الأحد 2024-12-15 11:01 م
 

‘ عودة عرار’ لمحمود الريماوي: المشهدية القصصية وعالم المهمَّشين

04:16 م

الوكيل - ‘ عودة عرار’ للقاص والروائي والصحفي محمود الريماوي والصادرة ضمن سلسلة إصدارات التفرغ الإبداعي لوزارة الثقافة الأردنية لعام 2013 والواقعة قي 337 صفحة من الحجم المتوسط، وهي المجموعة الثانية عشرة للمؤلف بالإضافة إلى روايتين وصلت إحداهما ‘من يؤنس السيِّدة’ إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية ‘البوكر’ عام 2010 . اضافة اعلان

سأقرأ هذه المجموعة الأخيرة ‘عودة عرار’ عبر الإشارات والملاحظات التالية:
أوَّلاً : احتفت هذه المجموعة بالمشهدية القصصية دون الذهاب إلى قصدية القصّ وتوظيف المشاهد في بناء حبكة القصة القصيرة، وإنما كانت المشهدية مقصودةً لذاتها، والمشهدية تقنية شعرية بامتياز تمَّ توظيفها في إطار قصصي أخَاذ وناضج وعالي في كثير من قصص هذه المجموعة، ويتضح ذلك في قصص ‘بيوت مهجورة، وصف ما جرى، حياة بلا سينما، ثلاثة دنانير، أهمية أن تقطع دوار الداخلية راجلاً ومتحدثاً بالموبايل ….وغيرها’.
ثانياً: هذه المجموعة هي مجموعة قصص المهمشين وحياتهم وأحلامهم وانكساراتهم، فهي تطلُّ على مشاهد من حياة عمَّان اليومية وشخصياتها الهامشية كبائع الكعك بسمسم بطلعة الشابسوغ وبائع الفستق في بسمان والحارس في عمارة بوسط البلد والمعلمة والموظفة والخادمة والموظف والباحث عن وظيفة والشاب والرجل والكهل وسائق التكسي .. الخ .
ثالثاً: ابتعدت قصص المجموعة عن الخطابة والايدولوجيا المباشرة ونسجت حكاياتها على المعيش اليومي لهذه الفئة المهمَّشة من الناس والذين هم المجتمع بتلويناته وناسه البسطاء .
رابعاً: لغة المجموعة لغةٌ واضحة والحوارات كانت تأخذ من لغة الشخصيات في حياتها الطبيعية مما أعطى هذه القصص حيوية حضور شخصيات حقيقية يعرفها ويعايشها الكثير منا يومياً .
خامساً: أيضاً رصدت هذه المجموعة القصصية بعض الشخصيات العمَّانية النمطية، ففي قصَّة ‘غيض من فيض’ نقرأ شخصية الطبيب والمناضل القومي والبخيل والذي يمارس في حياته الفعلية نقيضَ ما يُنظِّر له في جلساته ولقاءاته، كذلك نقرأ غربة الفنان والمثقف في بيئته ومجتمعه وعائلته، ففي قصَّة ‘نهاية رسَّام’ نقرأ كيف باعت عائلة الرسَّام بعد وفاته كلَّ تراثه الفني بأبخس الأثمان، ولم يحضر أيٌّ من عائلته حفل تأبينه الذي أقامته له رابطة الفنانيين التشكيليين، كذلك نقرأ نماذج للمثقفين وسلوكهم الانتهازي كقصَّة ‘ حياته تبدأ ‘ عن ذلك المناضل الذي بدا يبحث عن استغلال تاريخه النضالي والبحث عن البزنس ومن أجل ذلك باع كلَّ أصدقائه وأشقائه وشقيقاته وماضيه، وفي قصَّة ‘دموع السفرجل’ نموذجٌ آخر للمثقف وانتهازيته .
سادساً: في بعض قصص هذه المجموعة كان هناك نماذج إنسانية قوية ومسحوقة وحالمة، نقرأ ذلك في قصَّة ‘طعم طفولتها’ عن تلك المرأة التي تتذوَّق في ‘شَعر البنات’ طعم طفولتها التي لم تعشها، وفي قصَّة ‘الداخل والخارج’ ذلك النموذج الإنساني لعجوزين هرمين وذكرياتهما وأشواقهما التي كُبتت .
سابعاً: ربَّما القصة الوحيدة والتي حملت اسم المجموعة ‘عودة عرار’ هي من كانت شخصيتها الرئيسية شخصيةً تاريخيةً وعامة، وربما كان القصد منها التأكيد على أن هذه المجموعة هي مجموعة البسطاء والمهمَّشين الذين كانوا الأقرب لشخصية عرار، ‘عرار’ تلك الشخصية الجمعية والبسيطة والصادقة والمنحازة للبسطاء، والتي استعادها المؤلف في سهرةٍ مع أصدقاء قدماء له في مقهى ومطعم الاوبرج العمَّاني ليرى كيف أصبحت عمَان وكيف تغيَّرت.
ثامناً: المكان في هذه المجموعة هو عمَّان بجبالها ومطاعمها ومقاهيها وساحاتها وشوارعها وناسها، بتاريخها وتاريخ بيوتها وأدراجها وتاريخ ياسمينها وحجارتها، المكان في هذه المجموعة مكانٌ معشوقٌ يحمل عطوراً خفيَّةً وروائح وذكرياتٍ، هذا المكان الذي تغيَّر وتشوَّه وامتدَّ وأخفى خلفَ وجهه الجديد كل تلك الحميمية الضائعة والنابضة بمكانٍ كان يمكن أن يكون شيئاً آخرَ غير هذا التشوُّه والنكران .
تاسعاً: رصدت هذه المجموعة التغيرات التي حصلت على عمَّان ومهمشيها، فدخل في شخصيات هذه القصص العامل المصري والعراقي والخادمة الباكستانية، كان هؤلاء جميعاً شخصياتٍ بسيطةً وبائسةً وتُدلِل على التغيرات التي حصلت لمجتمع عمان ومهمَّشيه، كلُّ هؤلاءِ دخلوا في نسيج هذه المجموعة الحيّ بطموحاتهم الصغيرة وأحزانهم وفقرهم وخوفهم وإنسانيتهم المستلَبة والمسحوقة .
عاشراً: دخلت أيضاً في هذه المجموعة القصة المشهدية الرمزية، وكنموذج لها كانت قصَّة ‘مهرجان للبيع′، والتي نقرأ منها: ‘امتدت عمليات البيع والشراء حتى ساعة الغروب، خلا بعدها الشارع من مركبات النقل، وخلت البيوت من مقتنياتها، وحلَّت محلها مشاعر عارمة بالبهجة والتجديد والثراء المفاجئ، فقد انفجرت رغباتهم الحبيسة، القديمة والمؤجلة للبيع، وفكَّر بعضهم بمناسبة خلوِّ بيوتهم من الأثاث والأمتعة بالهجرة إلى كندا ومدغشقر وسيراليون وجزر المالديف، واكتشف بعضهم (النساء خصوصاً) متعة الإقامة المؤقتة في فنادق، بينما رفع بعضهم الآخر عقيرته قائلاً: لنعد إلى القرية .. الخ ‘ ص 127.
هذه المجموعة تمثِّل ‘قصص عمَّان’ وشخصيات عمَّان ببسطائها ومثقفيها وأماكنها وحياتها وحزنها وانكساراتها وفرحها وتعاستها، بأحلام صباياها ونسائها وذكريات كهولها وعجائزها، بتحوُّلات جغرافيتها وتحوُّلات مثقفيها، بحزن أطفالها وأفراحهم الصغيرة، إنها عمَان بتحوُّلاتها الجغرافية والمكانية والسكَّانية والتي يرصدها عاشقٌ استدعى عاشقاً آخر ‘عرار’ ليُشهده على هذه التحوُّلات الكبيرة والتي لا يعلم السارد إلى أين تمضي بعمَّان .


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة