الجمعة 2024-12-13 11:29 م
 

سوق الفن في العالم العربي: بضاعة هي أشبه بالرجاء لا يلتفت إليها أحد

03:09 م

الوكيل - تعيش سوق الاعمال الفنية (التشكيلية) في العالم العربي اليوم كسادا غير مسبوق. يكاد الفنان العربي أن يكون اليوم عاطلا، وقد يلجأ الكثيرون إلى اعلان إفلاسهم المادي قريبا، إن لم يكونوا قد فعلوا ذلك من قبل.اضافة اعلان

فهل لهذا الكساد علاقة مباشرة بالفوضى التي تعيشها البلدان العربية التي شهدت تغيرات جذرية في أنظمة الحكم؟ سيكون الجواب السلبي جاهزا. فلا مصر ولا ليبيا ولا تونس ولا اليمن كانت تشكل أسواقا مفتوحة لما ينتجه الفنان العربي من أعمال فنية. في أقصى حالاتها كانت تلك البلدان أسواقا لفنانيها المحليين. أولئك الفنانون الذين صاروا اليوم يعاصرون شارعا يعيش ويصنع انحطاطا مريعا في الذائقة الجمالية. وإذا ما عرفنا أن كساد السوق الفنية كان قد سبق الاعصار الذي ضرب تلك البلدان وأتسع تأثيره ليشمل بلدانا أخرى، فسيكون علينا أن نستحضر حالة تلك السوق في السنوات الأولى من الالفية الثالثة، بالرغم من أنني اعترف هنا أن مفهوم السوق الفنية في العالم العربي كان ولا يزال ذا طابع تجريبي، لم تكتسب معانيه إلا في ما ندر صلابة مفهومية محددة. كانت تلك المعاني لينة ومائعة، يضعف الفنان من خلالها فيقدم تنازلات من أجل أن يكون نتاجه الابداعي متداولا، ويضعف صاحب القاعة في مواجهتها فيتراجع عن ثوابته من أجل أن يخرج سالما من مغامرة لن تكون مضمونة النتائج، قد تقضي على مستقبله المهني.
هناك من يزعم أن السوق الفنية كانت غائبة تماما في عالمنا العربي. وهو زعم فيه الكثير من المبالغة والتجني. فلو استعرضنا ما شهدته مدن الشرق العربي من وقائع فنية طوال السنوات الماضية لخرجنا بنتيجة مفادها أن هناك من أشتغل بأخلاص من أجل تكريس مفهوم السوق الفنية وعمل على تنشيطه ثقافيا واجتماعيا. هناك على سبيل المثال لا الحصر: صالح بركات (أجيال) ونادين بكداش (جنين أربيز) في لبنان وخالد سماوي (ايام) ورفيا قضماني (رفيا) ومنى الاتاسي (الاتاسي) في سوريا وسعاد عيساوي (رؤى) في الاردن وهيفاء الجشي (البارح) في البحرين وقاسم سبتي (حوار) في بغداد. كان هؤلاء قد تركوا أثرا من حيوية رؤاهم على المشهد الفني في بلدانهم على الأقل. كانوا في حقيقة ما قدموه صانعي أحداث مهمة ولم يكونوا في جزء على الاقل مما فعلوه تجارا لا يهمهم سوى الربح.
ولكن السوق نفسها كانت تعاني من حصار مزدوج: هناك ذائقة جمالية صارت تنحو منحى شعبيا بسبب انحطاط المجتمعات الثقافي والمعرفي والسياسي وهناك هجمة مبرمجة كانت تهدف إلى إحلال الفنون الجديدة، وبالأخص فن التجهيز والإنشاء والتركيب الجاهز، كانت مدن الخليج العربي مصدرها. لقد شهدت سوق الفن في الخليج خلال السنوات العشرالأخيرة انخفاضا ملحوظا في الاقبال على اقتناء اللوحات والمنحوتات، حيث اقتصرت عمليات الاقتناء على ما تقوم المزادات العالمية بعرضه على عدد من زبانئها التقليديين من الأثرياء الذين اقتنعوا أخيرا أن اقتناء الاعمال الفنية هو نوع من الاستثمار. بالنسبة لعدد من الفنانين فقد صار السعر الذي ترسو عليه أعماله الفنية في المزاد هو سعره الرسمي. متناسيا أن ذلك السعر ما هو إلا سعر افتراضي، تحكمه لحظة مزاج تنافسي غامضة. ولقد تأثر عدد من أصحاب القاعات بهذه النزعة وعدوها مقياسا لعملهم. وهو مقياس لم يؤد إلى نتائج مريحة. اما الذائقة الجمالية التي انحطت إلى مستويات شعبية فجأة فقد لعبت دورا خطيرا في إثراء عدد من الفنانين الرديئين واصحاب القاعات الذين وجدوا في ركوب مطايا التراث والأصالة والهوية الوطنية الفرصة التي تنقذهم من هلاك السوق الفنية المقبل من الخليج.
في هذا المجال لابد أن أشير إلى صالح بركات (قاعة أجيال/بيروت) باعتباره بطلا كان قد تحدى رخص الذائقة الجمالية وفي الوقت نفسه لم يهرول مستضعَفا في اتجاه استعراضات ما بعد الحداثة، إلا في حدود ضيقة، موثوق بها. كان لدى الرجل مشروعه الفني الخاص والعاكف على قوته التبشيرية والذي يستند إلى قاعدة نقدية ــ تاريخية. كان المعرض الذي اقامه للفن اللبناني لحظة مراجعة نقدية مفارقة. أما معرض (التجريد في الفن العربي) الذي أشرف عليه فانه يبارك عبقرية جمالية عربية صرنا نفتقدها هذه الأيام.
ولكن تجربة فردية هنا وهناك تظل مثل الطوف الخشبي لا تنقذ إلا مجموعة من الأشخاص المحظوظين. كان الطوفان أعظم من أن يقف أحد في طريقه.. سأقول لكم ما أعرف: مراسم الكثير من الرسامين العرب صارت تغص باللوحات. قد يفكر البعض من أولئك الرسامين في حرق أعماله أو اتلافها بطريقة ما فهو لا يجد مكانا يخزنها فيه. ‘هل هناك مَن يرغب في أن أهديها له؟’ سألني أحدهم وشعور عظيم بالخيبة يطوف بين عينيه. ما هذا الفشل الذي نهوي إلى قعر هاويته؟ لم يعد الفنان العربي قادرا على تحمل كلفة الشحن من أجل أن تعود أعماله غير المباعة إليه. مخازن القاعات الفنية لم تعد تتسع للأعمال غير المباعة.
وكما أرى فقد ازدادت الامور سوءا مع ظهور نسخ من أسواق الفن العالمية في (آرت دبي) و(آرت أبو ظبي) و(آرت بيروت) وكلها أسواق يشرف عليها خبراء (خبيرات) أجانب، لا علاقة لهم بالفن العربي ولا يقيمون لذلك الفن وزنا أو يحملون له أي نوع من التقدير، فهم غير معنيين به ولم يتخيلوا يوما أنهم سقتربون منه. تقنيون جعلتهم خبرتهم في ادارة الأعمال يسيطرون على سوق أقيمت ارضاء لنزواتهم وأطماعهم. مع الغزو الذي قامت به المزادات العالمية لمدن الخليج تفاقمت الأزمة، وصار الفن رهين المزايدات، بكل ما تتصف به تلك المزايدات من تنافس مريض ومراهقة استعراضية. صار جل ما يتمناه الفنان العربي أو صاحب القاعة أن تحظى بضاعته بالقبول في سوق، كواليسها تقع في مكان خفي، ولا أحد في إمكانه أن يتكهن بما تحمله خططها من أهداف. طبعا المال هو أهم هدف ظاهر في نشاط تلك المؤسسات، ولكن المال وحده لا يكفي، بالرغم من أضرار الاهتمام به مجردا من القيم الإنسانية كافية لتدمير الفن.
بعد كل ما جرى فان الحديث عن سوق للفن العربي يبدو نوعا من الخرافة.
فسوريا على سبيل المثال والتي كان عدد كبير من فنانيها يتمتع بقدر لا بأس به من الاستقرار الروحي والمادي لم تعد مكانا مناسبا للعيش وقد لا تعود في وقت قريب إلى سيرتها الأولى. كان العراق قد سبق سورية إلى الخراب بعشر سنوات، فلم تعد الأعمال الفنية لتحسب حتى على الأثاث الذي تفكر في اقتنائه الطبقات التي صعدت إلى الأعلى مجتمعيا وسياسيا وثقافيا من غير أن تكون مؤهلة للمرور العابر أمام القاعات الفنية. أما لبنان فان قلق مصيره الدائم لا يمد شجاعته إلا بأسلحة الأطفال الضائعين، وهذا ما بدا واضحا في برنامج (أشغال داخلية) الذي أقامته مؤسسة أشكال وألوان مؤخرا. هنالك لعب كثير في الوقت (الأوقات) الضائعة. وهو لعب لا يؤسس لواقع صلب، يمكن أن يكون مجالا رحبا للرؤية والمساءلة الجمالية.
هكذا تبدو السوق الفنية في العالم العربي فكرة مفتوحة على اليأس.
ولن اكون متشائما لو قلت إن ذلك اليأس سيحاصر الرسامين والنحاتين العرب ليؤدي بعدد كبير منهم إلى الاستسلام. اما أن يكفوا نهائيا عن الفن بالمعنى الانتحاري أو أن ينخرطوا في الأعمال اليدوية التي صارت تسمى فنا وهو انتحار من نوع آخر. الأقلية النبيلة ستقاوم وهي على يقين من أن سلوكها العدمي سينقذ الفن في لحظة رجاء تاريخي. متى تحل تلك اللحظة؟ لا أحد يدري.
شاعر وناقد من العراق


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة