءل كيف إستطاع السياب نسيان أوجاعه وأمراضه العديدة التي بدأت تأكل أشلاءه شلواً شلواً، وكيف نسي موته الوشيك وإنصرف لكتابة الشعر؟ لقد كان ذلك حقاً جزءاً من عبقريته وتفرده، ليس في الشعر وحده بل في الصبر والتحمل وتقبل المصير كذلك،كما أننا يمكن أن نجد نوعاً من الإجابة،اضافة اعلان

على هذا التساؤل أيضاً فيما كتبه الشاعر ت.س. اليوت في مقالة عن ‘باسكال’ عام 1931، وهو يعاني من مرض عضال في احد مستشفيات لوزان’ إن حدة المرض في بعض الحالات المرضية تكون مواتية للإبداع الأدبي والخلق الفني، حيث تكون الفرصة مهيأة لانطلاق مفاجئ في التعبير عن فكرة طال الأمد عليها وهي حبيسة في ذهن الشاعر.’ كان السياب مستسلماً لقدره ولم أسمعه يتذمر وهو على فراش المرض، ولم يجأر بشكوى أو تبرم أو ينحو باللائمة على الزمن أو الحظ أو سوء المصير، بل كان هادئاً مؤمناً بالله وقدره فهو تماماً مثلما عبر عن نفسه، في حالة فريدة هي أشبه ما تكون بحالة متصوف قانط، أو ولي من أولياء الله الصالحين، يخاطب ربه بكل خشوع واستسلام :
‘لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما إستبد الألم
لك الحمد إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
لك الحمد يا رامياً بالقدر
ويا كاتباً بعد ذاك الشفاء’
ولهذا لم يكن الموت يخيفه أو يهمه كثيراً، وإنما كان الشعر هو همه الأول طيلة حياته، يكتبه بإناة ولا يتحمس للحديث عنه، حتى وهو مع أصدقائه الشعراء. كان يزوره الأدباء والأصدقاء، يرحب بهم وهو مبتسم، يناديهم بأسمائهم ويشارك في الحديث وهو بكامل وعيه، وذاكرته ما زالت حية متيقظة، يصغي بانتباه ويرد على الأسئلة ولا يحب الإطراء (وكان هذا طبع السياب) وحينما كانت تبدر ملاحظة مديح من أحد الحاضرين، حتى لو كانت صادقة دون مجاملة يحاول أن يتجاهلها أو يغير وجهة الحديث، فالمديح يخجله كثيراً. ومع أن السياب كان مؤمناً بقدره، كما ذكرت مستسلماً لمصيره، إلا أنني كنت ألحظ في تلك الآونة أن حالة من الزهد واللامبالاة إزاء العالم كله كانت تغشاه أحياناً، حالة صوفية تلبست تفكيره وانعكست على تصرفاته، بأن لا شيء في هذا العالم يستحق الاهتمام، وأن وجود الإنسان ليس إلا عبثاً لا طائل من ورائه. ومن هنا كما أعتقد جاء إستسلامه لمصيره وتقبله اليائس لكل ما تخبئه له الأيام القادمة، ولهذا السبب كان يستسلم للعلاج بشكل آلي غير عابئ بالنتيجة، وقليل الأمل في الشفاء ..
لم أشاهده يقرأ كتباً تلك الأيام مع أن ‘السبتي’ جلب له بعض الكتب شاهدتها موضوعة قرب سريره، وكان يكتفي بقراءة الصحف، ربما لأن الكتب تحتاج إلى صفاء الذهن وتركيز التفكير، وأنى له ذلك وهو المريض المشتت الذهن، اليائس والعاجز عن تجميع شتات نفسه.؟
في إحدي زياراتي له وهو ما زال تحت تأثير تلك الحالة النفسية، التي جعلته أقرب إلى كائن روحاني غير راغب في شيء، متسامحاً، غير عاتب على أحد، ولا يحمل حقداً على إنسان. في تلك الحالة حدثته عن أوضاع الأدباء العراقيين المأساوية بعد الانقلاب البعثي عام 1963، حيث كانت الأوضاع ما زالت متأزمة وتنذر بالمخاطر. فقد أعتقل يومها وعذب العديد منهم، وحكم على بعضهم بالإعدام مثل الشاعر بلند الحيدري الذي نجا بعد ذلك بأعجوبة من الموت، وهرب الكثيرون إلى خارج العراق ،ناهيك عمن هرب قبل ذلك كالجواهري والبياتي ولميعة عباس عمارة … الخ
طرحتّ عليه بعض التساؤلات التي كانت تدور في ذهني منذ فترة، حول ما كانت تنشره الصحافة العراقية عن خصومات السياب الأدبية والسياسية مع بعض زملائه من الأدباء، والانتماءات الحزبية التي ولدت كثيراً من العداوات في حينه،
وجعلت السياب نفسه ضحية من ضحاياها. ولهذا وجدت من المناسب الآن أن أسمع منه كيف ينظر إليها بعد كل هذه السنين، ولا أزعم أن إجابات السياب التي سجلتها في تلك المحاورة، كما في بقية المحاورات السابقة، كانت حرفية تماماً وإنما حاولت قدر استطاعتي أن أجعلها أقرب ما تكون إلى حقيقتها أو معناها العام، وذلك نظراً لبعد الزمن وارتباك الذاكرة أحياناً. حين سألته عن ذلك أجاب بأسى وهو مطرق : – أنا شديد الأسى لما يحدث في العراق، لماذا أوصلوا الأمور لهذا الحد؟ أنا متألم لما يحدث لأصدقائي من الأدباء من اضطهاد، ولكن الكل يتحمل المسؤولية.
ـ ماذا تعني ؟
- أعني أن الأدباء مثل الحزبيين والأحزاب السياسية لم يضعوا مصلحة الوطن في أولى حساباتهم، إنشغلوا بالتناحر والمكائد والمنافع الشخصية.
ـ من تقصد ؟
- أقصد الجميع، لا أستثني أحداً
ـ ولكن ما ذنب الأدباء وهم لا يملكون سلطة؟
- الأدباء صاروا واجهة للسياسيين وللأحزاب السياسية، أغلبهم للأسف صاروا أبواقاً حزبية وكتاب دعاية، نسوا مهمتهم كأدباء، فبدلاً من أن يمجدوا الحرية ويدعوا لحرية الرأي، صاروا يدعون للانتقام واضطهاد الآخرين بحجة مبادئ الأحزاب..
ـ هل أنت حاقد عليهم؟
- لا.. أنا لا أحقد على أحد، رغم ما أصابني منهم، ما فائدة الحقد الآن؟
ـ ولكن كانت لك أيضاً خصومات ومعارك حتى مع رفاق الأمس.
ـ نعم .. ما كان عليهم أن يفعلوا ذلك معي، فقد أساءوا الي ظلماً لأنني دعوت للحرية واحترام الرأي، وكان عليّ أن أترفع عن الرد عليهم ولا أرد الإساءة بالإساءة، كانت تلك تجربة مريرة.
ـ هل تقصد تلك المقالات الغاضبة في جريدة ‘الحرية ‘ حلقات ـ كنت شيوعياً ‘؟
- كانت تلك وليدة الاضطهاد والأذى النفسي الذي تعرضت له في ظروف نفسية ومرضية صعبة، ومع ذلك كنت أتمنى لو أنها لم تحدث، لأنها أساءت للجميع، كان علينا جميعاً أن نترفع عن تلك الخصومات والمهاترات، لأن الناس ينظرون إلينا كنخبة مستنيرة من مثقفي البلد.
ـ تعني زملاءك الأدباء ؟
- ليس الأدباء فقط بل والسياسيين وكل العاملين في الأحزاب المختلفة.
ـ ذكرت الصحافة أنك تعرضت للجواهري والبياتي، هل كانت بينكم خصومة أدبية؟
- أنا لم أكن خصماً لأحد، أنا ضد الخصومات الأدبية لأنها لا تليق بالأدب، بعض دعاة السوء روجوا للنميمة والكذب، أنا أحترم الجواهري فهو أستاذنا وشاعر كبير، ومكانته الأدبية في العراق لا يمكن أن ينال منها أحد، ولم أسمع أن الجواهري قال عني شيئاً سيئاً، فهو أكبر من ذلك.
ـ والبياتي ؟
- البياتي فكر بمصلحته الشخصية من أجل الشهرة، وانضم إلى أولئك الذين حاربوني لفكري الحر، وحاولوا إهمالي وتجاهل مكانتي الشعرية،
وظهر ذلك جلياً في الإجتماع الذي حضرته في بيت الجواهري لإنتخاب الهيئة الإدارية لإتحاد الأدباء، لقد شاهدت بعيني مؤامرة ضدي (وهذا يؤكد شهادة بلند الحيدري ولميعة عباس عمارة، اللتين أشرت لهما سابقاً.)
ـ هل أنت حاقد عليه؟
- لا .. هو أخطأ بحقي وهاجمني ووقف ضدي ومع هذا، فأنا لست حاقداً عليه ولا حقد لي على أحد، لأنه في الحقيقة أساء لنفسه، وأنا في النهاية أفكر بموضوعية وبلا تعصب ضد أحد، فهو من شعرائنا المعروفين، وله مكانته في أدبنا الحديث ..
أكبرت في السياب هذه الروح العالية، وهذا التسامي الخلقي الرفيع الذي هو شيمة المبدعين الكبار ذوي القلوب الصافية التي تترفع عن الحقد، وتعلو بكبريائها وأصالتها عن الصغائر، وتظل دائماً في الذرى العالية من إبداعها الخلاق.
(هذه الشهادة نقلتها للصديق عبدالوهاب البياتي في جلسة خاصة في شقتي بالجزائر، حين زارها عام 1982 بدعوة من اتحاد الأدباء والكتاب الجزائريين. وقد أدرجها البياتي في كتابه عن تجربته الشعرية الذي صدر بعد ذلك بسنوات في بيروت، وقد اعتبرها إشادة بمكانته الأدبية يفخر بها..)
قد يكون ما لقيه السياب من عسف وجحود وتجاهل لموهبته الشعرية الكبيرة، هو الذي جعل منه إنساناً عصبياً قليل التروي في تصرفاته، متسرعاً في اتخاذ قراراته، لا يحسب كثيراً للعواقب، أضف إلى ذلك ما جُبلت عليه طبيعته من حساسية مفرطة وطبع حاد صار جزءاً من تكوينه النفسي والبايولوجي، هذا كله جعله كثير الأخطاء وكثير الندم عليها حيث لم يكسب من ورائها شيئاً، إن لم نقل في الواقع إنها سببت له أذى وضرراً بالغاً في كثير من الأحيان.
في عام 1981 إلتقيت الجواهري في الجزائر، بشقة صديقي الأديب الدكتور محمد حسين الأعرجي الذي كان يعمل معي بجامعة الجزائر العاصمة. الجواهري قدم من براغ بدعوة خاصة من صديقه الأعرجي، ونزل ضيفاً عنده بشقته في منطقة (بن عكنون). وانتهزنا فرصة وجوده بالجزائر فأقامت له الجامعة أمسية شعرية، قدمته فيها للجمهور الغفير من الطلبة والأدباء ورجال الإعلام الذين حضروا لرؤيته وسماع قصائده، ولا سيما قصائده الشهيرة التي مجد فيها ثورة الجزائر العظيمة وشهداءها الخالدين.
في سهرة عشاء بشقة الأعرجي، حدثت الجواهري عن لقائي بالسياب في الكويت، وزياراتي له في المستشفى وهو يقضي أيامه الأخيرة هناك، ذكرت له ما قاله عن الأدباء العراقيين وخصوماتهم الأدبية، وسط الصراعات الحزبية التي عصفت بالعراق في تلك الأيام، وذكرت له بالتحديد ما قاله فيه وإشادته بمكانته الشعرية، كان الجواهري يصغي بانتباه مطرقاً وكأنه يسبح مع ذكريات الماضي، وهو يمسك بمسبحته الكهرمانية الخرز .. رفع رأسه وقال:
- ‘الله يرحمه.. لم تكن بيني وبينه خصومة أبدا’، ما ذكرته يوماً بسوء .. ولم أسمع أنه ذكرني بإساءة، كانت هناك نميمة ودعاة عداوة، وحتى ما ذكرته الصحافة لم يكن إلا من باب التهويل والإثارة، أنا في الحقيقة تألمت كثيراً لما أصابه من غبن وتجاهل، فهو شاعر مقتدر دون شك، وهو أفضل شعراء جيله..لم ينصفه أحد، لا الحكومات ولا أصدقاؤه الأدباء، لقد كان موته خسارة للأدب العراقي، ولا شك أن الذين ناصبوه العداء، من الأدباء والأحزاب سيندمون على ذلك’، في الأيام الأخيرة التي تلت ذلك بدأت صحة السياب بالتدهور، وأجريت له عدة عمليات جراحية، قال الأطباء إن جسمه المتهالك والضعيف جداً، لم يستطع تحمل مضاعفاتها. حينما كنا نزوره كانت تنتابنا حالة من الفزع ونحن نرى هذا التدهور السريع في صحته حيث كان جسمه يتضاءل تدريجياً، وتغيرت ملامح وجهه الذي صارت تعلوه صفرة كالحة توحي بصفرة الموت، وكان يتحرك بصعوبة ويتعبه الكلام وأحياناً يكتفي بالإشارة من يديه الناحلتين أو عينيه الذابلتين، اللتين انكمشتا وضعف بصره بسبب داء السكري .. ولم تمض أيام قليلة حتى انطفأ قنديل الشعر المتوهج الذي كان يضيء سماء الشعر العربية بأبهى القصائد وأسماها، في ذلك اليوم الشتائي الممطر،لا بد أن تكون أظلمت سماء العراق، وخيم فوق ربوعه حزن دامع قل نظيره. في ذلك اليوم لابد أن تكون بساتين (جيكور) وصفصافها الشجي، قد ناح حزناً عليه، ولابد موجات من اللوعة غطت صفحات مياه (بويب) حيث لم يعد أحد بعد اليوم يناغيه بحنان الطفولة:
(بويب .. يا بويب .. يا بويب ..)
أما قريته ‘جيكور’ التي طالما ناجاها في قصائده، فهو يفتقدها الآن، ويبحث عنها حين أدرك نهايته المحتومة، فيناديها للمرة الأخيرة، بصوت مخنوق لن يصل إليها أبداً :
أين جيكور ؟
جيكور ديوان شعري
موعد بين ألواح نعشي وقبري
أما الحدث المفجع الذي ختمت به حياة السياب (وكلها سلسلة من الفجائع )، انه في يوم وصول جثمانه إلى البصرة وتشييعه إلى مثواه الأخير ليدفن في مقبرة ‘الحسن البصري’، بدأت السلطات بتهجير عائلته وطردها من البيت الذي أعطته له دائرة الموانئ في البصرة بعد فصله من عمله. ويذكر صديقه الوفي علي السبتي الذي حمل جثمانه من الكويت أن سلطات الحدود في ‘صفوان’ رفضت حتى استلام جثمانه وكان السبتي يصرخ بذهول في وجه المسؤولين ‘يا ناس .. يا عالم .. هذا شاعركم خذوه، أسمحوا له أن يدفن في بلده .. ‘ ومن مفارقات الزمن أن الحكومة تتذكر الشاعر بعد ذلك وتقيم له تمثالاً يطل على شط العرب مرتدياً تلك البدلة الرمادية الفضفاضة ذاتها التي شاهدته فيها حين وقف على المنصة ينشد قصائده في ‘العالية’ وكأني به وهو في قبره يتمثل بسخرية مريرة بقول الشاعر العباسي دعبل الخزاعي :
إني رأيتك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي
بعد وفاة السياب كتبت حديثاً أدبياً لإذاعة الكويت، تحدثت فيه عن حياته ومكانته الشعرية في العالم العربي، مركزاً على انطباعاتي الشخصية عنه خلال الأيام الأخيرة التي قضاها في المستشفى الأميري، وكنت يومها أكتب أحاديث وأعد مسلسلات درامية مقتبسة من روايات عالمية، يقوم بإخراجها صديقي المخرج العراقي المبدع مهند الأنصاري الذي كنت أسكن وإياه في شقة واحدة بمنطقة (حولي) وكان معنا الفنان حكمت القيسي، بعد إذاعة الحديث تحمس الأنصاري لإخراج مسلسل إذاعي عن حياة السياب، واستشارني في كتابة سيناريو الحلقات،
رحبت بالفكرة وعرضتها على عبدالله خلف رئيس القسم الثقافي بإذاعة الكويت، فاستجاب لها مشجعاً على البدء في الكتابة. كتبت عشر حلقات على شكل سيناريو تمثيلي موزع على عدة شخصيات رجالية ونسائية لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بحياة السياب. إستعنت بأصدقائي وبمن أعرفهم وعلى رأسهم علي السبتي في توثيق بعض المعلومات التاريخية حول حياته، ورجعت إلى بعض الكتب والدواوين المتوفرة آنذاك. أكملت الحلقات وسلمتها إلى عبدالله خلف،
الذي سعد بها وطلب من مهند الأنصاري أن يبدأ العمل فوراً. إتفق مهند مع بعض الفنانين المصريين العاملين هناك في ذلك الوقت مثل إسلام فارس وزهرة العلا وعبدالله الطوخي .. على الإشتراك في تمثيل أدوار المسلسل، ولسوء الحظ مرض مهند فجأة وسافر إلى العراق، فتوقف مشروع هذا العمل الأدبي التوثيقي الذي تركت مسودات حلقاته في أرشيف الإذاعة الكويتية، ولم تفلح محاولات تجديد العمل فيه مع مخرج آخر حتى تاريخ مغادرتي الكويت عام1969.
في عام 1966 زار الكويت الشاعر العراقي حسين مردان، بدعوة من صديقه علي السبتي الذي حجز له إقامة ‘بفندق دمشق’ لمدة أسبوع وكنت أزوره يومياً هناك. ثم أقام له السبتي دعوة عشاء في بيته، دُعيت لها مع بعض الأصدقاء العراقيين المقيمين في الكويت آنذاك، أذكر منهم الصحفي يوسف سلمان، وأستاذي في الجامعة الأديب والمترجم أمجد حسين (الذي ترجم رائعة شولوخوف ‘الدون الهادئ’ مع علي الشوك وغانم حمدون). تذكرنا السياب ومأساة موته وغربته وما صاحب ذلك من المتاعب التي تحملها بشهامة علي السبتي من بدايتها في البصرة حتى وصوله مريضاً إلى مطار الكويت ثم علاجه في المستشفى وعودته مرة أخرى إلى البصرة لكي يتم دفنه هناك. جددنا ذكراه وقرأنا بعض قصائده، وخاصة تلك التي كتبها في أيامه الأخيرة ونشرتها صحيفة (صوت الخليج). فجأة نهض علي السبتي وقال :
الآن سأريكم شيئاً مهماً، ثم دلف داخل المنزل، وبعد دقائق عاد وهو يحمل مظروفاً كبيراً وضعه على الطاولة قائلاً: – ‘جمعت في هذا المظروف قصائد السياب التي نشرتها له في ‘صوت الخليج ‘ وهي بخط يده، مع بعض الأوراق والرسائل التي تخصه ‘.. قلنا بدهشة: هذه أوراق تاريخية مهمة، واندفع حسين مردان ماداً يده لأخذ المظروف، قائلاً للسبتي: ‘أعطني هذه الأوراق، وسأكتب عنها في صحف بغداد حين عودتي.وسوف أشير إليها في ديواني المعد للطبع – (حسين مردان جاء لجمع تبرعات من أصدقائه لطبع ديوانه ‘طراز خاص ‘ الذي ينتظر الطبع في بغداد حسبما قال لي وقد جمعنا له فعلاً في تلك الليلة مبلغاً لا بأس به )،ولكن علي السبتي رفض بشدة، قائلاً:
- سأعد كتاباً خاصاً عن السياب، وهذه الأوراق هي مادتي التوثيقية.
باركنا الفكرة وقلنا له إننا مستعدون للتعاون.. قال باهتمام: ‘علينا أن ننهض جميعاً لتدوين إرث السياب، إنها مسؤولية أصدقائه الأدباء’ ثم التفت إلي وكأنه تذكر شيئاً وقال :
- ولكن ما مصير الحلقات الإذاعية التي كتبتها عن السياب؟
وهنا كان عليّ أن أروي قصة المسلسل الإذاعي منذ البداية، وعلى مسمع من أصدقاء الجلسة .. لم أعرف حتى هذه اللحظة (وأنا مقيم في بريطانيا منذ سنين، وغادرت الكويت قبل أكثر من أربعين عاماً) إن كان علي السبتي قد أنجز كتابه عن السياب أو جزءاً من ذكرياته معه، وإذا كان قد فعل، فلا شك أنه سيكون من أصدق وأشمل ما كتب عن الراحل الكبير، نظراً لأمانة علي السبتي ومعايشته الفعلية لتلك الظروف المروعة التي رافقت مرضه ورحيله الفاجع.
هذا بعض مما أسعفتني به الذاكرة عما تبقى من ذكرياتي الخاصة مع السياب، وعساني أستطيع مستقبلاً أن أستكمل بها ما قد تسعفني به ذاكرتي لأجمع ما تناثر من شتات الماضي، وذكريات تلك الأيام التي فاتت . ولابد من القول في آخر المطاف، بأن السياب رغم كل أخطائه، وظلمه لنفسه، وتجاوزاته البريئة، سيظل واحداً من كبار المبدعين، إنساناً عظيماً وشاعراً كبيراً قل نظيره في تاريخ الشعر العربي الحديث. أما أنا، فحين أنظر إلى نفسي، مسترجعاً تلك الأحداث، متذكراً ملامح تلك الوجوه النادرة في ذلك الزمن الاستثنائي، لا بد أن أقول: كم كنت محظوظاً أنني عشت في زمن الجواهري والسياب والبياتي والحيدري ونازك الملائكة. وكم كنت محظوظاً أكثر أني قابلتهم شخصياً وتحدثت إليهم، وجمعتني مع بعضهم صداقة حميمة، ستظل أبداً مصدر فخري واعتزازي، فهي عندي من أغلى ذكريات العمرعن ذاك الزمن الذي لن يتكرر ولن يعود !


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة