الوكيل - الشهادة الأولى : الشاعرة لميعة عباس عمارة . قدمت عام 1996 من أمريكا في زيارة الى لندن.. وانتهز ‘ديوان الكوفة’ فرصة وجودها، فأقام لها أمسية شعرية وطلبت مني تقديمها للجمهور. كانت أمسية حافلة حضرها العديد من الأدباء والصحفيين ورجال الإعلام. قرأت فيها مجموعة من قصائدها الجديدة ومختارات من دواوينها السابقة. وبطلب من الحاضرين تحدثت عن جوانب من ذكرياتها مع السياب، مشيرة الى بعض المحطات في حياته، كاشفة ربما لأول مرة عن بعض الأمور الخاصة بحياته غير المعروفة من قبل .. ذكرت لي السيدة لميعة أنها تعد مذكرات أدبية موسعة، فيها جزء كبير لم يعرف من قبل عن حياة بدر، وأنها تعتزم طبعها في كتاب، ولكنها اتفقت مع جريدة ‘الشرق الأوسط’ بلندن على نشرها في حلقات قبل إصدارها في كتاب. وبالفعل لم تمض أشهر قليلة حتى بدأت تلك المذكرات تخرج على صفحات الجريدة بحلقات تحت عنوان ‘ من المذكرات’
في الحلقة الثامنة التي نشرت يوم الأربعاء 25/09/1996 في العدد 6511،
تحدثت السيدة لميعة عن السياب من خلال الإجتماع الذي عقد في بيت الجواهري لانتخاب هيئة إدارية لاتحاد الأدباء في العراق. ولأهمية هذه الشهادة التاريخية، فإني أنقل حرفياً ما قالته خصوصاً كونها تكشف عن الكثير من تلك الملابسات التي أثرت لاحقاً، أدبياً وجسدياً ونفسياً على السياب :- (كان الاجتماع في بيت الجواهري لإنتخاب الهيئة الإدارية لأول اتحاد أدباء عراقي صيف 1958 في حديقة الدار الواسعة المطلة على شاطئ دجلة. عشرات الأدباء والشعراء التقوا بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية في بداية الثورة.
كانت سيطرة الشيوعيين تبدو واضحة على الاجتماع الذي حضره بدر شاكر السياب. وأهمل فيه بدر بشكل واضح، فأصيب بمغص وغثيان وكاد أن يغمى عليه، فأسنده أحد الموجودين وأخرجه. بدر كان قد غير انتماءه من الحزب الشيوعي قبل ثورة 14 تموز 1958. كانت هذه ضربة لبدر الذي لحقه غُبن كثير وتهجُم، وهجاه شاعر ينافسه بقصيدة، وحاربه الحزب الذي تبنى هذا الشاعر على حساب السياب. حتى لقد أوصى أحد قادة الحزب الشيوعي (الذي خان الحزب وأسلم جماعته للإعدام قبل أن يصفع صفعة واحدة) أوصى الرفاق هذا القائد قبل براءته من الحزب:
- على كل من يصادف بدر شاكر السياب بالطريق أو أي مكان أن يهينه ويبصق عليه ليعلم الجميع أن الحزب لا يتعاون مع الخونة..
والعجيب أن كلا من الشاعر والسياسي، صارا يدعيان أنهما كانا من أصدقاء بدر، بعد موته) .. ولعل السيدة لميعة تقصد بذلك الشاعر عبدالوهاب البياتي، الذي تبناه الحزب الشيوعي بعد انسحاب السياب منه، إذ كانت المنافسة الشعرية بينهما معروفة في الأوساط الثقافية والأدبية في بغداد.
حيث عرف عن البياتي أنه لا يخشى غير السياب في المنافسة على زعامة الحركة الشعرية الجديدة في العراق، ولأنه يدرك خطورة موهبته الشعرية الكبيرة على موقعه الريادي في حركة الشعر الحر. وفي هذا المجال لا يمكن كذلك استبعاد عنصر ‘الغيرة’ لدى البياتي مما كان يتردد عن وجود علاقة بين لميعة والسياب وزياراتها له في قريته بالبصرة، مما جعل البياتي يدعّي في مجالسه الخاصة أن لميعة كانت تحبه هو، وأنها كانت ‘تجامل’ السياب فقط. علماً بأن لميعة كانت تنتقد البياتي كثيراً وتقول عنه إنه لم يدخل مكتبة الكلية ولا مرة واحدة طيلة فترة الدراسة التي جمعتهما معاً في صف واحد، وانه كان يغار من السياب. وما أعرفه أنا، أن البياتي كان يعتمد دائماً على مكتبته الخاصة ومراجعه في الأدب والبحث. وأذكر بهذا الصدد أنه أخبرني في آخر رسالة له من دمشق، بتاريخ 04/24/1998 أنه أهدى مكتبته الخاصة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، حيث كان ينوي العودة إلى بغداد، وهي آخر مكتبة له قبل رحيله.
الشهادة الثانية :
وهي تؤكد الموقف السلبي المتعمد الذي اتخذه الأدباء اليساريون من السياب، واستبعاده من الهيئة الإدارية وتهميش دوره في الاجتماع، من خلال ما ذكره صديقه الشاعر بلند الحيدري في محاضرة دعاه لإلقائها ديوان الكوفة بلندن بتاريخ 23/11/1993 لكي يتحدث عن سيرته الذاتية، وطلب مني تقديمه للجمهور. قال الحيدري عن إجتماع صيف 1958 لتأسيس الاتحاد، ما نصه :
‘إنني صُدِمت عند إجتماعنا الأول في دار الجواهري، عندما اُبعد اسم السياب الذي كنت قد إقترحته واحداً في الهيئة التأسيسية، فانسحبت بدوري معه من إتحاد الأدباء كله، وفي عام 1961 عدت اليه اثر انتخابي عضواً في الهيئة الإدارية ومن دون استشارتي’ .. المحاضرة مكتوبة بخط يده، وهي غير منشورة ونسختها الأصلية محفوظة لديّ.
تؤكد هاتان الشهادتان ما كان يردده السياب بصفة دائمة، من أنه حورب بتعمد، وأن استبعاده من الهيئة الإدارية للاتحاد كان نتيجة ضغط شديد من الحزب الشيوعي الذي كان مسيطراً على الحياة السياسية والثقافية بعد سقوط النظام الملكي، إثر خلافه معه وانسحابه منه بسبب ما اعتبره ‘ تسلطاً ودكتاتورية قمعية تفشت في الحزب نتيجة سيطرة قادة لايؤمنون بالديمقراطية وحرية الفرد واختلاف الرأي’ على حد قوله لي في الكويت لاحقاً..
أعود إلى جلستنا في النادي، فبعد أحاديث عامة وبعض الأسئلة التي كان يطرحها محمود الريفي وحميد الهيتي على السياب حول السنوات التي قضاها في دار المعلمين العالية، إستأذن كلاهما بالانصراف وصافحاه معتذرين وبقيت وحدي معه.
إقترحت عليه أن نطلب عشاءً لكنه إعتذر قائلاً: ‘أنا في حِمية بسبب المعدة، ولا أتعشى في الغالب، وأكتفي بالخبز والحساء الخفيف’ ثم نظر إليّ بإمعان وقال مبتسماً:’ أنت تذكرني بحماستي أيام كنت طالباً هنا’
أجبته ضاحكاً: ‘نحن امتداد لكم. تعلمنا منكم فأنتم قدوتنا’ فرد قائلاً:
‘أسلكوا طريقكم الذي تختارون، أنتم جيل مختلف ولا بد أن يكون إبداعكم كذلك’ قلت له: أنتم جيل رواد، هل تعتقد أن جيلكم كان جيلاً محظوظاً ؟
- ‘لا .. جيلنا لم يكن محظوظاً فقد ولد في زمن الغيرة والتباغض، وشعراؤه الذين يدعون تطويره هم آفته، يقتلونه بالحسد والمكائد، الشعر لا يزدهر إلا بالمحبة والنقاء، العداوة والغيرة تقتلان الشعر’. بدا لي وكأنه يعبر ضمنياً عن أزمته الداخلية ومرارة تجاربه مع أصدقائه الأدباء. سألته إن كان يعتقد أن جيل النهضة الشعرية الحديثة الذي سبقهم، جيل الرصافي، الزهاوي علي الشرقي، الصافي النجفي، والجواهري كان أكثر حظاً، فأجاب :
- ‘نعم كانوا جيل نهضة شعرية وأكثر إحساساً بالمسؤولية الأدبية. كان التنافس بينهم أدبياً خالصاً، وعلى جانب كبير من القيم الأخلاقية’ لم يكن يبدو عليه الإرتياح وهو يخوض في هذا الموضوع، حاولت تحويل مجري الحديث لكنه فاجأني وهو ينظر إلى ساعته قائلاً :
‘لا بد أن أعود الآن الى البيت، فأنا أسكن حالياً في منطقة ‘الباب الشرقي’ ويمكنك أن تزورني في أي وقت ‘وأعطاني رقم تلفونه (وأظنه في ذلك الوقت كان يسكن في منطقة ‘السنك’ المتفرعة من شارع ‘الرشيد’ حيث سمعنا أن صديقه الشاعر ‘الفريد سمعان’ قد إستأجر له بيتاً ليقيم فيه مع زوجته السيدة ‘إقبال’ التي تزوجها حديثاً) شكرته بامتنان، كانت الساعة قد اقتربت من الثامنة مساء، فغادرنا النادي متجهين نحو محطة الباص. خرجنا من الباب الخلفي للنادي المؤدي الى الجانب الأيمن لمنطقة ‘الوزيرية’ ثم انعطفنا يساراً الى الشارع العريض المؤدي الى محطة الباص رقم (7) الذي يسير بين منطقة ‘الوزيرية’ وباب ‘المعظم’، والذي ينقل يومياً مئات الطلبة والطالبات من وسط بغداد الى دار المعلمين العالية، ثم كلية الآداب في منطقة ‘الصليخ’. داخل هذا الباص الأحمر العتيد، كانت تنشأ يومياً شتى التعارفات والصداقات بين الركاب من الطلبة والطالبات، وتخفق آلاف القلوب، وتتغير شتى المصائر، وتتشعب دروب المستقبل.
ونحن متجهان الى موقف الباص، التفت السياب يساراً وقال:
هل ترى ذاك البيت الكبير أمامك الى اليسار؟
- نعم ..
- ‘كان هذا قسماً داخلياً لطالبات العالية’. قلت له ‘أعرف هذا، وهو لا يزال كذلك’. قال: يوم كنت طالباً في الدار، كنا نسمع حكايات رومانسية لعشاق هائمين يذرفون دموعهم في آخر الليل ويناجون حبيباتهم على أعتابه.
- لابد أنك تأثرت بها وهزتك هذه الحوادث شعرياً في حينها، الغريب أننا نسمع الآن نفس الحكايات الرومانسية من وقت لآخر ونفس القصص الدرامية التي يتناقلها الطلبة.
- ‘هزتني في حينها، ولكنني لم أكتب عنها الا بعد فترة طويلة حين أستوحي الماضي فتأتي عفويا ً على ذهني في ثنايا القصائد التي يربط بينها الحس المأساوي، صور الماضي المختزنة في ذاكرتي هي دائماً أقوى محفزاتي الشعرية.الحاضر قلما يحركني في بعده الزمني الآني مع تأثري به نفسياً، ولكن الماضي الذي هو بلورة للحاضر هو عندي معين الشعر،وهذا ما ظهر في قصائدي عن ‘جيكور’ و’بويب’ وأجواء قريتي التي كنت أحن إليها حتى وأنا في بغداد’، ساعتها كنا قد وصلنا الى موقف الباص، لمحنا باص رقم (7) مقبلاً من بعيد، صافحني السياب بحرارة وهو يقول:
- ‘أشكرك كثيراً وأرجو أن تتصل’
- سأفعل قلت له.. بعد أن شكرته على حضوره الأمسية، ساعدته على الصعود الى الباص، لوح لي بيديه الناحلتين .. ثم اختفى بين الركاب. أحسست ساعتها بحزن شديد، كما لو أن هاجساً بداخلي يشعرني بأنني لن أراه مرة أخرى، فقد شعرت حقاً بالإلفة إزاءه رغم قصر اللقاء. فهو من النوع الذي تألفه النفس سريعاً. وتعاطفت كثيراً مع وضعه النفسي والمادي، فهو لم يشر الى فصله من وظيفته وبقائه بلا عمل ولا مورد رزق، ولم يذكر أبداً حاجته الى المال. وهنا أستحضر ما كتبه المترجم والأديب نجيب المانع في سيرته الذاتية ‘ذكريات عمر أكلته الحروف’ عن السياب .. حين كانا يعملان معاً في شركة نفط البصرة، إبان العهد الملكي، وكان عملهما ينحصر في نقل أرقام صناديق البضائع وتدوينها في بطاقات خاصة، يستذكر المانع تلك الأحداث بألم ويقول: ‘شيء لا إنساني لشاعر مثل بدر شاكر السياب، أن يتصور المرء شاعراً ثري الإحساس، مفعماً بالجوع للدنيا، يقضي ثماني ساعات كل يوم في نقل أرقام صناديق إلى البطاقات مئات المرات كل يوم وكان المدير الإنجليزي يعامله بجفاء وينهره أحياناً بسبب تقصيره في العمل، وفي نهاية المطاف فصله نهائياً، بدعوى كثرة شرود ذهنه وتقصيره في العمل .. في الواقع كانت حياة السياب الوظيفية سلسلة متواصلة من الفصل والطرد من العمل لأسباب سياسية، في كل العهود العراقية بدأت منذ العهد الملكي حين بدأ حياته الوظيفية الأولى مدرساً للغة الإنجليزية في ثانوية الرمادي، حيث فصل منها عام 1949، وفي العهد الجمهوري فصله البعثيون حال استلامهم للسلطة عام 1963، ولم يشفع له تأييده لهم وهجاؤه لعدوهم عبد الكريم قاسم الذي ساعده بالمال كي يعالج في لبنان واوروبا، وهذه كانت إحدى تخبطات السياب ومصالحاته وتقلباته التي لم تنفعه في شيء، ولا تنم عن حصافة وعميق خبرة، والواقع أن السياب كان يبخس نفسه أحياناً، وكأنه يجهل قيمته الأدبية العالية فينخرط في مدح من هم دون قدره، ولا يستحقون منه ذلك، وكمثال على ذلك مدحه لمزهر الشاوي مدير الموانئ في البصرة الذي كان السياب يعمل محرراً أدبياً في مجلته (الموانئ) ثم سلسلة المدائح المجانية ليوسف الخال وأدونيس، وبقية شعراء مجلة ‘شعر ‘ وصغار الشعراء الآخرين الذين لا يستحقون منه ذلك، هذا التزلف والمواقف المداهنة لم تكن تصدر عن قناعة ذاتية،وإنما كان دافعها المسألة الشخصية، وتسهيل عملية النشر في بيروت، وقد أساءت إلى سمعة السياب، وجعلته يندم عليها لاحقاً.
بعد هذا اللقاء، لم تتح لي،مع الأسف، فرصة الوفاء بوعدي للسياب في أن أهاتفه والتقيه ثانية، رغم توقي الشديد لذلك. فقد اضطربت الأوضاع السياسية في العراق واحتدم الصراع بين حكومة نوري السعيد والقوى الوطنية المعارضة التي توصلت لاحقاً الى اتفاق بتشكيل الجبهة الوطنية التي ضمت كافة الأحزاب العراقية المعارضة يومذاك.
ولم تمض أشهر قليلة حتى انفجرت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 التي أسقطت النظام الملكي وأقامت الجمهورية، حيث دخل العراق بعدها في دوامة الصراعات الحزبية الدموية والاحتراب السياسي العنيف بين شتى الفئات الوطنية، والذي انتهى باغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الثورة، واستيلاء حزب البعث على الحكم عام 1963، واعتقالي في سجن (خان الهنود) بمدينة النجف حيث كنت مدرساً في متوسطة ‘الخورنق’.
من يومها دخلت حياتي في مسار مختلف، وكانت بداية لغربتي الطويلة التي بدأت بالرحيل إلى الكويت، مروراً بمدن العالم، مورشيوس (في المحيط الهندي) والجزائر في شمال أفريقيا وانتهت ببريطانيا.
أذكر أنه في اليوم التالي لأمسية السياب، إلتقيت في ‘المقهى البرازيلي’ الكائن في نهاية شارع الرشيد، قرب الباب الشرقي والذي كان يومها ملتقى مفضلاً للشعراء والأدباء، إلتقيت بالشاعر عبد القادر رشيد الناصري
(إبن مدينتي) جالساً مع القاص عبد الملك نوري، وفؤاد التكرلي والقاص نزار عباس. كان الناصري من أكثر الشعراء العراقيين شهرة في العراق والعالم العربي في ذلك الوقت، وكانوا يشبهونه بالشاعر الإنجليزي ‘أوسكار وايلد’، لوسامته وبوهيميته ورقة شعره. كان الناصري قد حضر الأمسية في حينها،
وكان يحترم السياب ويقدر مكانته الأدبية، رغم الاختلاف في الفكر والسلوك الاجتماعي. قال لي إنه جاء لتوه من الإذاعة العراقية حيث سجل قصيدة جديدة، (كان الناصري محسوباً على النظام الملكي) انه التقى هناك بالسيدة (سميرة عزام) وأصطدم معها وعنفها لأنها رفضت إذاعة التغطية الصحفية التي كتبها الصحفي والكاتب الإذاعي جميل الجبوري لأمسية السياب، مدعية أن الإدارة هي التي تدخلت ورفضت إدخالها في البرنامج. (سميرة عزام أديبة فلسطينية كانت تقدم برامج إذاعية أدبية من إذاعة بغداد إبان العهد الملكي) .. بعد أشهر قليلة سقط النظام الملكي في تموز 1958، وبدأت أعمل في الإذاعة مقدماً لبعض البرامج الأدبية وأنا لم أزل طالباً بالجامعة.
قدمت برنامج (الركن الأدبي) ثم برنامج (كتاب الأسبوع) الذي استمر لعدة سنوات. حين دخلت الإذاعة سألت عن سميرة عزام، فقيل لي إنها تركت العمل أو ربما فصلت من الوظيفة. وقد سمعنا بعد ذلك أنها توفيت في حادث سير. كانت أديبة لها عِدة مجموعات قصصية أشهرها ‘أشياء صغيرة’. في حلقة من برنامجي (كتاب الأسبوع) قدمت ديوان السياب ‘أزهار ذابلة’ الذي نشر أواخر عام 1947م. تحدثت فيه عن مكانته الشعرية وقرأت نماذج من قصائده، رغم اعتراض بعض الجهات الإدارية، وكان ذلك بفضل الشاعر الكبير كاظم السماوي (الذي كان مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون) وصديقاً مقرباً من الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث أعطى فسحة من الحرية والتعبير عن الرأي الشخصي.
ويبدو أن السياب إستمع إلى البرنامج حين إذاعته وفرح به، واعتبره إنصافاً لحقه المهضوم من قبل حساده ومنافسيه ،حتى إنه ذكرني به حين إلتقيته لآخر مرة في الكويت.
في الكويت كنت أعمل مدرساً للغة العربية في الكلية الصناعية بمنطقة (الشويخ)، وأسكن بضيافة صديقي وإبن مدينتي الشاعر العراقي- الكويتي ‘محمد الفايز′ .. صاحب كتاب (مذكرات بحار) الشهيرة في الكويت،
وكانت تربطه صلة قرابة بالسياب، فهو من عائلة ذات أصول نجدية يطلق عليهم (نجادة البصرة) إستوطنوا في الناصرية والكويت وأبي الخصيب، وهو القضاء الذي كانت قرية ‘جيكور’ مسقط رأس السياب، تابعة له.
جاء الفايز ليخبرني أن السياب يرقد مريضاً في المستشفى الأميري منذ ثلاثة أيام. صدمت للمفاجأة ورجوته أن نذهب فوراً لزيارته، أخذني بسيارته وانطلقنا مسرعين نحو المستشفى. حدثني ونحن في الطريق كيف أن الشاعر الكويتي النبيل ‘علي السبتي’ هو الذي تولى رعايته وتكفل بحمله من المطار وهو غير قادر على المشي، ومُصاب بأمراض عديدة . وصلنا المستشفى وسألنا عن غرفة السياب،فدلنا ممرض عراقي هناك بإشارة من يده فاتجهنا مباشرة إلى غرفته، قاطعين الممر الطويل الذي تفوح منه رائحة العمليات والأدوية النفاذة ووجوه المرضى المصفرة الراقدين في الغرف المتراصة. دخلنا الغرفة الصغيرة فوجدنا علي السبتي هناك، ولم أكن قد تعرفت عليه شخصياً، ولكن بعد أن قدمني إليه صديقي محمد الفايز، صافحني بحرارة مُتذكراً بعض القصائد التي كنت أنشرها في جريدة ‘صوت الخليج’ ثم التفت داخل الغرفة وقال:
‘ها هو بدر أدخلا وسلمّا عليه’، ألقيت نظرة خاطفة على السرير، فهالني ذلك الجسد المنكمش المحطم الذي تحول إلى جسد شيخ عجوز تداخلت عظامه، وتقلص حجمه ربما بفعل انتشار السرطان الذي بدأ يأكل أعضاءه، فلم يبق منه غير رأس صغير وعينين منكمشتين تحدقان ببطء شمالاً ويميناً، يتفحصان المكان ووجوه الزائرين، إنحنيت وسلمت عليه وهو ممدد على السرير ويتحرك بصعوبة، بل هو غير قادر على الحركة في الواقع. وسلم عليه كذلك صديقي الفايز. قلت له: كيف حالك أستاذ بدر؟ هل تذكرني أنا فلان (وذكرت إسمي)؟
فرد وهو يبتسم: أذكرك طبعاً أهلاً بك، كيف حالك ؟
بدا صوته واهناً، ولكن ذاكرته ما زالت حية وكان دمثاً في ترحابه. قلت له:
الحمد لله أنا سعيد برؤيتك مرة أخرى . فابتسم قائلاً :
‘أنا ما زلت أذكر أمسية دار المعلمين العالية وجلسة النادي، ونجاتي من هجوم قطار السدة الترابية’، إبتسمت بدهشة وقلت له: أنت ما زلت تذكرها؟ قال: نعم وكيف لي أن أنساها ثم واصل ‘تراني أنجو هذه المرة من هجوم الأمراض’ ؟
قلت له مواسياً: ستنجو إن شاء الله .. إنها شدة وكل شدة إلى زوال، أومأ برأسه وهو يبتسم . ثم دخل فجأة طبيب وممرضة يفحصانه ويقيسان ضغطه. التفت علي السبتي نحوي وهمس في أذني:
‘بدر أجريت له عملية مساء أمس وهو متعب، علينا ألا نُطيل الجلوس معه اليوم’.. بعد خروج الطبيب والممرضة قلت له: كيف تشعر الآن ؟ – أنا متعب قليلاً بعد عملية الأمس. – إذن أنت بحاجة إلى الراحة اليوم، سـأزورك غداً. شد على يدي هامساً: ‘لا بد أن أراك غدا، اليوم لم يسمح لنا الوقت بالحديث’
طمأنته بأني سأزوره غداً. صافحنا علي السبتي الذي بقي معه، وخرجنا أنا والفايز. في اليوم التالي زرته بمفردي بعد الظهر، فوجدت عنده مجموعة من الأدباء الكويتيين جاءوا للاطمئنان عليه، أذكر منهم الأديب عبدالله خلف (رئيس القسم الثقافي بإذاعة الكويت)، وبعد أن سلموا عليه مودعين سألته عن حاله، فقال إنه ما زال يشعر بآلام في الظهر وأوجاع في المعدة بعد العملية.
ـ أين علي السبتي؟
- كان هنا صباحاً، وقال إنه سيعود في المساء بعد أن ينهي عمله في الجريدة (صوت الخليج) وبدأ يثني عليه ..
ـ ‘كم هو نبيل هذا الرجل، إنه نادر المثال بين الرجال، لا أدري كيف سيكون حالي لو لم يكن علي بجانبي’ .. ثم سحب نُسخة من (صوت الخليج) من تحت وسادته وقدمها لي: جلب علي هذه الجريدة، هل قرأت قصيدتي فيها ؟
- نعم قرأتها في مكتب محمد الفايز (الذي كان يعمل بدائرة الكهرباء) وهي في الحقيقة تثير حيرتي.
ـ ماذا تعني ؟
- صحيح هي شفافة ومؤثرة لكنها لا تصور آلامك وأوجاعك، مثلما يتوقع القارئ وإنما تصور أحلامك وكأنك لست في مستشفى،هي قصيدة حالمة لا علاقة لها بالواقع.
- قال :صدقت، الشعر هو تصوير الأحلام، وأنا شاعر حالم بطبيعتي.. أنا من ناحية أخرى أحاول نسيان واقعي الموجع، فأكتب عن أحلامي. كرهت مستشفيات بيروت وباريس ودرم ببريطانيا، لا أريد أن أكتب عنها فهي واقع لا أريد تصويره في قصائدي، لهذا تجدني اتجه نحو الحلم فهو الذي يخفف أوجاعي وينسيني آلام مرضي..’ ـ ولكن كيف تستطيع نسيان مرضك وأنت بين الأطباء والممرضين وقناني الأدوية وغرف المرضى الراقدين جوارك؟ وكيف تجد الوقت لكتابة الشعر وغرفتك تعج بالداخلين والخارجين؟ .. أطرق السياب برهة، وأغمض عينيه وخلته ذهب في غيبوبة، وضعت يدي على كتفه وقلت له: أستاذ بدر هل سمعت ما قلت ؟ رد قائلاً: آسف سرحت قليلاً، أعد عليّ ما قلت، أعدت عليه سؤالي فبادرني بقوله: – صحيح ما قلته عن ضوضاء المستشفى والزائرين، ولكنني انتهز دائماً بعض سويعات الفجر، فأنا لا أنام جيداً بسبب أوجاع جسدي. أنا أكتب عند الفجر، حين يكون السكون شاملاً مخيماً فوق ردهات المستشفى، في تلك اللحظات أحاول إدخال كياني وأحاسيسي في عالم آخر، فأحس بنفسي شفافاً، وأن أوجاعي هدأت قليلاً وابتعدت عن مسارب جسدي، تلك اللحظات هي لحظات إحساسي بالشعر، هي لحظات نسياني لواقعي وآلامي والكتابة عن أحلامي’..
بدا تعليل السياب هذا وكأنه رد على تساؤلاتنا المحيرة حول قدرته على كتابة الشعر وهو في حالته البائسة هذه، مريضاً مشلول الحركة. فقد كنا نندهش أنا وعلي السبتي وأصدقاؤنا الآخرون، من روعة تلك القصائد التي يكتبها شاعر مشرف على الموت، كيف استطاع أن يسيطر على لغته وأفكاره وهو يكتب بيد مرتعشة لا تقوى على الإمساك بالقلم، وعيناه متعبتان لا تدركان مواضع الأسطر على الورق؟ كان علي السبتي أول من يقرأ قصائد السياب التي يستلمها حارة مثل رغيف الخبز الخارج لتوه من التنور.كان يكتب في الليل وينشر في النهار بشكل يومي تقريباً، يسلم السبتي قصيدة كل صباح لتطبع في الليل في مطابع (صوت الخليج) وتظهر صباح اليوم التالي ليقرأها الناس طازجة مثل القهوة العربية الممزوجة بالحليب وأنفاس الهال ولكنها ممزوجة كذلك بالمرارة والمأساة وطعم الموت الوشيك.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو