الإثنين 2024-12-16 04:20 ص
 

‘رحلة الضباع′ لسهير المصادفة: الانتصار بالكتابة

02:28 م

الوكيل - في روايتها الجديدة ‘رحلة الضباع′، الصَّادرة عن المجلس الاعلى للثقافة 2013، تحذو الكاتبة سهير المصادفة حذو كِتابات كثيرة، تسعى للانتصار للمرأة من بطريركية الرجل، وذكوريته المُفْرطة، والتحرَّر من نصاله.اضافة اعلان

وهي الكتابات التي صارت تُرسِّخ لمفهوم الجندر، لكن هنا تنحو سهير المصادفة منحى آخر، بتضفير الرِّوايَّة بالتراث، في إشارة ذكية منها لا تقل عن بطلتها نرمين، التي تلجأ للكتابة، فتقدُّم لنا المؤلفة تاريخاً حافلاً عن الوأد والقمع والاغتيالات، علاوة على حالات الإقصاء، وقد مُورس جميعه بِفعْلٍ ذكوري محضٍّ، قد تمتدُ جذوره قبل ألف وأربعمائة عام، بعد خلافة الرسول الكريم بثلاثين عاماً، في إشارة لأحداث الفتنة، لتربط مآلنا الآن إليه، كاحدى نتائجه التي كانت متخفيَّة تحت دعاوى الاصلاح والهداية والجهاد وغيرها، بل كان يجب الامتثال لتلك الحقيقة التي خبرتها امرأة عبر رحلتها مع الضباع في ضروب الصحراء، من أجل مداوة روحها، فما إن رأت المصائب قادمة، سعت الى درءها، فجاءت نصيحتها بألا ‘تخترعوا أسباباً للهرب من تعمير الأرض واللعب بالسيوف والخيول والإبل فيما تسمونه حروباً وغزواتٍ وجهاداً’ (ص 126) دون أن يلتفت أَحد لدعوتها الصالحة لِكُلِّ زمانٍ.
تعمدُ المؤلفة الى اضفاء بُعد حداثي على روايتها، فهي لا تريدُ أن تُقدِّم حكايتها الإطار بشكل كلاسيكي ساذج، عن قهر الرجل للمرأة، وتمرُّد المرأة، فهذا نمطي ومن مكرور القول، منذ أن فعلتها نورا في رائعة إبسن ‘بيت الدميّة’ وخرجت بعد أن صفقت الباب خلفها، وإنما تسعى إلى تدمير كُلِّ ما هو مرجعي وزحزحتْ أنساقه الثقافية بما يتلائم مع رؤيتها التي تريد أن تُضْفيها على النص، لتتجاوز به زمنها الحاضر والإيهام به، إلىزمنٍ قرين مشابه في الفعل، بل يكادُ يكون زمناً متعدِّداً يتداخلُ فيه الحاضر بالماضي، مثلما تتداخل أحداث الرِّواية بين التخييّل والتاريخي، والأخير بالتأليف (لتكون السوداء هي التطوير الفني لشخصية زرقاء اليمامة التاريخية التي اكتفت بالتبليغ وفقط) أو بالاعتماد على المصادر. تتخذُ الكاتبة من هذا التراث وسيلةً لبناء نَصٍّ موازٍ للنص الواقعي، وهو ما يسمى بتقنية ‘الرِّوايَّة داخل الرواية’، حيث ثمَّة خطَّان سرديان يُشكِّلان النص، الخط الأول يُلقى بظلاله على الواقع، وإشكالياته، وما تكشفه من حالات فساد وانعدام الضمير، وهو ما تُمثِّله حكاية طرفها الأول جمال إبراهيم، صحافى مجهول ينتمي زمنياً الى زمن التكنولوجيا الرقمية، وإن كان ينتمي فكرياً الى عصور راديكالية، الكلُّ يتطوَّر حوله وهو يقفُ جامداً، يعمل مُصحِحاً في صحيفة ‘أندلسية’، وعندما يكتب مقالاً لا يلتفت إليه أحد، وطرفها الثاني زوجته نرمين، تبدو شخصية مُدَجَّنَة إلى حدٍّ بعيد لفترة، ثم يحدث التمرُّد، فيعيد الزوج اكتشافها من جديد رغم ظنه أنه احتواها، مذ أيقن سرّ هيامها به بسبب الفراش، حتى تخيّل نفسه إلهاً وهو فوقها ‘تتوسّل إليه بألا يتوقفَ عن منحها عطاياه’ (ص44)، وما أن يعثر قصاصة مما كتبته، حتى يُصَاب بالجنون وتساوره الشكوك وينتهي الأمر بينهما إلى الطلاق، وفي نهاية الرواية يكتشف بعد انتظاره هطول دموعها بعد خروجها من جنته أنّه ‘منْ كان يبكي منذ لحظات بحرقة لم (يختبرها) في (حياته)’ (والتشديد من عندنا ص 245)، وتتوإل الاكتشافات على طول السَّرد، فيكتشف أنها أخرى غير التي كانت معه وفقدها، نعم سافرة ترتدي الجينز، وتعقص شعرها بدبوس كبير إلى أعلى، لكن ‘لا يثير فيك إلا احترام صاحبته’(ص 247). كما يكتشف أنها تجيد الكتابة على الكمبيوتر، وأشياء أخرى ظن أنها بعيدة عنها.
حبكة الرواية بسيطة تظهر من خلال العلاقة الشائكة بين الزوجين؛ الزوج الذي يُطبق حصاراً على زوجته، يبدأ بفرض النقاب عليها وصولاً إلى الشَّك فيها، فتبدأ الأجواء البوليسية والقهرية اللتان يمارسهما عليها، وينتهز غيابها بعد أن أرسلها إلى أمه وهو يعلمُ أنَّ العلاقةَ بينهما باردة، ليقوم بتفتيش البيت للبحث عن دليل إدانة، إلا أنه يفشل، وتعلم ما قام به، فيغيِّر وسائله إلى الاستعانة بالكاميرات لتعقُّبها والقبض عليها متوَرِّطة بالكتابة. من هذا الصِّراع ننتقل إلى اكتشاف مخطوط الزوحة، وهو بمثابة ‘رواية داخل الرواية’، تمزج فيها الزوجة بين رغباتها التي وأدت على يد الزوج، وبين التراث، واستحضار تاريخه، وتاريخ الذكورية المؤلم على النساء، وعلى الأمة كلها، كما سجَّلتْ كتب التاريخ التي يأتي بعضها كمصادر لما ورد في المتن مثل، تاريخ الطبري، والمقريزي، وهو ما يأتي كإدانة للواقع المعيش، بما يمثِّله من تاريخ موازٍ ومخالف في ذات الوقت، كثير منه، لم ينصف المرأة بل جَارَ عليها على طول تاريخها رغم الرَّحابة الفكرية المعلنة وحالات الاستيعاب المليئة بها كتب التراث عن نساء لعبنَّ دوراً مهماً، وقد قدمت نموذجاً داخل متنها بشخصية ‘دلوكة’ بنت زيا من ملوك القبط الأولين بمصر، وما فعلته لحماية مملكتها من الأعداء.
تعود الكاتبة أربعة عشر قرنا إلى الوراء، مُسْتَلِهمة أحداث الفتنة الكبرى عام 34، وما أحدثته من انقسامات في دولة الخلافة جرَّاء الحروب التي أكلت الأخضر واليابس، وجعلت الكثيرين أمثال أبي ذر وسعد بن أبي وقاص يفران منها، أحدهم بالاعتكاف والثاني لاذ بالصحراء. عبر قصة متخيَّلة تتوزاى مع أحداث التاريخ ترويها ‘السّوداء بنت الرومي’، الجارية التي هجرها مَنْ أحبت وذهب للقتال، وإن كانت ستعرف في النهاية أنه ذاهب ‘لا لشىء سوى جمع الغنائم والاستيلاء على المزارع وأسر الجواري. والأعجب أن لا أحد حاول إيقافه’(ص 117)، فهامتْ خلفه في الصحراء لتصل إليه، فتهبط عليها نبوءة وهي وحيدة في الصحراء، تنذر المسلمين بالخراب إذا استمروا في الاقتتال فيما بينهم، وأوصاها ‘عليك أن تُسرعي، أخبري المسلمين أنه يُقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويتركهم شيعاً فلا يبصرون الحق لعلو الباطل.’(ص105) وعلى إثر هذه النبوءة قررَّت أن تتبع حبيبها إلى الكوفة حتى تُسِرّ إليه بما سمعت، وقد تلبستها روح أخرى فصارت محصنَّة وقادرة على الاستبصار، وطيلة رحلتها في الصحراء بعدما انتشر خبرها، جاءت إليها نسوة ملتاعات ومهيضات من الفعل الذكوري علَّها تُقرِّب حبيباً، أو تنزل محبة في قلب مَنْ تهواه، وفي ذات الوقت تسعى برؤيتها للمتحاربين فيسخروا من دعوتها للسلام، حتى رأتهم أشبه بالضباع ‘يلتهمون بعضهم البعض عند الجوع كما الضباع′.
حكاية السّوداء في الأصل هي حكاية شفاهية ترويها الجدة لحفيدتها على أن تتوارث الحفيدات رويها لمن يأتي بعدهن من النساء، هنا تخرق الساردة / نرمين بصفتها الحفيدة الأخيرة، هذا الشرط بذريعة أنها عاقر، فيتحول النص من شفاهي إلى نص مكتوب، لنصبح إزاء مقابلة بين الشفاهي والمكتوب، وهو ما يشي إلى إمكانية تحويل التاريخ الشفاهي أو المهمش إلى تاريخ رسمي، ليس صادراً من عقل ذكوري ناقل، وإنما من ذات نسوية متأمِّلة بما تحمله من رؤية مخالفة للرجل قد تكون مصيبة أكثر من الرجل في كثير من الأوقات، والشاهد موقف نرمين من صدام حسين ونهايته، وهو ما خالف رؤية الزوج (جمال) الذي كان مؤمناً بأنه سيقهر أمريكا، وتحققت نبوءتها.
تلعب المؤلفة على التقنيات سواء بالمقابلات التي تحدثها بين زمنين آني وآخر قديم يفصل بينهما تاريخ مديد، أو حتى التقابل بين الشخصيات على نحو ما قابلت بين شخصيتي ‘جمال ونرمين’ بشخصيتين من التراث (وإن كان متخيلاً) هما ‘عمر بن عدي والسوداء بنت الرومي’، علاوة على تعدُّد الخطابات كالخطاب المعرفي (صِفات الضباع)، وخطاب تراثي (حكاية عمر بن عدي والسوداء بنت الرومي، ومن خلالها نفذت إلى أحداث الفتنة الكبرى) وخطاب شعبي يحتفي بالمعيشي واليومي، كما تجلّى في صورة الأحداث الجارية في الصحيفة، وأسرار التحقيقات، ومشاكل الصحافة (الجهل بالكتابة والأخطاء الإملائية، والاعتماد على المصادر التليفونية إن جاز الوصف، بدلا من النزول إلى موقع الحدث)، وتقديم صورة الصحفي العابث كما في حالة حسن عبد الصبور، وهي صورة أقرب إلى الصورة التي قدمتها الدراما والسينما، حيث الاستغلال والعلاقات المشبوه والنسائية، وهو ما انتهى بالعثور على جسده في عشرة أكياس سوداء، موزَّعة على صناديق القمامة كما تخيلت، إضافة إلى الخلافات الزوجية والأسرية كما هو الحال بين زوجته وأمه وأخته رقية، رغم حالة السلام الظاهري بينهم. هذا الخطاب الواقعي رغم عدم التركيز عليه، والاكتفاء بالإشارات، إلا أنه كان كفيلاً وكافياً للوصول إلى النتيجة التي حدثت في 25 يناير، وخروج أنبل ما أنجبت مصر كما عبَّرت الزوجة التي اندست وسطهم بعد أن تخلَّصت منه.
وقد انعكس تعدُّد الخطابات على اللغة التي صارت متعددِّة، فثمة مستوى للغة التراثية كما هو واضح في مخطوط نرمين، وهو يتماس مع اللغة في كتب الحوليات التي استقت منها مادتها، وهو نفس ما نراه في الخطاب المعرفي المكتوب به صفات الضباع، وثمة خطاب واقعي معيشي، وهو الخطاب المتدوال في البيت ومع أمه وفي الصحيفة، يمزج بين الوصف والحوار أحيانا، كما أن مفرداته تتماشى مع لغة الخطاب اليومي المتداول في الشارع فتتردد عبارات تجري مجرى العامية رغم فصاحة بعض ألفاظها على نحو (اتنيل، يا روح أمك، حد كان ضربهم على إيديهم، يبقى والله عداها العيب، اتجوزني وحأكون خدَّامة، استني، يا شيخة حرام عليك، إلهي ينشك في قلبك، والنبي خدي دول كمان ليكي)، وقد يصل إلى حد الابتذال في استخدام مفردات خارجة، كما هو الحال في (شرموطة، ست سافلة، عاهرة، فاجرة (وذكر أسماء الأعضاء التناسلية))، كما يتردد شريط لغوي سريع، يتناسب مع إيقاع العصر اللاهث، وهو خطاب محدود نوعاً ما، يعكس ثقافة جيل جديد وقد ظهر في حوار الشاب بصديقه بعد الحادثة، فنرى عبارات من قبيل: ‘يا مان، يا ريت تنجز، عمر الشقي بقى’(ص205)
الخطاب المعرفي المتمثِّل في الإشارات المقتبسة من كتاب الحيوان عن صفات الضباع، له دلالته ورمزيته في التمهيد للوحدة. العجيب أن توزيع هذه الصفات على مداخل الفصول كان حكراً على الحكاية الواقعية (حكاية جمال ونرمين) والتي تشغل أربع وحدات سردية تبدأ من بداية الرواية حتى ص(94) وهي مروية بضمير الأنا العائد على جمال، ثم يفصل الثلاث وحدات (7،6،5) الوحدة السَّردية المعنوّن بها النص ‘رحلة الضباع′ وتشغل مساحة سردية من (ص101ــ 194)، وهي المروية بصوت نرمين، إضافة إلى وحدة سردية تأتي بعنوان ‘في انسحاب المحبة’، وهي أقرب إلى صوت المؤلف الضمني، حيث نلمح نوعاً من المراجعة لصورة الزوج، خاصة بعد استخدام ضمير المخاطب ليعود عليه، كنوع من التغريب عن ذاتها. كشفت السَّاردة عبر صورة الزوج والصحفي حسن عبد الصبور، وموازاتهما بصفات الضباع وأفعالها، صوراً من الممارسات الفجة التي تمارسها الذكورية على المرأة، وهو ما تجلى في الرواية التي كتبتها نرمين عن ذاتها، وكانت بمثابة النافذة التي تتحرَّرت بها من نفوذ الزوج، الذي وارى رأسها بالنقاب وأراد أن يواري عقلها فأبت.
‘رحلة الضباع′ رواية لا تنتصر للمرأة فقط، بل هي شأن المرويات الكبرى التي تزحزح الأنساق البالية لتؤسس نسقاً مغايراً يتواءم مع روح العصر، ويسير في ركابه، مثلما فعلت نرمين التي انخرطت في الموجة الثورية لتطل وتبني مصر من جديد، أما الأرواح المتكلِّسة فتبقى نشازاً غريبة، مثلما هو حال جمال، بقي خارج المشهد يراقبه من بعيد دون أن يتصور أن يكون مشاركاً، علاوة على تدشين وعي معرفي جديد بقدرة المرأة في أن تنتقل من الهامش إلى المتن. وتعيد صياغة تاريخها بوعيها دون وصاية مِنْ أحدٍ.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة