الوكيل - حين انطلقت التجربة الشعرية الجديدة في بداية خمسينيات القرن الماضي ، انطلق بموازاتها سؤال الحداثة الشعرية . ولئن اكتفت التجارب الشعرية الأولى بتجسيد حداثتها في خرق العروض التقليدي القائم على البيت وتعويضه بالقصيدة التفعيلية، فإن التجارب التي أعقبتها معززة بالتنظير النقدي قد تجاوزت المسألة العروضية وأشرعت باب التحديث على مصراعيه نازعة القداسة عن كل أشكال التعبير السائدة لتأسيس لغة شعرية جديدة قائمة على المحو والرؤيا.
لكن مفهوم الكتابة الحداثية ظل مع ذلك ملتبسا وزئبقيا لأن كل التجارب الحديثة تعتبر نفسها حداثية مجددة . تجربة نزار قباني تجربة حداثية في تمردها على المعجم الفخم ، وعلى قيم الذكورة البدوية. وتجربة السياب حداثية بعمقها الرمزي . وتجربة أمل دنقل حداثية بمحاورتها للتراث. وتجربة أدونيس حداثية برؤياويتها . وتجربة محمود درويش حداثية بحل معادلة الإديولوجي والجمالي وتجربة أنسي الحاج و سركون بولص حداثية باجتراحها لقصيدة النثر … لا يمكن أن ننزع صفة الحداثة الشعرية عن هؤلاء رغم اختلاف طريقتهم في الكتابة ، لكن يمكن تحديد عناصر ميزت الشعر الحداثي عن الشعر التقليدي من خلال المنجز الشعري والكتابات النقدية التي واكبته أو وجهته ومن أهم هذه العناصر :
- التعبير عن تجربة أو رؤيا في بعدها الإنساني بدل الارتباط بالغرض والموضوع
- استكناه الباطن والعمق بدل الشعر الدعائي والتحريضي المباشر
- التعبير باللغة الرمزية الإيحائية والتوسع في الانزياح ، والتمييز بين اللغة الشعرية واللغة التواصلية .
- خرق العروض القديم باعتماد شكل قصيدة التفعيلة أو تجاوزه باعتماد قصيدة النثر.
هذه الخصائص الأساسية الكبرى لتمييز الشعر الحداثي هي مدخلنا لقراءة مجموعة ‘لن أرقص مع الذئب’ للشاعر المغربي يحيى عمارة وهي من منشورات اتحاد كتاب المغرب سنة 2010
1 حداثة التجربة :
في المجموعة تجربة شعرية تصهر الذاتي في الموضوعي منفتحة على الإنساني و الكوني . فعنوان المجموعة الذي هو عنوان قصيدة لا يستعيد فيها الشاعر النبرة التحريضية ، أو النغمة الأسيانة اللتين طبعتا القصيدة الغرضية وهي تكتب موضوعها عن شاعر فلسطين أو فلسطين . بل خلق الشاعر عمارة التماهي بين ذاته الرافضة للموت والخواء ، وذات الشاعر درويش المقاومة لهما ، وهي ذات يمتزج فيها الهم الذاتي بالهم الجماعي وهكذا ينصهر هذا الثالوث : الشاعر ودرويش والقضية في تجربة شعرية واحدة متشابكة تتجاوز حدود العربي لتعانق الإنساني الكوني في رفض القهر ، والتطلع للحرية والانعتاق والتشبت بالحياة . بل إن درويش يحضر من خلال إنسانيته وشاعريته أكثر مما يحضر من خلال وطنه ليعلن انتصاره بالعشق والنار. نقرأ من القصيدة هذا المقطع :
فلتعلموا أيها الجالسون
على قمة الجبل العربي
لي حكاية منفى جديد مع الذئب
قد أنجبت عاشقا
يغتدي بالتحدي
ويرنو بصوت الحريق .
وعندما يهدي الشاعر قصيدة ‘ علامات القمر المغربي’ للشهيد عمر بنجلون يغيب كذلك الصوت المنكفئ على الرثاء والصوت الحماسي ليفسحا المجال للتعبير عن عمق المناضل الإنسان في التحامه بالوطن والأمل ومقاومة اليباب والموت وكأنه جلجاميش في بحثه عن عشبة للخلود ، فيتماهى صوت الشاعر مع صوت الشهيد نقرأ :
منذ أن كان عصفورنا فوق سقف الحقيقة
/ يشدو /
ليترك نوره يسطع بين الزوايا
هكذا حدثتني علاماته
تمر الأيام ياصاحبي ، دونك
تمر السنون العجاف
ويبقى حلمك في أديم الأرض
يبدع وردا مثل جلجاميش بأعشاب الخلود .
وفي قصيدة سبع سنابل على كمنجات الريح ، تتعدد تيمات المعزوفات وتنفتح على الشاعر والأمة والإنسان . ويحتمي الشاعر فيها بالحلم والحرف والأم ضد الذبح والمشي العربي الكسيح والغدر ..باحثا عن الورد والماء والحب والصحب إذا كانوا.
إن حداثة التجربة تكمن في قدرتها على استبطان الإنساني ، ولحم الذات بموضوعها إلى حد التشاكل والتماهي . إننا لا نتحدث عن أصوات وكيانات منفصلة معزولة وإنما عن صوت واحد هو للشاعر والوطن والأمة والإنسان على خلاف الغرض التقليدي الذي كانت ترد فيه الذات الشاعرة مفصولة عن موضوعها تصفه وتسرده ولا تتماهى معه . وتقول الموضوع ولا تغوص في التجربة . تقول الفكرة ولا تستشرف الرؤيا .
2 حداثة اللغة الشعرية :
إن ما يميز اللغة الحداثية عمقها الرمزي وطابعها الإيحائي وجدة علاقاتها . فالشاعر الحداثي حول اللغة من أحادية الدلالة إلى تعدد ها ومن حتميتها إلى احتمالها بواسطة الرمز والانزياح . إن عناوين قصائد المجموعة لا تحيل على معاني مباشرة وإنما على دلالات رمزية . فلن أرقص مع الذئب ، ونملة السهروردي وكمنجات الريح وكرونوس والقمر المغربي ومدينة أفلاطون .. تحبل بالإيحاءات وتفتح باب التأويل على كل الاحتمالات . وتتعدد مرجعياتها التراثية : الدينية والصوفية والأسطورية والفلسفية والسياسية . و المفردات المعجمية في القصائد تكتسب شعريتها من خلال إفراغها من محتواها العادي التواصلي وشحنها بدلالاتها الرمزية . فحين نقرأ في قصيدة من خرائط الرؤيا هذا المقطع :
غزال
يسير على ورق الماء
يترك دمعا
وراء النخيل
يواجه ليل الشراسة
حين تجيء السباع
يعود إلى جحره
يشتكي كالغريب .
فإن كلمات الغزال وورق الماء والنخيل لا تحيل على واقعها الحرفي وإنما على دلالات البراءة والجمال والخير وفي مقابلها يقف الحزن والموت والشر من خلال كلمات هي الدمع وليل الشراسة والسباع والغريب . هكذا لا نتقبل القصيدة إلا في بعدها الرمزي الإيحائي العميق المتعدد وليس من خلال مدلولها المعجمي المسطح الأحادي .
وإلى جانب التوظيف الرمزي للغة فالشاعر يوظفها في سياق يخرق المجاورات المألوفة بين المفردات فحين نقرأ هذا المقطع :
جزأت ذهن يمامتي
إلى شظايا
أبصرت في نصف الجناحين
الصبايا
تحت خيمات ينادون الشجر
ألطف بنا من غيمة
لفت بريقا من سلالة غيثنا البهي .
فإننا ندرك أن الإيحاءات تتناسل من خلال الكيمياء الجديدة التي تحققها كلمات لا تتجاور في اللغة التواصلية كتجزيء ذهن اليمامة ، وأبصرت في نصف الجناحين الصبايا ، والشجر ألطف من غيمة .. وهذه الكيمياء الجديدة التي تدفع بالانزياح إلى حدوده القصوى المتاخمة للتعبيرات السوريالية تمنح الشاعر إمكانية الانعتاق من المكرور . وحرث التربة العذراء.
3 حداثة الإيقاع :
لعل أهم ما وسم التجربة الشعرية الحديثة وربَطها بحداثتها الانتقال من شكل عمودي أساسه البيت إلى شكل جديد أساسه السطر ، ثم الانتقال من السطر التفعيلي إلى قصيدة النثر . وقد أصبح الشكلان الجديدان رغم تنازع صك الحداثة بينهما عنوانها وسمتها البارزة .
مجموعة ‘ لن أرقص مع الذئب ‘ تنتمي إلى القصيدة التفعيلية ، وهي منظومة على إيقاعين هما المتدارك والكامل . والجملة الشعرية في المجموعة تتسم غالبا بانسيابها فالشاعر لا يتكئ على الوقفات التامة الموقعة بالقوافي إلا قليلا . إنه يترك دفقاته الشعورية منسابة بفعل التدوير الذي يجعل البوح مستمرا ففي هذا المقطع يمتد التدوير إلى ستة أسطر تتكون من إحدى عشرة تفعيلة :
حجر ينامُ / متفاعلن م / على فراش من ترابٍ / تفاعلن متْفاعلن متْ /
ريشنا أخذته ريحٌ /فاعلن متفاعلن متْ/ تنتمي للآخرين َ /فاعلن متْفاعلن – مُ
وقيل إنه في مصانعَ/ تفاعلن متفاعلن متَ / من مجانين الدجى / فاعلن متفاعلنْ
وحين يوظف الشاعر القافية فإنه لا يتكئ عليها إلا بالقدر الذي تمنح نغما جميلا عابرا ثم تتحرر الوقفات منها كي لا تمنح القارئ فرصة التوقع ، وتهيئه دائما للمفاجئ والمحتمل نقرأ في هذا المقطع كيف تتوالى قافيتان قريبتان ثم تختفيان ويحل محلهما انسياب مفتوح على اللامتوقع :
آه من حسنها
يغتدي فجرها
بجناحي ضباب
يكلم صمت الورق
شاعر حالم بالتي
رافقت قيسها في الغرق
من يدل البراري عليها
فقد مات نخل النيازك
حين استفاق الحبيب
لم يجد غير ريح الصحارى
تهب شمالا جنوبا
بلغو الخنادق
إن استحضار العروض العربي في تجربة الشاعر يتم بالتحرر من وقفاته وقوافيه ، وتتحول التفعيلة إلى خيط خفي ناظم للقصيدة في عقد موسيقي هادئ يقل فيه ضجيج القافية وحدة الوقفات المتتابعة .
إن كتابة الشاعر يحيى عمارة تستمد حداثتها من خلال استبطانها ورؤياويتها ، ومن خلال رمزية لغتها وجرأتها على الانزياح ، ومن خلال اعتمادها على المنجز التفعيلي المتحرر من صرامة القافية وسيمترية البيت وتلاحق الوقفات .
شاعر وناقد /المغرب
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو