الخميس 2024-12-12 11:29 م
 

سهرة مع دوف!

01:28 م

الوكيل - يُعد المرء لنفسه ووحدته في هذا العالم سهرة، يجلبُ زجاجة معتقة منذ 1953 من نبيذ فرنسي طيب ليشربها في بلادٍ صارت تدعي تحريم النبيذ، بينما الأقبية والمعاصر ما زالت حديثة العهد بالبلل، وموسوعات الفقه مليئة بأدلة التحليل، والقصائد زاخرة بالنشوة؛ هكذا تصبح زجاجة النبيذ نفسها نجمة السهر، هذه الزجاجة التي قطفها وعصرها وخمّرها وعتّقها الشاعر إيف بونفوا شخصياً، وسماها دوف (دوف تعني أيضاً حمامة، ونوعاً شهيراً من الكريم والصابون) نجمة السهرة هي التي يستحق أن يقيم المرء من أجلها وعلى شرفها هذه السهرة، ولأن المرء وحيد، ولا يجيد الفرنسية، فسيلجأ كي يفتح هذه الزجاجة الملهمة لفتاحتين تجيدان الفرنسية وبالتالي يمكنهما أن تفتحا هذه الزجاجة المستغلقة المعتقة، هكذا استعرت من مكتبتي الصغيرة كتاب ‘الصوت والحجر’ أنطولوجيا اختارها وترجمها محمد بن صالح وصدرت عن داري نشر، هما دار الجمل حيث اشتريتها. وآفاق للتوزيع والنشر 2007 وبدعم من المركز الفرنسي بالقاهرة.اضافة اعلان

لكن ما الذي أوحى للمرء أول مرة بهذه السهرة، وأشار عليه بهذه الزجاجة/ القصيدة، إن لم تكن فتاحة نبيذ فاخرة؟ ان لم تكن جذابة تلوح مخايلها في قراءة مغوية تستدرجني الى عوالم ثرية؟
في آخر كتاب: ‘قراءات في الشعر الفرنسي الحديث’ لسمير الحاج شاهين نشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1988 يخصص الكاتب قراءة لقصيدة (حركة وسكون دوف) وهي التي أوحت بالزجاجة والفكرة وهذه السهرة كلها.
(أيتها العبارة المطروحة مادية. فوق الأصل والليل) ت.شاهين
ها سيلج المرء أخيراً عالم إيف بونفوا الذي يحوم حوله منذ سنوات، لكن سرعان ما انكسرت إحدى فتاحات النبيذ؟ وكاد يقضى على السهرة!
من سيخون سهرة المرء المعدة بعناية فائقة؟ النبيذ أم الكتب؟ وهل تخون الكتب؟
هكذا بينما تحاول فتح زجاجتك لتجرب بداية طعم الزمن في النبيذ ستكتشف أن ترجمة القصيدة في انطولوجيا محمد بن صالح: قاصرة، عاجزة، مطفأة، ومنفرة لك بل ان قصيدة دوف نفسها مبتورة، كيف يمكن حقاً أن تكون هناك صورة لإيف بونفوا تكون فيها قصيدة دوف مبتورة؟ وما الذي سيبقى من معنى قصيدة مهمة مبتورة؟ ألم يشر إليها محمد صالح نفسه في المقدمة، إحدى البشائر للإعلان عن ولادة واقعية جديدة، يحاول أصحابها، تجديد العلاقة بين الشعر والعالم (ص6) وفي الحوار الذي أجراه صالح مع الشاعر ألم يوصه الشاعر على الشعر؟
(الشعر غائب من حقل الفكر المهيمن، بل اني ألاحظ في حالات عديدة أنه مخنوق بتعمد، ومطرود، وبطرائق فعالة بقدر ما هي بارعة. هكذا صاروا لا يقصدون بالشعر ما يكون انشغالاً بعمق الواقع.. ولكن يقصدون تجريباً بسيطاً على مفردات اللغة، وهو ما سيوهم بأننا ما زلنا نتكلم عنه: هنا يمثل الفخ الذي غالباً ما يسقط فيه الكتاب الشبان.. الشعر في خطر) ص14.
إذن كيف استساغ المترجم لنفسه أن يسقط أجزاء مهمة مما يعلم أنهُ محوري؟ لماذا يساهم بدوره في تغييب الشعر وفي خنقه؟
كتب عبده وازن نقداً حول التراكيب اللغوية الخاطئة في ترجمة صالح بمقال في جريدة ‘الحياة’ وكذا عدم اشارته لترجمات سبقته.
هناك تذكرت كل محاولاتي الفاشلة، على مدار أعوام منذ اقتناء الكتاب، لقراءة هذه الترجمة من شعر إيف بونفوا وأدركت السبب الذي كنت أعزوه لي. فهل فشلت السهرة إذن؟ هل ضاعت الزجاجة من يدي؟ هل ستبقى هكذا فرنسية مقفلة لا أملكُ لها فتاحة نبيذ؟ هل سيذهب كل هذا التعب سدى؟ هل سينغلق شعر إيف بونفوا من جديد، هناك في فرنسيته المستغلقة عليّ؟ وهذه القصيدة/ الزجاجة المعتقة منذ 1953 ستبقى عصية على فتاحة النبيذ؟
(لماذا الكره، لماذا البكاء، لقد كنت حية، الصيف العميق، النهار كانا يطمئناني) ت.شاهين
لكن لا، لا يمكن الاستسلام بسهولة لهذا الفشل المهين، أشعر بطعم النبيذ في حلقي، على المرء دوماً أن ينقذ سهرته بسرعة، ويا للمفاجأة!
أدونيس شخصياً من سيقدم يد العون للسهرة، بفتاحة نبيذ عربية أستطيع بها أن أتقدم مطمئناً نحو زجاجة النبيذ/ القصيدة المسماة دوف، سيكتشف المرء أيضاً مدى جهله الشنيع؛ ها هو الانترنت يدلني على ترجمة للأعمال الكاملة لإيف بونفوا أتمها أدونيس منذ 1986، ونشرت في دمشق عن منشورات وزارة الثقافة. وها هي قصيدة (دوف، حركة وثباتاً) مترجمة أحسن ما يكون وجاهزة للقراءة/ الفتح، والمواكبة التي يقدمها شاهين بعنوان (عن حركة وسكون دوف)، على امتداد خمسين صفحة من نهاية كتابه الشيق؛ اذن فقد تم (الحضور):
(ما هو الحضور؟ إنهُ يغوي كعملٍ فنيّ، إنهُ خامٌ كالريح او الأرض، إنهُ أسود كالهاوية، وهو مع ذلك يسكن الروع. إنه يبدو قطعة من مكان وسط أمكنة أخرى، لكن هذا يدعونا ويحتوينا. وهو لحظة ستضيع الف مرة. لكنه يملك مجد إله. إنهُ يشبه الموت)
أعدت ترتيب السهرة من جديد، مزيحاً فتاحة النبيذ المنكسرة التي كادت تفسد السهرة بعيداً، طبعت بسرعة النسخة الالكترونية التي عثرت عليها من ترجمة أدونيس، وعدت لسهرتي مع الزجاجة الفرنسية المعتقة.
(تستمتعين بموتك أيتها الأجمل من الصاعقة، حين يتبقعُ بدمك زجاج النوافذ الأبيض)
(الموت هو هذه الطريق العمودية تحت الضوء) ت. أدونيس
قراءة شاهين لدوف مرفرفة بأجنحة قوية، ترى عميقاً بطريقة دقيقة وفي نفس الوقت كلية فاحصة، وواضحٌ أنهُ لم يجعلها خاتمة لكتابة في الشعر الفرنسي الحديث عبثا، سمير شاهين الذي ترجم أناشيد مالدورور للوتريامون وكتب عن رامبو وترجم له عدة قصائد أشعرُ أنها تنافس على قلتها، ان لم تكن تعلو، على الترجمتين الشائعتين الكاملتين لأعمال رامبو من انجاز رفعت سلام وكاظم جهاد، لا بالميزان الدقيق لمعاني المفردات، لكن بميزان الجاذبية النصية التي تتجلى في سحرها روح الشعر الأصيلة، حيث تبدو وتتجلى لعين القارئ دوماً حارةً صادقةً ثريةً ومدهشةً من دون توقف. أقول هذا كمقامرة، لأني لم أقرأ الترجمتين الأخيرتين بعد! وللسكران أن يقامر.
(على خطوة الشموس في الفضاء الجنائزي)ت. شاهين
أتعارك الآن مع صورة ما يترجم إلى أرض الحضور/الموت العربية هذه من أعمال عظماء العالم، أستعيد منظر النسخ الرديئة ذات الترجمة البائسة، خاصة للأعمال الكبرى للقرن العشرين ولكتاب القرن العالميين المشهورين، مقارناً ذلك في نفس الوقت مع سمعة الشعر، خاصة الحديث، في عالم لغتنا العربية، تلك السمعة الشعرية التي صار يهاجمها ويتطاول عليها كل من لهُ لسان وقلم من كتاب المقالات، وكتاب سيناريو المسلسلات التعيسة، ولك أن تتساءل لماذا صار الشعر الحديث بالأخص مركب الاستهزاء، كأنهُ مهرّج الألفية؟ ومن وما السبب؟ وعليك أن تفتش عن الإجابة وحدك.
الشعر الحديث صار مطية من لا يجيد فعل شيء، صار من العادي والطبيعي أن يتقدم قارئ ما ليقول لك بكل صفاقة: أنا لا أقرأ الشعر، كأنهُ يترفع عن هذا الحضيض، في العالم المقلوب، وعليك أن تجيبه بصفاقة مماثلة: أحسن لك.
الشعر الذين يريد عالم القراء أن يخضعه لطريقة قراءته الاستهلاكية السريعة، على طريقة تناول وجبات ماكدونالدز، كفعل قراءة خاوٍ من الطعم واللذة والمعنى، والشعر الذي هو ذاته فاضح الكاتب ومعرّيه، وحارس المعنى وخالقه، صار بقدرة قادر خلواً مما يدعو للاحترام تتقاذفه دور النشر، ويستهزئ به الشارع الصحافي، وينتفخ أمام حضرته الرسميون وغير الرسميين والناشرون ورؤساء التحرير في المجلات، ظانين أنهُ متسولٌ جدير بالشفقة والإحسان، ولم يسلم حتى من ألسنة كتاب مقالات الدرجة الثالثة اللزجة!
أحياناً يشعرني العالم العربي أنهُ ترجمَ عبارة رينيه شار الشهيرة عن الشعر( الشعر والحقيقية هما، كما نعرف، مترادفان) إلى: الشعر والسخرية هما، كما نعرف، رديفان.
لكن هل ستزعج سهرتك مع دوف بهذا اللغط؟َ
لا لن أزعج دوف الفرنسية بهذا اللغط العربي، بتلك العلاقات المرضية، والنفسيات المعقدة للعالم العربي، والكتب الرديئة من مثل (ماذا خسر العالم العربي بانحطاط الناشرين) بل سأحافظ على نقاوة السهرة والنبيذ. لكنني سأرى هنا مع دوف كيف أن طريقة تعاملنا مع الشعر في عالمنا العربي تفضح إلى أين مدى بلغ انحطاطنا وجهلنا الشنيع. سأرى أيضاً كيف أن دراسات بسيطة كالتي انجزها سمير الحاج شاهين في كتبه لقراءة الشعر قراءة عميقة مكتوبة وذلك الجهد هو المقاومة العلنية لمحاولات خنق الشعر، لطريقة القراءة الاستهلاكية، لمحاولات سجن الشعر في الماضي المحنط، وهي الطريقة التي ستتمجد دروبها وستتكلل بالوصول إلى حيث الشعر حقاً.
(الضوء العميق بحاجة كيما يظهر/ إلى أرضٍ أنهكها الليل/ الشعلة تنبثق من حطبٍ مظلم) ت. شاهين وأدونيس
عماذا نبحثُ في الشعر، لماذا هذا الارتهان خلفه، لم هذه الرغبة الملحاحة التي لا تتوقف: (أيتها العبارة القريبة مني/ ماذا نبغي إن لم يكن صمتك/ أي ضياء إن لم يكن عميقاً/ ضميرك الدفين)
وماذا نحصد؟
(ماذا نلتقط إن لم يكن ما يهرب/ ماذا نرى إن لم يكن ما يعتم/ ماذا نشتهي ان لم يكن ما يموت/ إن لم يكن ما يتكلم ويتمزق)
(كل لحظة أراك تولدين، يا دوف، في كل لحظة تموتين) ت. شاهين
ليست طريقة قراءة الشعر شبيهة بقراءة غيره من الكتب، لا أعرف طريقة تشبه طريقة القراءة تلك إلا طريقة قراءة الكتب المقدسة؛ طريقة هي ذاتها شعرية: تقترب من القصيدة كأنما تغازلها، تعود وتلح على نصها من دون توقف، تصطحب كتابها معك من مكان لآخر، وهي تقطرُ لك القطران، ببطء، حتى تجدها ذات لحظة مشرقة قد فاجأتك بسهرة كاملة على شرف معناها، الذي يظل متفجراً من دون توقف؛ قصيدة واحدة لا تتوقف عن الانشطار النووي المتتابع، تتحول لسهرات مديدة وخوابي أنبذة مفتوحة وشراهة زمنية لوحدة كبيرة كافية؛ مهما طالت صحبة القارئ نفسه لقصيدة بعينها، يظل عاجزاً عن استيفاء كل المعاني في تلك القصيدة التي تبقى حية على الدوام، وقادرة على ادهاشه كل مرة، تلد نفسها من جديد في كل لحظة وكل قراءة مكررة، تكبر بين يدي القارئ ويكبر أمامه معناها، قراءة الشعر والمقدس تحقق فكرة (العود الأبدي) التي تحدث عنها نيتشه.
القراءة مندفعة نحو تلك اللحظة التي يصفها بونفوا: (قد عشت اللحظة التي يتحول فيها أقرب جسد إلى معرفة)
(يا بأسنا، يا مجدنا، هل تستطيعان ان تثقبا سور الموتى؟) ت. أدونيس، شاهين
الشعر يستطيع بضربة سحرية أن ينقلنا هناك نحو ذاك الشاطئ، كما في حركة وسكون دوف، خارج سور الموتى، لنرى من هناك الساحة خلف حاجز الوجود الضخم، الذي تتفاعل فيه الحياة ونحن فيه، والجمع عاجز عن الانتقال إلى الضفة التي تبقى فيها القصيدة، كعجزه عن العثور على الكوة السرية التي ينفذ منها الشعر إلى السرمدية، كيف تصل روح الشعر وتلبث هناك في الأبدية؟ بلا توقف ساخرة من حدود الزمن.
لكن ها قد تبقت ثمالة في هذا الكأس، ثمالة بحجم عصفور نبيذيّ:
(عصفور الخرائب ينفصل عن الموت، انه يبني عشه في الحجر الرمادي تحت الشمس، لقد عبرَ كل ألم، كل ذاكرة، انهُ لا يعرف بعد ما هو الغد في الأبدي) ت. شاهين
هكذا بقيت زجاجة النبيذ مفتوحة، أزلت السدادة وشربت منها، وثملت، لكني كلما تحسست ما تبقى وجدت الزجاجة كما لم تُمس، بكراً لم تُفتح، ولؤلؤة لم يشنها التثقيب، في هذا العام 2013 بعد ستين سنة كما أنت في 1953، القصيدة مثل دوف نفسها، هي هي السمندل كلما شاخت دخلت في النار فاستعادت شبابها، والشعر كما لو أنهُ هو طائر الفينيق..


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة