الخميس 2024-12-12 10:45 ص
 

لجوء سياسي

06:30 ص

زمان أثناء دراستي في المرحلة الإبتدائيه , كنت أصر على اللجوء إلى جدتي ..وجدتي كانت طيبه وحنونه على الأحفاد , وكانت دوما تعطيني (شلنا) وأكذب عليها ,ادعي أن الشلن قد ضاع فتمنحني واحدا اخر ...اضافة اعلان

للعلم اللجوء إليها والنوم في دارها كان مرده أمرا واحدا وهو أنها تصحو قبل الفجر وتصلي , وأنا كنت أفيق معها ..وحين تسألني عن المدرسة أقول لها :- اليوم عطله فتصدق ...كنت أبتكر حجج كثيره للغياب , ..أتذكر أنها مرة سألتني عن السبب :- فقلت لها عيد الإستقلال , ومرة أخبرتها بأنه عيد العمال ..كنت أنثر المناسبات وتصدق ..وحين استنفذت جميع المناسبات الوطنيه :- سألتني مرة عن سبب غيابي فأجبتها :- ( عرس فاطمه اليوم يا جده) ...وهي ظنت أن المدارس تعطل أيضا في الأعراس .
في المساء وحين يهطل المطر غزيرا , ومنزلها يمارس الدلف قليلا ...كنت أقوم بمهمه غايه في الخطوره وهي وضع إناء في مكان الدلف , وتفقد زوايا الغرفه , وهي كانت متعتها تكمن في متابعة المسلسلات البدويه ....وذات مرة أصيبت بحالة إكتئاب لمدة إسبوع كامل والسبب وفاة (جزاع) ..انا لم أكن أعرف من هو (جزاع) ولكن تبين أنه بطل للمسلسل البدوي ..وأتذكر أنها نسجت قصيده نبطيه في رثاء جزاع ....
في الحلقه (18) تبين أن (جزاع) لم يمت ...فعادت لها العافيه ...
ذات يوم ...أفقت من النوم وإذا بإنتفاخ يملأ عيني اليمنى وهي كانت تؤمن بالكحل علاجا لكل أمراض العيون فقررت (تكحيلي) وذهبت للمدرسه (متكحل) يا الهي كم ضحك الطلاب وحتى معلمة اللغه العربيه هي الأخرى ضحكت , وأتذكر أن المدرسه كلها وضعتني في زاويه ..وجاءت للنظر إلي , اصبحت يومها (مسخره) ....
كان لها صاج وتخبز عليه (الشراك) وتطعمني إياه ساخنا , وكانت تصنع لي في الصباح التمر مع السمن البلدي ...وأتذكر أيضا أنها كانت تملك (بابور كاز) للوجبات المستعجله ولديها كم هائل من الحطب ...وأكثر ما كان يعجبني فيها (سن الذهب) فقد كانت تملك واحدا في الجهة اليمنى من الفك وكان لماعا ...وذات يوم رجوتها أن تجعلني اضع واحدا وأخبرتني أني حين انجح في المدرسه ستأخذني لتركيب واحد ...كان لدي شغف غريب بتركيب هذا السن مثل جدتي , وأتذكر لو أنني ركبت واحدا في اللحظة التي قامت فيها بوضع الكحل لي , فسيكون الأمر جميلا ساذهب للمدرسه ( متكحل) وبسن من الذهب .
كان لديها لحاف برتقالي , وأتذكر أني كنت أنام عند رأسها الحنون , لم تكن النساء في ذلك الوقت مثل النساء هذه الأيام , لهن لباس خاص للنوم وعطور وثمة مستحضرات تجميل للبشره ....جدتي كانت تنام في نفس (المدرقه) , اصلا أحيانا ومن قبيل الحصول على الدفء المطلوب كانت ترتدي (فروة جدي) فوق (المدرقه) ....وكانت تصحو (بالفروه) ...و في الليل و الضوء خافت , الشيء الوحيد الذي كان يجعلني أميز بينها وبين جدي هو الشماغ , فجدي يرتدي شماغا أحمر وجدتي ترتدي (عصابه) ...
للعلم وهذا ليس بالأمر المشين هو يقع في إطار حرية الحصول على المعلومه ..جدتي كانت تتابع معي (عدنان ولينا) ...وكانت شغوفه بشخصية عدنان وأتذكر أن حلقة من هذا المسلسل قد فاتتها , بحكم أنها كانت تؤدي واجب (طهور) وحين عادت سألتني بلهفة وغضب :- ( قضبوا عبسي ؟) عبسي كان أحد الشخصيات المهمه في البرنامج الكرتوني وكان مطاردا من قبل ما يسمى رجال القلعه وعلى رأسهم القبطان ....فأجبتها بالنفي فقالت :- ( اشوى شوي) .
ما أحببت في العمر عجوزا بكل ما تفعله مباركه , وبكل تنهيدة وبكل صلاة ..كان دعاؤها لنا حاضرا ....ما أحببت مثل جدتي أبدا فهي طيبه وقوره ...وكانت الكرك تشبه وشمها ..مهما استبد الزمن يبقى حاضرا على الوجه ..هي عاشت في الكرك والكرك كانت فيها حية حاضرة .
لهذا كنت احب اللجوء العاطفي إليها كلما أستبد بي الشوق ...
على ذكر اللجوء ..سمعت أن البعض قد طلب لجوءا سياسيا لدوله أوروبيه ...بحكم الظروف الصعبه .
الغريب أننا ما زلنا نردد كلمة وصفي التل دائما :- ( اللي ما بقبل البلد بضيقها البلد ما بتقبلو بعزها ) ...والأغرب أننا نرددها شعارا فقط ....منذ متى كان الأردن يصدر لاجئين سياسيين , منذ متى كان الأردن قاسيا على (اولاده) ؟ ...
لو لم يبق لي في الأردن غير القبر , أنا راض فيه ..بقسوته بغضبه بكل شيء راض فيه فقد تعلمت من طفولتي اللجوء لحضن جدتي لأهلي لتراب الجنوب ...ولم اذق شوقا بطعم العسل مثل الشوق الذي يزرعه الأردن في قلبي .
ولكنها قصه تستوجب أن نقف عندها ...وهي أن الأردن لا يصدر لاجئين هو القلب الحاني الذي يمنح كل لاجيء مكانا وسقفا وخبزا ...فكيف إذا يتبجح البعض باللجوء .
ما زلت أعيش ذكريات اللجوء إلى جدتي , فقد كان شيبها ..طهرا لي وكانت حضنا وعشقا ..صدقوني أني لا أقدم كلاما رومانسيا عابرا , ولكن تلك الذكريات التي عشتها على تراب أردني ...لا أبدلها بكل ما في العالم من مال ...كون العالم كله لو إجتمع في ذهني الطفولي فلن يمنحني صورة جميله بحجم صورة (سن الذهب) الي كان يلمع في فكها العلوي .
( اللي ما بقبل البلد بضيقها ..البلد ما بتقبلو بعزها) .


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة