الأحد 2024-12-15 11:44 م
 

نصب الأفخاخ في الزقيبة والناطوف..

12:35 ص
«شو الصوص وشوه مرقته؟!»، قول يمعن في التقليل من أهمية وأثر الأشياء والأشخاص، وهو لا يصلح مطلقا بل خاطىء تماما، حين يكون المقصود فيه صيادي (الطقاطق)، و»الطقطق»؛ اسم طائر صغير جميل، كان متداولا ومعروفا لدى كثيرين في قريتي الكركية «الربة»، لا سيما لدى صيادي العصافير باستخدام (الأفخاخ)، مثل عاكف ابن ابراهيم، ونايل ابن خلف، والمرحوم حسام ابن عايد، وزياد ابن عوض، وحمودة ابن فايق.. وآخرون كثر، كان عاكف يجيد صناعة الأفخاخ، ويبيع الفخ الواحد بسعر قد يصل إلى «شلن»، وقد لهوت مبكرا في هذه الطريقة من صيد (الطقاطق)، وبإمكاني أن أصنع فخا قي غضون دقائق، وطالما تنافست مع شقيقي محمد وتسابقنا في صنع ونصب الأفخاخ، وفي يوم من الأيام أثبت لنا محمد خطأ المقولة (شو الصوص وشو مرقته)، حين عاد الى بيت الشعر الذي نقيم فيه، وبحوزته حوالي 30 «طقطق»، صادها جميعها بمجموعته من الأفخاخ، وليس بينها سوى فخ واحد أصلي، كان قد اشتراه من دكانة «أبو زياد» الذي كان يبيعنا كاز وحلاوة وسكر مقايضة بالبيض والقمح والعدس والشعير، وكان عنده ماكنة لحلاقة شعرنا وغالبا على نمرة صفر، وقلما يحلق لنا حلاقة «افرنجي»، أما بقية أفخاخ محمد، فكانت من صناعته الشخصية، ربما بمساعد وشراكة مع سامر ابن مخاييل او المرحوم إياد ابن بطرس.اضافة اعلان


شعرت بالغيرة من كثرة ما مدحت أمي محمد ذلك اليوم، حيث كاتت تقول: الله يرضى عليك يميمتي، طول النهار وانت تطارد ورى الطقاطق وعشيتنا، حيث قامت والدتي ذلك المساء بطبخ لحم تلك العصافير الكثيرة، مع البصل والبندورة، وكان عشاء لذيذا مميزا، ومنذ صبيحة اليوم التالي بدأت بمحاولات صنع فخّ، وبعد عدة محاولات نجحت، وأصبحت أتهرب من العمل ومنذ الفجر أتسلل، وفي جيبي رغيف خبز طابون، وأتوجه غربا تجاه «الزقيبة» و»الناطوف»، منطقتان خاليتان من العربان، تطلان على الوديان من 3 اتجاهات، وتتكاثر فيهما «الطقاطق».. وكنت متحمسا جدا، ألاحق العصافير بتسرّع، الأمر الذي كان يفزعها، فتطير بعيدا، وحين اقتربت اول «طقطق» من فخي، شعرت بأن يدي وقدمي تحولت إلى أجنحة، وقلبي بدأ يخفق أكثر مما يخفق قلب العصفور، الذي (فلت) من فخي، وطار دائخا مذعورا، وأنا في الحقيقة من كنت أطير مسرعا كالسهم خلفه أريد أن أظفر به، اعتقادا مني بانه (مصاوب)، وأنه سوف يقع لا محالة، حتى رغيف الخبز في جيبي سقط أثناء المطاردة دون أن أشعر.. وعدت إلى «المضارب» بعد الغروب، عطشانا جائعا أجرجر أذيال الخيبة القاسية والفشل الذريع.. وحاولت تلك الليلة سرقة أحد أفخاخ محمد، ثم اكتشفني، فضربني ضربا مبرحا، وأعطاني فخا رخوا، وقال لي بأن أغير (زنبركه).. كنا نسميه هكذا، وبعد ان أصبح صفي سادس ابتدائي، عرفت أن اسمه (زمبرك وليس زنبرك)..
أصبحت صيادا بعد عدة أيام، حيث قررت الهرب نهائيا من الشغل، رغم غضب والدي رحمه الله، وكنت أنصب الفخاخ بعد أن أصبح معي أكثر من 5 منها، وحين يئس والدي عليه رحمة الله من التزامي معهم بالعمل الجماعي، قرر أن أتفرغ للرعي، حيث أصبح عملي تلك الأيام (تسريح الغنم)، وكان يتأكد كل يوم أن (لا أفخاخ بحوزتي)، فهي تتسبب في انشغالي و(تهميلي) للغنم، لكنني كنت أخفيها في مكان بعيد، وبعد أن أتجاوز «التفتيش»، أذهب وأخرجها من مدفنها، وبدأت بمخالطة رعاة (عزازمة) مثل «سليم ابن ابو جمعة.. راعي ماعز وبعض شويهات من نعاج» و «صالح ابن غنيمة راعي ابل»، بينما أنا أسرح بنعاج (بياض)، وكانو لا يخشوا الوديان على الماعز، بينما لا تستطيع النعاج والجمال مجاراتها في تسلق السفوح والشعاب الصخرية..

تعلمت من (الرعيان) حداء جميلا لل(طقاطق)، أنصب الفخ اولا بطُعم مناسب، وكان الطُعم «جخدم» سمين، أو «دودة» من ساق جافة لشوكة «المُرّار»او ذبابتي خيل، أو «قرادة» كبيرة كنا نسميها حلمة، ننصب الفخ أمام رجم نسميه (ميراد)، ثم نبدأ بعملية (حوش الطقاطق)، حيث نقوم بالصفير للعصفور بلحن على مقام النهاوند.. ربما، فيبدأ بالتراقص أمامنا، ونقترب منه مسافة قصيرة ولا يطير، بفعل تأثره بالصفير، وحين عرفت الحداء الجديد وأجدته، أصبح لدي عنصر تفضيل عن الصيادين الآخرين، حيث صرت محترفا حقيقيا، أتقن اختيار الميراد، واختيار الطعم المناسب، وأجيد تصفير ذلك اللحن، واردد حداءا لم يعرفه أقراني آنذاك، تقول كلماته:
(أيواه أيوااااه... يابو عواااااد، من لغااااد.. على الميرااااد... دود وقراد).. كنت اردد الحداء بتطريب ولحن وصوت طفولي، فيتحول العصفور إلى راقص مجنون.
هل سألتم عن مصير قطيع الغنم الذي كان من مسؤوليتي؟!.

نعم كنت أهمله تماما، فيعتدي على حقول وبيادر وبساتين الآخرين، وينهمك والدي وأخوتي بعد الغروب في البحث عن (شياه) مفقودة، يجدونها دوما بين أغنام العرب.. وأبوء بالعقاب، ومن عجب أقول بأنني لم أتأدب من ذلك الإحتراف المكلف، ولم أحظ بمدح والدتي عن صيد وفير (يعشي العيلة)، حيث لم تتجاوز غلتي من الصيد أكثر رقم ?? عصفورا، كنت آكل بعضها نيئة من فرط جوعي وغضبي..
ولأن البرية والبدائية في اتساع وأحوال الناس تزداد سوءا، يصبح لزاما علي أن أحاول كل يوم تطوير مهارتي في الصيد حتى آخر العمر..
ربنا أكون بحاجة لأن أتعلم(حداء جديد) على أحد مقامات الفرات..
أيواه.. أيوااااه.
 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة