الإثنين 2024-12-16 06:16 ص
 

جان فرنسوا ماتي: أوروبا تائهة ثقافيا وديمقراطيا

07:18 م

يرى أن ثمة ظاهرة 'إنهاك' للديمقراطية التي باتت تُستعمَل كيفما اتفق، وصارت تذوب في أي شيء وفي كل شيء. هذا في الوقت الذي يطالب فيه بعض الكتّاب في الولايات المتحدة الأميركية اليوم بحق الحيوانات والنباتات في نوع من الديمقراطية، وفي ذلك شكل من الديمقراطية الطبيعية التي يتمتع في داخلها كل كائن حي بنفس الحقوق المتاحة للكائن البشري. فهو يؤيد أن أهم مؤسسات الفكر الأوروبية تعيش الآن حالة من الوهن، وكأن كل ما قدمته الثقافة الأوروبية الشمولية في القرن الثامن عشر، من أنوار، بدأ يضعف الآن في مبادئه. بمعنى أن هذه المبادئ لم تعد تثري الواقع بما فيه الكفاية. من هنا نفهم أن فكره ليس فكر انحطاط الثقافة الديمقراطية، بل فكر إنهاك هذه الديمقرطية. ففي هذا الشان يقول: 'ظني أن ثمة صدمة ما بين مختلف الثقافات، ليس ما بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الأوروبية، بل ما بين رؤى مختلفة لثقافة عصرنا: الرؤية الإثنولوجية، والمقاربة الأنتروبولوجية، وثقافة الضواحي المضطربة، وثقافة البرجوازيين، والثقافة المضادة، إلخ'. اضافة اعلان

إنه الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ماتي Jean-François Mattéi، الذي رغم ما يشعر به من إحباط وتشاؤم، يُضخّم في كتابه الأخير 'محاكمة أوروبا'، الثقافة الأوروبية، ولا يتردد في تأكيد هيمنتها. فهو يؤكد أن أوروبا في جوهرها هُوية ثقافية لم تفلح يوما في تحقيق وحدتها السياسية، إذ يقول 'لم تحقق أوروبا هذه الوحدة في العهد الروماني، لأن هذه الإمبراطورية انهارت في النهاية. ولم تحقق هذه الوحدة أيضا فيما بعدُ في زمن شارلمان، ولا حتى في عصر نابليون. وفي ذلك مفارقة صارخة، لا سيما وأن أوروبا والأوروبيين هم الذين اخترعوا السياسة والديمقراطية. والحال أن أوروبا فشلت في تحقيق وحدتها، على الرغم من امتلاكها لثلاثة عوامل وحدة بديهية: العلوم اليونانية، والقانون الروماني، والديانة المسيحية، وهي العوامل التي كانت تمثل 'إسمنتها' الثقافي. لا تهمني أوروبا الحالية بمواطن قصورها وفشلها بقدر ما تهمني المادة الثقافية الجوهرية التي تُثبت نجاحاتها'. هل يعني هذا أن جان فرنسوا ماتي منبهر بنجاحات أوروبا؟ إنه بالفعل يدافع عن هيمنة الثقافة الأوروبية التي يرى أنها ثقافة عابرة للحدود، ما دامت قد فرضت معاييرها على الشعوب الأخرى من خلال اكتشاف ثقافات هذه الشعوب ودراستها، إذ يقول 'ما من ثقافة أخرى غير الثقافة الأوروبية اخترعت الإثنوغرافيا والأنتروبولوجيا'.
لكن مع روح 'الغزو' التي ظلت تميز أوروبا على مر القرون، ألا يرى الفيلسوف جان فرنسوا ماتي، أن أوروبا اليوم تعاني من نوع من الممانعة، ونوع من الانعزالية والإنطواء على الهُويات، وهو ما يجسده اليوم الجدل الواسع الدائر في فرنسا حول الهجرة؟ في هذا الشأن يوضح ماتي أن الأوروبيين، في الحقيقة، لم يعودوا يشعرون بتراثهم الثقافي، وحتى وإن ضاعفوا التظاهرات العامة، والإعلامية حول هذا التراث، في المتاحف والمعارض وغيرها فإن كل هذه الفعاليات ستظل تعبيرا مجردا، وغير معيش حقا. وكل هذا، في رأيه، معاكس تماما لما كان سائدا في أوروبا في قرون سابقة، إذ يقول 'في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بل وحتى في بداية القرن العشرين كان كل المفكرين والفنانين والفلاسفة، والشعراء والموسيقيين يملكون الشعور بالانتماء لهُوية ثقافية موحدة. من منا لا يذكر ديدرو، وهوغو، وبودلير، وعلى الجانب الآخر من الأطلسي إدغر بو، وتورو، وغيرهما؟ هؤلاء كانوا يملكون الشعور بالانتماء إلى بيت مشترك ألا وهو الفكر الأوروبي، أو إن شئتم الفكر الغربي. واليوم أصاب هذا الشعورَ الضعفُ والوهن. ويتجسد هذا في انطواءٍ مزيّف على الهُويات يرافقه الخوف من كل ما هو آتٍ من الخارج. إننا نملك تراثا هائلا، لكننا لم نعرف طريقة استعماله. وكأن الذين سبقونا قد نسوا أنْ ينقلوا إلينا هذا التراث، وما يحمله من الروح التي تعلمنا كيف نتصور أوروبا. لذلك يراودني الإحساس بالفشل الذي يجرنا لا محالة إلى حركة الإنطواء التي باتت تميزنا'.
وفي ظن جان فرنسوا ماتي أيضا أن الجدل القائم حاليا حول الجذور المسيحية لأوروبا يبيّن إلى حد البداهة أن ثمة طمسا وتعتيما مقصودين لجزءٍ من التراث الأوروبي، إذ يقول 'فالأمر وكأن النخب الثقافية في زماننا تخشى التذكير بأن أوروبا تمتلك ليس أوّلا، وليس على الخصوص، بل أيضا تراثا مسيحيا لا جدال فيه. ففي الوقت الذي يُطلب منا أن نؤكد على بُعد الذاكرة في التاريخ فإن من الغريب أن تأتي الرغبة في محو جزء مُهِمٍّ من التاريخ الأوروبي'. وهنا يدعو الفيلسوف جان فرنسوا ماتي، مواطنيه، إلى تأمل ما قدمته المسيحية من مساهمات عميقة للحضارة الأوروبية: 'لا تنسوا أن العلمانية التي نعتز بملكيتها، وبالانتماء إليها كانت اختراعا مسيحيا. ناهيك عن مقولة' إِعطِ لقيصر ما لقيصر' الشهيرة... فالكنيسة هي التي ميزت بين ما هو ملك للشعب، وبين ما هو ملك لرجال الدين. فالكلمة الإغريقية التي تستعمل في تعريف العلمانية مشتقة أصلا من تقسيم ديني يفصل العالم العلماني عن العالم الديني'.
لكن، ألا يخشى جان فرانسوا ماتي من أن يُتّهَم بتكريس الغطرسة الأوروبية؟
في هذا الشأن نراه يؤكد أن أصالة الفكر الأوروبي تكمن دائما في كونه لا يدخر جهدا في انتقاد نفسه بنفسه، إذ يقول 'إن الثقافة الأوروبية حتى عندما تمنح نفسها الحق في أن تخاطب الشعوب الأخرى فهي تعود دائما إلى نفسها من خلال نقدها الذاتي'. وهنا يستشهد الفيلسوف ماتي بالأديب الفرنسي 'مونتيني' الذي يقول لنا في كتابه 'أكلة لحوم البشر': 'إن هنود العالم الجديد كانوا أقل همجية من الاسبان والبرتغاليين'. فهذه، يقول جان فرانسوا ماتي، أولى الانتقادات الذاتية التي توجَّه للاستعمار الذي يدّعي استناده إلى المبادئ الأخلاقية والقانونية والدينية الأوروبية. إن عظمة الحضارة الأوروبية كانت دوما إدراكها لمساوئها، ومحاولة تصحيحها. إنسانوية أوروبا التي طالما كانت موضِع انتقاد كانت مع ذلك منبع 'الميثاق العالمي لحقوق الإنسان' الذي تقرّه اليوم معظمُ شعوب العالم'.
سُئل جان فرانسوا ماتي إن كان بالإمكان تحديد سياسة أوروبية صالحة لأن تتبناها دول العالم فرد قائلا 'فلكي نبني أوروبا علينا أن نبدأ أوّلا بتعريف لفظ 'أوروبا'. تُرى، ما الذي تعنية كلمة أوروبا؟ لن نصنع أوروبا السياسية، ولا أوروبا الاقتصادية إذا لم نتفق أوّلا حول الأسس الثقافية، على نحو ما نتحدث على أساسيات التعليم في المدارس، من تعلم القراءة، والكتابة، وقواعد اللغة، والحساب... فما هي أسس أوروبا إذن؟ لست متأكدا إن كانت المدارس والجامعات تلقّن هذه الأسس في صفوفها ومدرّجاتها. ولذلك السبب لم يعد للطلبة أي إحساس أوروبي حقيقي. فهم لا يملكون قلبا أوروبيا، ولا عقلا أوروبيا! إذن ما الذي تبقّى؟ لم يبقَ سوى الاستهلاك والقنوات الفضائية! ليس إلا!
هذه هي أوروبا التائهة ثقافيا وديمقراطيا، كما يراها الفيلسوف جان فرانسوا ماتي وغيره كثيرون. فهل تحتاج أوروبا إلى 'ربيع أوروبي' لكي تنهض من جديد، أم أن النهضة القادمة ستأتيها من آفاق أخرى، عبر الدورة التاريخية الجديدة التي يُنبئنا بقدومها مفكرون عدة؟

 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة