السبت 2024-12-14 03:22 م
 

وكبرنا معاً يا أبتِ رمحاً لرمح

10:23 ص

يذكرني (فيسبوك) بعيد الأب. فمن ينسى أباه؟ وهل يُنسى الأب؟. كيف أنساك والمكان يمتلئ بك، حتى شوشة الروح. كيف ننساك وأنت تعطر الغروب بماء قوارير الزريعة لتمنحها وهج المساء ولمة العائلة؟ كيف ننساك وأنت فينا. وأنت نحن: كلنا كلنا. في مرج الذكريات أنت، وفي باحة حنين السهرات، ومع خيوط الحكايات. من ينسى ضحكة الأحفاد يتكوكبون حولك لنيل أحضانك الوارفة. أيها القريب القريب. أنت ما بعدت ذرة تراب رغم ثقل التراب والبعاد. اضافة اعلان


أستعيدني يا أبت طفلاً تحمله على كتفيك عندما ينال منه تعب الطريق، فتمشي به أرض الوعر، وحين تسأله: هل تعبت؟!، كنتُ أهز رأسي نافياً بخبث عجيب. فكيف سيتعبُ الراكب يأ أبت؟، كيف سيتعب من تداعب ركبتيه بكل هذا الحنان، وكيف يمل من (تزغون) له بكل هذه الأغاريد.

وسأستعيدني يوم جئتك حاملاً شتلة توت، أرضتني بها خياطة ثوب روضتي الأولى، بعد أن صفعت يدي؛ لأني كسرت ورودها، حين لعبت مع فراشة عابرة. يومها أخذت الفسيلة مني، وحفرت شقاً صغيراً في الصخرة، عند عتبة دارنا وزرعتها. وأمي تقول: يا رجل كيف ستعيش هذه النبتة الضعيفة في هذا الصخر العنيد؟؟. لكننا كبرنا معاً يا أبي: رمحاً لرمح. أنا والتوتة. وتطاولت فينا أحلام الحرير، رغم أنف الجدران.

وهل أنسى سفري للدراسة في بغداد، كان ذلك عناداً من عند نفسي، والحرب كانت تتحمحم في أفواه المدافع والجيوش تحتشد هناك. كنت تريديني صلباً جامداً، رجلاً كما ربيتني، وكيف أنني في لحظة الوداع بحثت في عينيك عن فكرة لدمعة، فما وجدتها، وقلت في نفسي والدمع يغالبني: يالا قسوة الآباء!. بعدها بأعوام أخبرتني أمي أنها للمرة الأولى في حياتها تشاهد غزارة عينيه، لحظة غابت الحافلة التي أخذتني.

وفي مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات عجاف كنتَ تصارع مرضاً خبيثا باغتنا وباغتك. وكنت أتلمس الأمل في أنفاسك ونظراتك وكلماتك. وكنت تريدنا ملاحقاً لأحلامي التي علي أن أجنيها من الصخر وسماء الجدران.

وكنا نستبق أينا يحظى بالمبيت جوارك في المشفى. أتذكر حين أطعمتك بيدي فقلت: هذه اللقمة ليست لي؟ لكني لم آخذ كلامك محمل الجد. وخطفك الموت في ذلك المساء الحزين.

لأجلك اليوم، أيها الأب الجد، ولأجل الأبوة في الأرض والحياة والناس، لأجل من انحنت قاماتهم، تحت ثقلنا، وثقل مطالبنا، وفي راعة أحلامنا، لأجل تعبهم النبيل، سلام عليك يا أبي في العالمين، وسلام عليهم. سلام على عنائك وصبرك وتعبك، وسلام على التراب الذي سففته؛ لننعم بلين العيش وكرامة الحياة. وسلام على التراب الذي يحتويك.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة