الإثنين 2024-12-16 05:11 ص
 

واد ديفيس: كل ثقافة تضم قصة تطور المجتمع البشري

07:22 م

'حتى لا ننقرض- لماذا نحتاج إلى حكمة أسلافنا؟' هذا ما يتناوله واد ديفيس Wade Davis، هذا الأنتروبولوجي الكندي الذي ساح وجال في رحاب الأرض لأكثر من أربعين عاما، حيث التقى بشعوب قديمة، وبثقافات عريقة، ومنها قبائل الإسكيمو، وسكان إفريقيا وآسيا، وأميركا الأصليين، وهنود الأمازون، وغيرها من الشعوب البدائية العريقة. فهذه الشعوب، كما يقول هذا الباحث 'لا تعيش كما نعيش نحن، لكنّ عاداتها وتقاليدها مهمة وحاسمة، حتى بالنسبة لمستقبلنا'. ولذلك فأخشى ما يخشاه واد ديفيس اختفاء ثقافات هذه الشعوب، الذي 'بات مع الأسف، كما يقول، اختفاء مُبرمجا'.اضافة اعلان

'هل سيشعر سكان كيبيك أنهم معنيون بالأمر في حال فقد طوارق الصحراء الإفريقية ثقافتهم؟ بالتأكيد لا'، يقول الأنتروبولوجي واد ديفيس الذي يضيف قائلا 'ولا فقد كيبيك لثقافتها سيعني الطوارق! لأن اختفاء هذه الثقافة، أو تلك مسألة تهم البشرية جمعاء'.
من المعروف لدينا جميعا أن الكثير من الأنتروبولوجيين يفضلون معرفة كل شيء عن شعب بعينه، لكن واد ديفيس يفضل مضاعفة اللقاءات، والتعرف على شعوب كثيرة، وعن دافعه في ذلك يقول 'إني أحمل شهادات كثيرة، بيد أنني رغم ذلك، أراني حكَواتيا أكثر مvي أنتروبولوجيا. أكنّ احتراما لا حد له للأنتروبولوجيين الحقيقيين، هؤلاء العلماء والباحثون الذين ينفقون حياتهم في محاولة فهم شعب بعينه، فهمًا كاملا. فلو نظرنا إلى وتيرة الأشياء في الوقت الحالي لاكتشفنا أن ثقافات كثيرة تختفي في غضون جيل واحد في غالب الأحيان. لذلك فإن عمل هؤلاء الأنتروبولوجيين هو الذي يتيح لنا الاحتفاظ بأثر، أو بصمة من هذه الثقافات، حتى نتمكن عند الضرورة، من بعث هذه الثقافات من جديد. ومع ذلك، فأنا على يقين من أن مشكلة التنوع الثقافي لا يمكن أن تنحصر في حدود العالم الجامعي والأكاديمي وحده'.
فلعل لهذا السبب تحديدا فكر واد ديفيس في تأليف هذا الكتاب، دفاعا عن التنوع الثقافي. لقد جمع مادة هذا الكتاب من محاضرات، وأسفار عديدة، ولذلك أراد من خلاله أن يحتفي بعجائب الثقافة المتنوعة، إذ يقول 'إن قناعتي الثابتة أن كل ثقافة، بما فيها ثقافتنا نحن، تحمل في طياتها أشياء تريد أن تلقننا إياها. لقد أثبت علم الوراثة، مؤخرا، ما كان الفلاسفة يعرفونه ويتنبأون به منذ زمن بعيد، وهو أننا جميعا إخوة وأخوات! وأنا بالطبع، لا أقصد هنا المعنى 'الهيبي'، لكن المعنى الحرفي للكلمة. فنحن بالفعل منحدرون من نفس العائلة الوراثية، ومولودون من مجموعة من الأجداد الأفارقة. فالاكتشاف بالنسبة للأنتروبولوجي هو أنه، إذا كنا نتقاسم نفس التراث الوراثي، فإن كل واحد منا يعبّر عن عبقريته بطريقته الخاصة. أما طريقة التعبير عن العبقرية المشتركة فهي ليست مسألة تطور، بل مسألة ظروف حياتية، وتأقلم'.
ومع ذلك، فإن الثقافات القديمة تختفي كل يوم مع الأسف. 'هذا صحيح، يقول واد ديفيس، ولكم يقلقنا أن نعرف أن نصف اللغات المنطوقة عند الولادة لم تعد تلقّن للأطفال اليوم. وهذا يعني أن نصف البشرية يشهد على انقراض تراثه الروحي والاجتماعي والثقافي، في جيل واحد، أو اثنين. ومع ذلك فالأمر ليس أمرا محتوما. فالحداثة، على نحو ما نتصورها، لا وجود لها خارج سياق التاريخ، فهي فقط كيفية من كيفيات تنظيم الاقتصاد الذي أبدع في كثير من الأصعدة، وكان مدمرا وكارثيا في نواح أخرى كثيرة. ونحن الغربيين لسنا، بأي حال، النموذج النهائي لبشرية كاملة!'
لا شك إذن أن اختفاء اللغات يبدو رهانا حاسما في نظر واد ديفيس. لأن كل لغة في نظره هي 'نظام بيئي من الإمكانات الروحية، والقناة التي تنقل روح كل ثقافة إلى العالم المادي، بعيدا جدا عن نظام النحو والمفردات اللغوية'. وفي هذا السياق يضيف واد ديفيس قائلا 'قل لي بربك ما الذي تشعر به إذا وجدت نفسك فجأة عاجزا عن التحدث باللغة الأم؟ لذلك، فعندما يقال لي 'ما أروع أن يفهم الناس جميعا بعضهم بعضا، من خلال لغة مشتركة واحدة'، أراني لا أملك إلا أن أنصحهم بأن يجربوا لغات قديمة.
فهل يعني هذا أن واد ديفيس يشجع على الجمود والتوقوقع ؟ لا بالطبع، لأن التغيير في رأيه ليس تهديدا في حد ذاته، و'لأن التغيير ثابتة في ثوابت ثقافاتنا. وبالمثل ليست التكنولوجيا تهديدا! قبائل 'السيوكس Sioux'، كما يقول، لم تتخل عن كونها 'سيوكس' عندما تخلت عن استعمال القوس في الصيد، وعوضته بالبندقية، مثلما لم يفقد المزارعون الفرنسيون هويتهم عندما استعاضوا عن المحراث الذي تجره الثيران بالجرار. فالمشكلة ليست في جعل التقدم والتطور في حالة صراع مع التقاليد، بل المشكلة في إتاحة الفرصة لكل فرد لممارسة حياته الطبيعية. من الممكن جدا الاستفادة من إسهامات العلم الحديث الإيجابية، من دون التنازل عن الهوية. ولا يعني هذا رومانسية الحنين إلى الماضي، فعندما نحرم الناس من جذورهم تصبح وضعيتهم جد مضطربة سياسيا، وجد مرتبكة، ولنا في ذلك دلائل ملموسة كل يوم!'
لا شك أن للتنوع الثقافي عواقب مادية مباشرة أيضا، وفي هذا الشأن يقول واد ديفيس 'للمعتقدات تأثير على علاقتنا بالأرض، والطبيعة، ولهذه المعتقدات أيضا عواقب عميقة على البيئة المحيطة. فإن أنت ترعرعت في فرنسا، مثلا، فأنت معتاد على فكرة أن الجبال عبارة عن كومة من الحجارة التي لا تتورع أنت عن اقتلاع ما تحتاجه منها. ولكن، لو فكرت أن هذه الحجارة جزء من مجال الأرواح لاستحال عليك اقتلاعها! لقد نشأتُ في كولومبيا البريطانية، ورفاقي الهنود يرون البيئة الطبيعية باعتبارها مكانا مقدسا.
وعن أكبر خطر يهدد تنوع الثقافات يفاجئنا واد ديفيس قائلا: ' أن أكبر خطر يهدد تنوع الثقافات هو السلطة. أليس تقويض الغابات، مثلا، مظهرٌ من مظاهر السلطة!؟'
وفي رأي واد ديفيس أيضا أن كل ثقافة، مهما صغرت أوهُمّشت، ومهما حوصرت من قبل الحضارة التقنية، فهي تضم أوّلا قصة تطور المجتمع البشري المثيرة، وتأقلمه البيئي، وعلاقته بالأرض. فليس من قبيل الصدفة إذا كان اختفاء الثقافات الصغرى، الذي بات متسارعا، إن كان في النهاية مرحلة انقراض لا سابق لها في التنوع البيولوجي.
 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة