السبت 2024-12-14 11:24 ص
 

شفيق أو ديوجين ‘السعادة’

09:06 ص

الوكيل - 1ـ يوجد لدى كل فنان تشكيلي عمل، على الأقل، يكون قد استنزل فيه موقفه من العالم؛ موقفه كإنسان يعيش بين الناس بعاطفة وأنانية، بنباهة وحكمة، بتهور وزلات.. موقفه كفنان في جداليته مع فناني العالم. قد لا ينتبه الفنان أنه في لحظة ذلك العمل قد أدرك فلتته التعبيرية إبداعيا، وأنه بلغ ضوء الكشف دون أن يفشي السريرة وأن يجهر بالفكرة. هكذا، يكون العمل حجة الفنان وحجة عليه، وكثيرا ما يختزله، فيكفي ذكر الواحد لنستحضر الآخر.اضافة اعلان

أجل، الفنان يتفادى الإقرار ليس لأنه لا يريد للمعنى أن يأتي عاريا ومفضوحا فقط، بل، لأنه يخشى أن يمتد العري إلى داله، إلى مرجعه ومن ثمة إلى كل ملفوظاته التشكيلية؛ إنه يخشى ذاك العري الذي يحول الأثر الفني إلى مجرد شعار .
2ـ لكن، لماذا أتحدث عن السر التشكيلي وأنا لا أريد إلا بعض الكلام عن صديق قريب مني بأكثر من معنى !؟
ربما، لأن الصداقة عامة لا تستقيم إلا بأسرار، والأسرار لا تنفع إلا متى تعرت بين الصديقين فطفقا يواريانها عن العالم بنفس الحمية، بنفس التواطؤ.
ربما، لأن الحديث عن الصديق لا يستقيم إلا إذا امتلكنا سر الصداقة وامتلكنا معه رخصة الإفشاء.
لكن، عن أي سر وأي إفشاء أتحدث؟
إنه شفيق الزكاري وفقط !!
إنه الفنان التشكيلي المغربي المقيم بمدينة المحمدية والعائد مؤخرا من الديار الإسبانية.
إنه بشوش المحيا، واسع الجبين، كثيف الحاجبين، أصلع، قصير القامة، صلب البنية، أب لابنتين وولد وله زوجة صالحة..
رجل ذو ذاكرة بصرية قوية وغنية، ذو ثقافة تشكيلية يُعتد بها. هو رجل ذو نكتة وطرفة، خفيف المجالسة صاف، عميق الصداقة خالص..
ولكن، أين السر في هذا !؟ لا يوجد سر . إذن، سأوقف الكلام عن الرجل، وحري بي أن استغفر الله من هذه النميمة: أستغف…

3-ولأن الدعوة وجهت لي كي أحكي، سأحكي شيئا ما أو عن شيء ما؛ شيئا قد لا يهمكم بالمرة وقد يهمكم تماما مثلما العلب والمأكولات، الأحجام والأوزان، المواد والدلالات، الفراغ والامتلاء..
سأحكي عن ‘القمامة’
أداة ومكان في ذات الوقت. تنزع قيمتها بل واعتبارها الأقصى كلما اشتد ضيق الساكنة. ومهما اختلفت المواد، الأحجام، الأشكال والألوان… لن ينضاف مَدّ أو حرف إلى دلالة القمامة. ننشرح لفراغها .. لكن، هل تصلح للسكن؟ قال الصديق: إن الأمر ممكن .
وقال الفيلسوف : إن الأمر ممكن.
استرخى يستريح عند وصوله إلى آثينا في أحد مخازنها، فأثار انتباهه سر حياة فأرة رمادية، وهي تروح وتغدو بكل حرية، تأكل ما تجد في طريقها، تنام أينما تشاء حسب رغبتها هي. فقال الفيلسوف في نفسه: إنها طريقة تسعفه في أن يظل حرا مكتفيا بذاته دونما انتماء إلى مواضعات هذه الحضارة ولا خضوع لإرادة الأقوياء. فكان أن سكن برميلا ليحفظ لنفسه كامل الحريات في القول والرأي في الاستقرار والترحال.
البرميل قمامة حينما يعجز عن أداء وظيفته الأولى عند
بني قومي. وقد تأخذ القمامة دورا آخر قبل مباشرة
وظيفتها الأصل..
كان برميل ديوجين، من قبل، حاوية لتخزين الحبوب…
كذلك، استحالت قمامات الحي إلى حاويات طحين في دُور
بعضهم. لم تعد قمامات بالمرة.
الأمر ممكن إذن. لكن، هل سكن القمامة تطهيرا لذاته أم تحصينا لها؟
4 ـ الفضاء أزرق غير صاف. الخط الأصفر المتقطع يسمح للآدمي بأن ينفلت من قبضة الدائرة التي ما فتئت تتحول، لحظة اكتمال حركته، إلى مربع؛ مربع مفضي إلى ثبات الحال، إلى فساد الحال..
القمامة وضع جاثم . وضع ما قبل الوضع. وضع مواز أبدا للوضع. وضع متعدد بتعدد تخمتنا. هي الإطار الذي يخص كل واحد ولا أحد يفخر بملكيته.
القمامة فكرة، فضاء، زمن، حاوية، قبر، كيس، نهر.. هي فقر، قهر، انهزام، ظلم، قلق.. القمامة هي كل شيء تمسه يد متعفنة بقصد مّا.
ينبغي التنبيه أنه لو أحدكم يسأل الصديق شفيق عن هذا الكلام، سيجيب، لا محالة، وهو يداري ضحكته الماكرة، في أفق أن يسوغ نكتة يختزل فيها سؤالك وجوابه. هذا، إذا لم ينف بإيجاب فظيع: ممكن، ممكن… غير أن ما أريده هو شيء آخر تماما.
إنه يتحاشى إفشاء السريرة . كعادته، الصديق لا يفشي إلا أشباه السرائر.
5 ـ اللوحة نافذة قبل كل شيء. نافذة زرقاء، خضراء.. فيها يبدو الآدمي في حركة على أعنف حال. لكن في وجه من !؟ ضد ماذا!؟
يبدو أنها ضد لا أحد، فقط، ضد العالم. لا شيء يؤكد الأمر، لا شيء ينفيه. يظل السر قائما؛ هل كان الآدمي وافدا إلى القمامة سكنا، أم هاربا منها ضجرا، أم مجرد سالك أودت به سوء نية جهةِ ما إلى هذا العبور الشاذ !؟
شفيق الزكاري لن ينبس ببنت شفة. بيدا أن عينيه تناوران معنى آخر من باب : أنا أتممت فعلتي كما يحلو لي، أما أنتم فلكم أن تتأولوا ما استطعتم… أو من باب: كيف تريدون مني أن أساعدكم على فك حسابكم الديمياطي هذا، وأنا أخرجت عملي من أحشائي .. ! مهلا، أقلت أحشائي؟
يبدو في النافذة الزرقاء آدمي محشو في علبة ما. يحاول الكائن الانعتاق عبر رفرفة من جناحين منفرجين عن آخرهما – ذراعين – وكأنها المرة الأخيرة، وما بعدها سوى السماء طلاقا أو القرار رسوبا. إنه آدمي في جناحي طائر كما تقول العرب في رجل اشتد غيضه.
ما أخرجت من أحشائك أنت أنت الآدمي الأول – هو الذي وضعته في تلك الأحشاء – أنت الآدمي الثاني.

6ـ ولأن الصداقة حشو موجب وكريم، اقتسمت معك وضعك – أنت الأول وأنت الثاني: القمامة !
مربع مسطح ببعدين وفي لون أخضر متسخ، من خلاله يبدو جسد آدمي، جراء تعنيف ما، تظهر عليه تشوهات عضوية وقياسية.. الكل يروج في عمق أزرق لا يوحي بالطمأنينة البتة.
هي قمامة درب السعادة، كل دروب المدينة أو كل دروب الوطن.. بل، هي قمامة لا وجود لها لا في دفتر التحملات الخاص بـ ‘تيكميد’، ولا في تعاريج وأزقة المحمدية..
أرى الصديق الآن قد اشبك أصابعه، مال برأسه قليلا إلى الأمام، يتربص.. ضاقت عيناه، قل سمعه، التمعت صلعته.. في جهة ما، تحت فروة الرأس كل منا يواري قمامته؛ يواريها احتسابا لاستعماله الخاص . هكذا، يقاس صفاؤنا بمدى امتلاء القمامة. إلا أنه قد يحصل، ذات لحظة، أن تفيض القمامة، فيعتكر الصفو وتلتبس الرؤية، وفجأة يجد الآدمي نفسه عبارة عن درن ذاته، سلوكه، خوفه ووقته .. هنا، يتبدى للكائن، من بين الحلول الجذرية، أن يرمي بنفسه في القمامة، طبعا، ليس بغاية الإقامة فيها، بل للقبض فجأة على الإحساس بأن القمامة صارت خارج الذات.. الخلاص ممكن.
7ـ اجتاز الآدمي القمامة. عاد شفيق من غربة إسبانيا.
كنا لمة في هيأة وداع أو مواساة. الكل كان يدرك أن في الأمر عطبا ما. أجمع الحضور على أن زمنه يليق للعودة لو كان يعيش خارج الوطن، وأبدا ليس للهجرة.
ران الصمت. أدرك شفيق وأدرك الباقون عمق مأساة ألاّ اختيار بين داخل غير رحب وخارج غير مرحّب.

8 ـ الآن، أدرك أن بعض الصديق هو من أسكن بعض الصديق في تلك القمامة تحت فروة الرأس. المعادلة ذات شبه مجهولين: يحكي للعالم قضيته مع العالم. يحكي قصته هو ككائن معاصر وكوقت مأزوم، إلا أنه متى ما يتخضب الذاتي بالصدق حد الزبى، تصير القصة إنسانية وليس غير. لا ينفع معها التأويل النفساني بالعودة إلى طفولة الفنان والرفس فيها بما لا يطاق من الطنين.
إزاء العمل الفني لا ينبغي البحث عن السر، بل، عن ضوئه، فقط عن ضوئه.
القمامة، إذن، ليست سرا هي ضوء سر. يتنحنح شفيق، تتوقد نظرته، تتكشف ابتسامته.. هو الآن مطمئن الطوية:
بلغ المعنى في حلة تشكيلية شفَّافة التبطين.
9 ـ لكن، ما هي ‘القمامة ‘؟
لوحة في حقيقة الأمر في لونين أساسيين؛ أزرق، براني المطمح، وأصفر جوّاني الميول، ثم وليدهما الأخضر حيث حكاية الآدمي: الصراع الأبدي بين الداخل والخارج.
‘القمامة’ عنوان عمل فني للفنان التشكيلي والناقد شفيق الزكاري، في جنس يجمع بين الغرافيك والصباغة، متعدد التقنيات، على الكارتون، من حجم 102 على 104 سنتمتر، من انجاز الفنان وهو بالبلد الاسباني. قدمه بمناسبة معرض فردي كان له بقاعة محمد الفاسي، خلال شهر أكتوبر عام 2011، تحت إشراف وزارة الثقافة.
10ـ قبل الانسحاب.
… أجل، كل تحقق إبداعي هو ضربة نرد كما قال الشاعر الناقد، والتأويل أيضا، لعبة نرد، قد نتحايل على اللغة، على المعنى، على التركيب، على التقنية… وقد لا نبلغ ما ينبغي قوله تحديدا.
ما هو الشيء الذي شدني إلى ‘القمامة’ دون باقي أعمال الفنان المعروضة وغير المعروضة ؟
ربما، هي الأداة وعنف معناها.
ربما، فكرة حملها إلى العرض الفني والمجازفة في خدش الذوق ‘الأنيق’ للمصنفين والمقتنين.
أو ربما لأنها الكلمة التي أخذت أفكاري في رحلة صيد، كما يقول الدادائي.
أجل، أي عمل إبداعي بدون رهان فلسفي هو مجرد ديكور.
أي صداقة بدون رهان إنساني مجرد نفاق.
أعرف أنه حان وقت السكوت، إلا أني أشعر أني لم أقل لك صديقي أنـ….

فنان تشكيلي – شاعر


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة