الجمعة 19-04-2024
الوكيل الاخباري
 

ذكريات (22)



عملت معلما لمدة استمرت احد عشر عاما من البهاء والعناء والتعب. بدأتُ العمل برسالة قصيرة من عمي عبد خلف الداودية، احد الرجال الذين بنوا واشادوا وسلكوا مسالك الشرف والنزاهة والعطاء، وكان يومها مدير التربية والتعليم لمحافظة العاصمة، إلى الأستاذ ذهني رأفت، الشركسي النقي الذي قدم هو الاخر عصارة عمره ولم يتم انصافه، وتحمّل ولم يشكُ ولم ينبس بحرف، وكان يومها موظفا كبيرا في وزارة التربية والتعليم.اضافة اعلان


جاء في الرسالة بالحرف الواحد: «أخي الأستاذ ذهني رأفت ابعث إليكم ابن عمي هذا راجيا تعيينه وستجدني إن شاء الله من الشاكرين. أخوك عبد خلف».

أجلسني الرجل البالغ البشاشة والدماثة، تحدث عبر الهاتف ثم قال لي: اذهب إلى شؤون الموظفين واستكمل إجراءات التعيين. ثم أضاف، مبروك يا محمد. لقد أصبحت معلما،

كان ذلك يوم الخميس 18 آب عام 1966.

ومن محاسن الصدف انني عملت بمعية الأستاذ ذهني رأفت في صحيفة صوت الشعب في تشرين الثاني عام 1982 وكان حينها مديرا عاما لها. وبعد أيام من عملي ناداني الى مكتبه وقال لي: انت مطلوب لمراجعة المخابرات. الموضوع لا يتعلق بعملك هنا ولا بكتابة مقالتك التي احب لونها وقتاليتها «عرض حال»، الموضوع له صلة بالماضي.

ولما قلت له: أرى انك تعمقت مع «الدائرة» في موضوعي، إذْ لم تجرِ العادةُ ان يستفسر المدراء عن هكذا استدعاءات. ابتسم وقال لي انت وطني حر وكل ما في الامر ان معارضتك بناءة ومفيدة وضرورية.

زرت هذا الشركسي الجميل في منزله عندما أصبحت وزيرا للشباب عام 1996 «ففي بيته يؤتى الحَكَم». وسيظل له في نفسي مقام درّيٌ سَني بهي.

جاء دوامي في مدرسة سويمة الواقعة على البحر الميت، في مطلع أيلول 1966 فسكنت مع المعلمين في غرفة طينية بسقف من القصيب تتدلى منه مروحة. لا صحف، لا هاتف، لا ثلاجة، لا تلفزيون، لا «دي في دي»، لا سيارة، لا مقاهٍ، لا سينما، لا لاب توب، لا فيسبوك ولا واتس أب !!

فقط كتب ومجلات ومذياع ترانسستور صغير كان ملاصقا لي كأنه الهاتف النقال اليوم.

كان عالمي آنذاك مليئا بالكتب التي تزيد على كتب كشك الثقافة العربية لصديقي حسن أبو علي. وكانت «مُعدّاتي» حينذاك سريرا جيشيا يُحدِث صريرا لا يُضبط ولا يُطاق. وفرشة ولحافا من الصوف ومقلى وإبريق شاي وبريموسا ومكوى صغيرة وحفاية والترانزسستور الذي كنت استمع منه إلى نشرات الاخبار السياسية 3 او 4 مرات في اليوم، وإلى أم كلثوم من إذاعة إسرائيل على الساعة الرابعة لمدة ساعة عصر كل يوم.

كان طلابنا يحملون لنا في الصباح ما تيسر من حبات الباذنجان والبندورة والفلفل الأخضر والكوسا والزهرة والملفوف وضمات النعنع والفجل والبصل الأخضر.

وما أن يقرع جرس الإيذان بانتهاء دوام ظهر يوم الخميس، الذي كنت انتظره بشغف، حتى أتوجه إلى الطريق الرئيسي الواصل بين ضفتي نهر الأردن فأستقل حافلات رجب الخشمان الهابطة الينا من عمان إلى أريحا التي أتناول فيها وجبة الغداء المكونة من الكباب والحمص وزجاجة سحويل ب 25 قرشا.

صعودا من أريحا إلى القدس، كنت اركب التاكسي العمومي بعد العصر. في القدس انت تجد التاريخ مكثفا، يمكن أن تمسكه بيديك.

كنت أتجول في حواري القدس وأزقتها وأمرّ على مكتباتها ومساجدها وكنائسها وأسوارها، إلى أن تكل قدماي، فاجلس على المقهى أتناول الشيشة العجمي وإبريق الشاي بالنعنع، ثم أتوجه الى الفندق الذي يتناسب سعر المبيت فيه مع طبقتي وراتبي فأجد فندقا بسعر 80 او 100 قرش في الليلة مع إفطار مناقيش بيض وزعتر وكنافة بالكعك.

زارني ميشيل النمري ومحمود كساب في سويمة، تغدينا ما قُسِم، ثم توجهنا إلى طريق الضفتين الرئيسي، ركبنا الحافلة إلى رام الله حيث سهرنا حتى الفجر.

كنت اذهب إلى نابلس أو القدس أو جنين او الخليل، اتغدى كنافة تصبح هي وجبة الغداء والتحلاية معا. ثم اجوس المكتبات وتحديدا مكتبات الكتب المستعملة فأبتاع ما تمكنني ميزانيتي من ابتياعه.

في العطل الأسبوعية الأخرى، وكانت العطلة الأسبوعية يوم الجمعة فقط، كنت اذهب إلى المفرق حيث الأهل الذين احمل إليهم الموز والبرتقال و»الغيارات» الداخلية والقمصان والجرابات.

لا اعرف كيف نجا أهل سويمة والأغوار الأردنية عموما، من سموم الأفاعي في تلك الحقبة المبكرة، التي كانت الأفاعي تتخذ فيها من السقوف مساكن لها.

وقد حدث أن كنت اقرأ رواية «ذهب مع الريح» حين سمعت هسهسةً فرفعت رأسي إلى الأعلى فإذا بالأفعى تتلوى بين القصّيب. نبهت رفيقي في الغرفة وسارعنا إلى مغادرتها.

بقينا طوال تلك الليلة في الخارج نسهر على ضوء حطب البلان الذي اشعلناه إلى أن طلع الفجر علينا.

مر بنا قرويون يعملون في مزارع حمدو الانيس فأخبرناهم بما جرى فسخروا منا وقالوا انه كان علينا أن نملأ الغرفة دخانا، فالأفاعي لا تحتمل رائحة الدخان التي تطردها. وبعدها يمكن ان ننام ملء جفوننا.

المهم في الأمر أن شابا منهم دخل إلى الغرفة وأغلقها خلفه، غاب نحو نصف ساعة طلع بعدها باسما وفي يده أفعى يمسكها بكل هدوء من رأسها.

اقسم المعلم شريكي في الغرفة انه لن يظل في بلاد الأفاعي تلك. وفعلا ما ان اطلت علينا اول لاندروفر، تعمل على خط الاغوار عمان، حتى رمى يطقه فيها وغادر دون ان يقول «خاطركم» يا شباب !

زار مدرستنا احمد العقايلة مدير التربية والتعليم بمحافظة البلقاء وسألني لماذا لا تُدرّس في معان عند أخوالك؟ فقلت له: الله وايدك.

جاءني كتاب نقلي إلى معان فتلقفته بلهفة وامتنان.

بعد اقل من سنة، القت هزيمة حزيران على شباب الأمة تحديات متنوعة. وكان علينا ان نجيب على سؤال: ما هو دورنا، ما العمل؟

نُخبُ الشعب الفلسطيني، اجتذبتها نماذجُ حركات التحرر الوطني العالمية، التي قاتلت الاستعمار وحققت النصر، في أمريكا اللاتينية وآسيا وافريقيا: الجزائر، الصين، كوبا، فيتنام، لاوس، كمبوديا، تشيلي والكونغو.

واخذت الاحزاب والتنظيمات السياسية الفلسطينية تنشيء تنظيمات عسكرية ميليشياوية، معتمدة صيغة «حرب التحرير الشعبية، فأسست الانتلجنسيا الفلسطينية في الكويت والخليج العربي، حركةَ فتح بقيادة ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف. وأنشأت حركةُ القوميين العرب «الجبهةَ الشعبية لتحرير فلسطين» بقيادة جورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد، التي انشقت عنها الجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة والقيادة العامة بقيادة احمد جبريل. وأنشأ صبحي غوشة وبهجت ابو غربية وسمير غوشة «جبهةَ النضال الشعبي الفلسطيني».

وأنشأ حزب البعث الحاكم في سوريا «قوات الصاعقة». وأنشأ حزب البعث الحاكم في العراق «جبهة التحرير العربية» وأنشأ الحزب الشيوعي الأردني «قوات الأنصار». ودخل على الخط النظامان الناصري والقذافي وغيرهما.

كان على الشباب العربي والأردني بوجه خاص، ان يبحث عن خشبة الخلاص وعن طريق الكرامة الوطنية والقومية، وان يرد على الهزيمتين المذلتين (1948 و 1967).

توجهنا الى التنظيمات الموجودة على «الساحة» الاردنية: فتح، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية، الصاعقة، جبهة التحرير العربية، الأنصار، النضال الشعبي وغيرها من المنظمات.