دبين وشجرها المبثوث للمزاد

لم يطفئ حزني على حريق الكمالية سوى مشاهدة الملك يهرع لإخماد ألسنة اللهب الشرهة، في مشهد عفوي بليغ المعنى، عالي الدلالة رزين الفكرة. ولم أتفاجأ بهبة الملك، فالذي يترجل من موكبه لمساعدة مواطن تلعثمت سيارته في إنزلاقة الثلج، لن تكون غريبة عنه مثل هذه الحمية. اضافة اعلان

إنما ثمة حريق يشب ولم ينطفئ من صدور الأردنيين. هو ليس حريقاً، بل هو (إحتراق دبين الداخلي) الذي يجعلنا نغص بهوائنا وأنفاسنا ونتلعثم بدمنا. حيث لا دخان ولا لهب. هو إنطفاء لمشاعل الحياة ومشاعرها. نعم في دبين. وما أدراك ما دبين؟
من تسنح له فرصة الوقوف على جبل الهواية في بلدة ساكب المطلة على دبين، وتسرح عيناه في هذا الفضاء، يدرك أننا نملك بحراً لا يتأتى لكثير من العالمين. بحر أخضر بزاخر معاني الجمال والبهاء. ومن يمخره يعرف معنى وشوشات اللزاب للنسمات، وفحوى العصافير في أوبة الغروب. وسيدرك كيف تتساوى أشجار القيقب مع تلاوين الحياة بأطوارها ونوارها. دبين بحرنا الأخضر حين تلفنا الصحاري من شرق وشمال وجنوب.
حينما وقفنا قبل سنوات ضد مشروع دبي كابتال قالوا أننا ضد الاستثمار، لاحياء المنطقة وجعلها أماكن جاذبة. وقلنا: الاستثمار يجب ألا يقوم على دم أخواتنا الأشجار. وأن كل استثمار لا بد أن يستند إلى جماليات المنطقة، لا على اسمنتها المزروع.
الاحتراق الداخلي الذي يصهرنا يا سيدي، أن أرض المشروع الفاشل طرحت مؤخراً للبيع بالمزاد بأمر المحكمة. وفي الإعلان أن لكل نوع من الشجر ثمناً محددا. لشجر القيب وللبلوط والسنديان، وكأن روح المكان ومعناه (الشجرة) تقدر بالدينار والدولار. ونتذكر الشاعر أمل دنقل في قصيدته: (لا تصالح، ولو منحوك الذهب. أترى حين أفقأ عينيك، ثم أثبتُ جوهرتين مكانهما. هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى).
لا نريد تتبع كيف آل المشروع إلى هذه النهاية، كونه كان وما زال مظنة فساد وتراكمات تنفيع ومحاباة. ولم يكن بحسابه الأخذ بيد المنطقة لتصبح محجا سياحيا. بل ما نريده أن تعود الأراضي بأشجارها إلى خزينة الدولة. وألا يراق دم شجرة حتى لو كانت بنت يومين. وألا تباع بالمزاد ككرسي مكسور لشركة تحت التصفية.
يكفينا ما حل بغابات برقش، والمجازر اليومية لمافيات التحطيب تحت بصر وسمع الحكومة، ويكفينا أن ثقافتنا الخضراء في حضيض حضيضها. حتى أن أكثرنا لا يدرك كم سنخسر من هواء ونقاء وصفاء وجمال، حينما يكسر غصن أخضر.