الخميس 2024-12-12 11:20 م
 

نعم مؤامرة!

07:30 ص

-1-
عندما نريد أن نسخف رأيا أو تحليلا نقول لصاحبه: دعك من عقلية المؤامرة، حتى بتنا نخشى من إرجاع كل ما جرى في بلادنا العربية والإسلامية منذ قرن من الزمان إلى مؤامرة كونية كبرى، لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري، فلم يحدث أن التقى المتخاصمون والأعداء، والأصدقاء على تنفيذ خطة معقدة ومحكمة، كما اتفقوا علينا، منعا لسريان الدم في الجسد العملاق المنهك؛ لأنهم ببساطة يعلمون أنه إذا دبت الحياة في هذا الجسد، فهو لا يقبل بأقل من سيادة العالم!

اضافة اعلان


-2-
يخصص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد باباً عن العلاقة الجدلية بين الدين والاستبداد، ويكتب تضافرت آراء أكثر العلماء، النّاظرين في التّاريخ الطّبيعي للأديان، على أنَّ الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني . ويدرس الكواكبي هذه العلاقة بين الاستبدادين، الديني والسياسي، على صورة تكامل، إذ يقول: ما من مستبدٍّ سياسيّ، إلى الآن، إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة، يشارك بها الله، أو تعطيه مقاما ذا علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين، يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد.


-3-
في زمن مضى، كنا ننتفض احتجاجاً، عندما يردد أحدهم تعبير رجال الدين المسلمين، على اعتبار أن الإسلام ليس فيه رجال دين ورجال دنيا، ولا وجود لطبقة الإكليروس المختصين بالتوسط بين العباد وربهم، والقيام بالطقوس الدينية اللازمة لأهل الدنيا. أقول كنت لأكتشف، أنا وغيري فيما بعد، أن مجتمعنا الإسلامي الحديث أفرز طبقة أسوأ بكثير من كهنوت العصور الوسيطة في أوروبا، طبقة تأكل بدينها، وتضعه في خدمة دنياها، وتعين رجال الدنيا على البطش والظلم، والتآمر، وتغلف أفعالهم بقالب شرعي، مسوغ دنيوياً وأخرويا. هؤلاء ليسوا رجال دين بالمفهوم السائد فحسب، بل هم جلادون وقتلة ومتآمرون على الدين والدنيا، والعمائم التي تلتف على رؤوسهم يجب أن تلتف على رقابهم، لأن ذنبهم مضاعف، فهم أسوأ من المستبد نفسه الذي يعينونه!


-4-
في المشهد الختامي من حياة المفكر المعروف سيد قطب ما يبرز الفرق بين رجل الدين وعالم الدين، فيوم تنفيذ الإعدام، وبعد أن وُضع على كرسي المشنقة، عرضوا عليه أن يعتذر عن دعوته لتطبيق الشريعة، ويتم إصدار عفو عنه، فقال: لن أعتذر عن العمل مع الله . ثم قال: إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفاً واحداً يقر به حكم طاغية . فقالوا له إن لم تعتذر، فاطلب الرحمة من الرئيس. فقال: لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوماً بحق، فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوماً بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل . ويروى، أن الشيخ!، أو بالأحرى رجل الدين الذي قام بعملية تلقينه الشهادتين، قبل الإعدام، قال له: تشهد، فقال له سيد: حتى أنت، جئت تكمل المسرحية! نحن يا أخي نُعدم بسبب لا إله إلا الله، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله.


-5-
وقد رأينا أقواماً يتنادون لـ الجهاد، كلما فتح الآخرون جبهة هنا، أو هناك، وهؤلاء الآخرون تحديداً هم من يفتحون الحدود للمجاهدين المفترضين، وييسرون لهم سبل الحصول على السلاح، وربما يمولونهم به، عبر وسطاء وأطراف أخرى، بعلمهم أم بغيره، لا يهم، و الإخوة المجاهدون! مأخوذون ومتلهفون للقاء السبعين من الحور العين، وهم لا يعلمون أنهم ينفذون أجندات اللاعب الكبير، الذي يرقبهم ويمولهم، ويسيّرهم كيفما يشاء، وفي الأثناء، يعمل دعاة الجهاد! إياه، من حيث يدرون أو لا يدرون على تغذية ما يسمونه التطرف والإرهاب، حين يعطون صورة مشوهة عن علماء الإسلام، فيبحث الشباب المتحمس عن نموذج آخر مشبوه، بعد أن تم هدم النموذج الصحيح، وتشوهه، وهنا الطامة الكبرى، التي لم يكد ينتبه إليها أحد، وهي في الحقيقة أحد أهم أسباب صناعة التطرف، وإنهاك الأمة، بحجة محاربة التطرف والإرهاب، إنها المؤامرة، ولا شيء غيرها!


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة