الثلاثاء 16-04-2024
الوكيل الاخباري
 

المواقف السياسية بين الأمس واليوم



الموقف في قاموس المنجد في اللغة العربية المعاصرة: طريقة النظر إلى الأمور، أو هو ميل واستعداد يُعبّر بهما عن الشعور حيال شيء، أو شخص [أو جماعة، أو حزب، أو حكومة، أو دولة…] أو هو مشاعر وميول تحمل صاحبها على تصرف ما. والموقف قد يكون مكاناً لخدمة ما مثل قولنا: هذا موقف للسيارات؛ وهكذا.اضافة اعلان


والموقف السياسي أو المواقف السياسية تتأثر بالمعتقدات أو القناعات، وتتبادل التأثير معها. بمعنى أن الموقف قد يكون مشتقاً منها أو مبنياً عليها، أو أنه قد يَعيد ترتيبها. إنه عملية تبرير متبادل مستمرة. والموقف قد يكون متحفظاً، أو حازماً، أو معتدلاً، أو لا أبالياً…
والأصدقاء منذ الطفولة قد يفرقهم الموقف أكثر مما يفرقهم المعتقد أو القناعة، فواحد يؤيد حزب الله لأنه هزم اسرائيل ويقاوم الإرهاب، والآخر يعارضه لأنه يمثل إيران ويفتك بالسنة في سورية؛ وآخر يؤيد إيران لأنها تدعم المقاومة الفلسطينية، وآخر يعارضها لأنها تسيطر على أربع عواصم عربية؛ وواحد مع تركيا لأنها تقيم نظاماً اسلامياً، وآخر ضدها لأنها تغتصب أراضي عربية في سورية والعراق؛ وهكذا.

وأكثر ما يزعج في هذا الموضوع بناء الموقف على التعصب الأعمى الذي تشكله المعتقدات أو القناعات المتطرفة، الذي يتجلى بزلزال يصيب صاحبه عندما تواجهه بمعلومات جديدة أو بتحليل يهزه. وهو ما أشاهده في كل لحظة في فيسبوك في تعليق على مقال أو بوست، لدرجة أن بعضهم لا يكمل القراءة ولا يقف عند الكلمات الاستدراكية، فعندما ذكرت في مقال بعنوان: ” نفط وغاز وألغاز” إن الفرس كانوا أرقى من العرب قبل الإسلام وبعده، وربما إلى اليوم، لم ير المتعصبون كلمة ربما. وعندما قلت في نهاية المقال أنني قد أكون مخطئاً في تحليلي وأدعو إلى الرد عليه، استشاط المتحجرون في مواقفهم غضباً، لأنهم لم يصلوا إلى آخر المقال ولم يقرأوا العبارة. بل أن أحدهم العروبي الشديد اتهمني بالقبض من السفارة الأميركية. هكذا خبط لزق. ولما كان الأمر كذلك فهل تستطيع الأمة مواجهة الأخطار والتحديات المصيرية المحيطة بها من كل جانب بمثل هذه العقليات أو هؤلاء المتعصبين؟

في فترة الحرب الباردة بين المعسكرين: الشيوعي والرأسمالي أو بين الشرق والغرب، كانت الأمور واضحة للأفراد والحكومات والشعوب، فهناك معسكران وردع نووي متبادل بينها، وأنت وهو وأنا كنا إما مع الشرق أو مع الغرب على طول، وهو موقف أو وضع كان يوفر الشعور بالراحة العقلية وبالأمن لكل منا.

نعم برز ما سمي في حينه بالحياد الإيجابي، ولكن المواقف في الحقيقة لم تتغير. وقد قيل في أصحابه أنهم كانوا يغمزون إلى اليسار وينعطفون إلى اليمين.
كانت المواقف في تلك الفترة ثابتة أو جامدة، وكان كل واحد مستريحاً بموقفه ونائماً عليه. ولكن الوضع انقلب بانهيار المعسكر الشيوعي، ونجاح الرأسمالية. ثم انقلب ثانية بالعولمة والخصخصة وبروز الصين كقوة جديدة مناددة ولكن سلمية. وانقلب ثالثة بمجيء ترامب الشعبوي إلى الرئاسة الأميركية واختلاط الحابل بالنابل قطرياً وإقليمياً ودولياً.

وهكذا انتقلنا من الوضوح أو اليقين أو الأمن إلى الغموض واللايقين والحيرة والشك وعدم الشعور بالأمن، بعدما صارت الأحداث والتغيرات والحركة سائلة وتتدفق علينا أو من حولنا.
لم يعد بالإمكان الجمود أو الثبات في الموقف صارت المواقف سائلة أيضاً. كما انتقل الموقف من الجملة بالتأييد أو الرفض إلى التأييد أو الرفض بالقطعة أو بالمفرق وليس بالجملة، فأنت – مثلاً – مع الصين في مناددتها لأميركا، وضدها في الإيغور. وأنت كإسلامي معتدل مع مصر في سد النهضة لأنه يهدد حياة مصر، وضدها كإسلاموي في ليبيا أي مع الحكومة الإسلامية هناك التي قد تعيد مصر إلى الإخوان. وأنت مع تركيا في محاولة فك الحصار عن غزة وضدها في سورية والعراق؛ وهكذا.

لقد تحول الموقف من “بيع” المرء موقفه أو نفسه بالجملة في فكرة الحرب الباردة كما ذكرت، إلى “بيع” موقفه أو نفسه بالقطعة أو بالمفرّق، وهو كل يوم في شأن. لكننا مع ذلك ما نزال نشاهد مخلفات أو آثارا متحجرة باقية من عصر الحرب الباردة يتحدث أصحابها بلغة ذلك العصر ومصطلحاته، وكأن العالم لم يتغير، غير مدركين أن التاريخ لا يتكرر.