الوكيل - في سرد مشوق متقن، ولغة محكمة قوية، يأسرنا الروائي السعودي هاني نقشبندي بحكاية متخيلة ولكنها إلى الواقع أقرب، تستلهم أحداثها من واقع غرائبي عجيب، لا يدري الإنسان أهو واقع حقيقي أم متخيل مختلق؟ فقد اختلط الأمر لشدة التداخل والتماهي الذي يجعل الحليم حيراناً، والعاقل مجنوناً!
الرواية جريئة في طرحها، وفي موضوعها، وفي كشفها لحقائق نكاد نلمسها، ولكننا نتجنب أن نشير إليها؛ إما جبناً وخوفاً أو لعدم التصديق ذهولاً من واقع أغرب من الخيال، وأشد فظاعة مما يخطر على البال!
تتحدث الرواية باختصار عن زوج فقير يسعى لعلاج زوجته المريضة، وبعد أن يدفع عدة رشى لتقديم موعد العملية، تتعطل العمليات حداداً على وفاة ‘زوج ابن خالة عم الزعيم’. ولما تواتيه الجرأة فيصرخ بكلمة ‘لا’ المحرمة، يلقى القبض عليه بعملية اقتحام، ويُتهم بأنه المحرض على ثورات الشارع الثائر ضد أعضاء المحفل الذين يسيطرون على الوطن بقيادة الزعيم، وتبرع أجهزة الأمن في اختلاق الأدلة لإدانته فتتحول قطع الغسالة المتهالكة التي تنتظر الإصلاح والتجميع إلى قطع لسلاح مدمر خطير؛ إذ كان لا بد من كبش فداء -بأي ثمن- لإرضاء الزعيم، وإقناع الشعب بخطورة أعداء الوطن ومخططاتهم لتدمير الوطن. وبعد أن يحكم عليه بالإعدام، يقترح ‘نحيل الجسم’ أحد أعضاء المحفل أن يتم العفو عنه ويعين عضواً في المحفل لإسكات الغضب الشعبي. وهنا تحدث المفارقة، فيتحول هذا المواطن من خائن عند الشعب إلى بطل قومي، وتكتمل المفارقة في أن يصبح هذا المواطن من أكثر أعضاء المحفل مطالبة بالقسوة على الثائرين والقضاء عليهم والتنكيل بهم، وعندما يكشف سراً للمحفل، يتم التخلص منه بطريقة ذكية، تنهي حكايته، وتنهي الرواية، ولكنها تبقي التساؤلات مفتوحة على مصراعيها.
وفي هذه العجالة، أتناول الرواية من زوايا أربع أظنها الأهم والأبرز:
الفساد
المظهر الأبرز للفساد في الرواية ظهر من خلال الرشاوي التي يضطر الزوج لدفعها لعلاج زوجته المريضة، ومن خلال الاستهانة بحقوق المرضى، وهذه صورة قاسية، فإذا كان الفساد وصل إلى قطاع حيوي يتعلق بحياة الإنسان المقدسة، فهو بذلك قد استشرى في أوصال الوطن إلى حد دفع مجموعات من المواطنين للتظاهر والاعتصام تنديداً بذلك، واعتراضاً على أعضاء المحفل الذين يسيطرون على كل شيء.
وعندما يعم الفساد في وطن، ولا يجد من يوقفه أو يردعه أو حتى ينادي بذلك، فهي دعوة صريحة للمواطنين للثورة للحصول على حقوقهم المهدورة، واسترداد كرامتهم المداسة.
الطبقة الحاكمة
تتشكل الطبقة الحاكمة عادة في الدول الفاسدة التي لا يحدث فيها تداول للسلطة، وبعد أن تتذوق هذه الطبقة ميزات السلطة وسطوتها ومنافعها غير المحدودة، تتحول اهتماماتها من رعاية مصالح المواطنين إلى المحافظة على مصالحها هي وبقائها في سدة الحكم، والقضاء على كل ما يهدد وجودها من قريب أو بعيد، فهي تختصر الوطن بها، ولا وجود للوطن بغيرها، ويتحول المواطنون بالنسبة إليها إلى أتباع وعبيد وظيفتهم طاعة وتنفيذ أوامر هذه الطبقة والتسبيح بحمدها.
وفي الرواية نلحظ بوضوح وحشية معظم أعضاء المحفل للدفاع عن مكاسبهم ومكانتهم، معتبرين المواطنين الثائرين خونة يجب الخلاص منهم وتأديبهم دون رحمة، فهم يتطاولون على سادتهم، وليس من حقهم أن يرفعوا رؤوسهم أو يعترضوا أو حتى ينطقوا بكلمة ‘لا’!
الحرية
الحرية حق فطري للمواطنين دون استثناء ودون قيود إلا ما تواضعت عليها الإنسانية عبر تاريخها، وأي تعدٍ على الحرية أو انتقاص منها هي جريمة لا يمكن القبول بها تحت أي ظرف من الظروف. والسلطة الحاكمة وُضعت لتنظيم حياة المواطنين وإدارة شؤونهم والفصل بينهم، دون مساس بحرية المواطنين من قريب أو بعيد.
وفي رواية ‘نصف مواطن محترم’ نجد أن العبودية هي الأساس، والحرية منحة مقيدة، والمواطنون مجرد أتباع لا رأي لهم، أو أحجار على رقعة شطرنج.
الإعلام وتزييف الوعي
أخطر ما تكشف عنه الرواية هو الدور المحوري للإعلام في تزييف الوعي، وبرمجة المواطنين، وتوجيههم حسب رغبات السلطة الحاكمة، دون مراعاة لمشاعرهم أو أفكارهم أو حقوقهم. فالزعيم يتحكم في المواطنين من خلال جهاز إعلامي عجيب، يتكون من أربعة عشر مفتاحاً، لكل مفتاح وظيفة ومهمة. فمن خلال هذا الجهاز يغير قناعاتهم، ويحول مواقفهم، ويزعزع أفكارهم، ويقولب مشاعرهم وسلوكياتهم.
وعندما يستعين الزعيم بالزوج، الذي أصبح عضواً في المحفل لفحص جهازه بعد أن خف تأثيره، ولم يعد فعالاً كالسابق، يكتشف الزوج حقيقة مذهلة، وهي وجود مجموعة أخرى من الأجهزة تتبع أعضاء المحفل، وكل منها يبث ما تريده لتثبيت دعائمها وإحكام سيطرتها والتشويش على غيرها. والمفاجأة المذهلة أن الزوج يصدم عندما يعلم أن جميع أعضاء المحفل يعلمون ذلك، والزعيم بالتأكيد يعلم ذلك، وهم لا يريدون من يشوش عليهم، ويؤثر على مخططاتهم، ويكون التخلص من الزوج هو الحل الأمثل لإبقاء الأوضاع على ما هي عليه.
وهذه الحقيقة التي تكشفت تشير إلى أن الطبقة الحاكمة تتوزع الأدوار فيما بينها، بطريقة تكفل لها السيطرة على الشارع، فهي التي تثير الشارع فيتظاهر ويعتصم، وهي التي تسكته أو تجعله يتظاهر مسبحاً بحمد السلطة، ولا أدل على ذلك أن الجماهير ثارت على الزوج ودمرت بيته بتهمة الخيانة والتآمر على أمن الوطن، وهي نفسها التي خرجت لتحيته والتصفيق له كبطل قومي.
وهذه الحقيقة كارثية، لأن التغيير والإصلاح لا يمكن أن يحدث ما دام الشارع ألعوبة بيد الطبقة الحاكمة، وهو يظن نفسه يتظاهر ويحتج رفضاً. والموالاة والمعارضة حسب الرواية- وجهان لعملة واحدة.
وبعد، فرواية ‘نصف مواطن محترم’ (دار الساقي، بيروت، ط1، 2012، 264 صفحة) تضعنا أمام حقيقة صارخة، وهي أن الربيع العربي بصورته الحالية ما هو إلا مسرحية هزلية تديرها قوى عالمية، ولن يخرج عن السيطرة، وكل ما يحدث هو مبرمج ومخطط له، لاستنزاف قوى المواطنين وتفريغ شحنات الغضب لديهم، وأن الطبقة الحاكمة متجذرة إلى الحد الذي يمكنها أن تعرف بوسائلها كل ما يحدث حتى وصلت أجهزتها إلى غرف النوم.
وأخيراً، الرواية عميقة ويمكن أن تقرأ بمستويات متعددة، وهي تستحق الدراسة بما يليق بها، فقد فتحت باباً لن يغلق في المدى المنظور، فالأحداث متقلبة بشكل متسارع يستعصي على الفهم والسيطرة.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو