السبت 2024-12-14 05:20 ص
 

اعمال محمد الجالوس الجديدة: نعومة الخشونة وتماهيات الابيض

04:45 م

الوكيل - مغامرة التجريب التقني والموضوعي تدفع الفنان لاكتشاف عوالم مختلفة تتغير ضمن معطيات التحول المعرفي في كل مرحلة. وبالتراكم المعرفي لثلاثة عقود من الزمن استطاع محمد الجالوس ان يقدم تجارب متلاحقة بتقنيات واساليب متنوعة، تمتد ضمن سلسلة من المواضيع التي تتسم بخليط من التجريد والتشخيص والواقعيات (الاعمال المائية). اضافة اعلان

وهذا المزج المرحلي بين الاساليب والمواضيع المتخيلة دوما يحيلنا الى فنان متمكن من ادواته، ممتلك للخبرة التي تتطور في كل مرحلة عمل عليها وفي التعامل مع المواضيع المعقدة، عبر الانتقالات المدروسة، في كل مرحلة.
اعتمد الفنان محمد الجالوس على نفسه فنجده ممارسا للكتابة القصصية والنقدية في البدايات مما اكسبه ثقافة شاملة استطاع ان ينفذ من خلالها الى عالم الثقافة المتنوع. شاهدت في مرسمه مئات الكتب الفنية والادبية المتنوعة قديمها وجديدها، وهذا يدل على المتابعة مما يجعله في وسط المشهد الثقافي، الى جانب عيشه في الولايات المتحدة الامريكية وزيارته للمتاحف والغاليريهات واحتكاكه بالفنانين من مشارب مختلفة شكل لديه خبرة عملية ومعرفية انعكست في تجربته المتفردة في سياقاتها المختلفة.
يعود الجالوس من عمله الاداري الى مرسمه باشتياق ليمارس عمله الحقيقي في مرسمه. يسود الهدوء إلا من صوت الموسيقى في هذه الساعات التي يسرقها لينجز اعماله، ينهمك ويتوحد مع اللوحة التي ليس لها نهاية، يخلص لعملها ويتحاور معها الى ان يذيلها بتوقيعه، لتبدأ مرحلة اخرى على سطح قماش اخر.
التجريد والتشخيص (المموه )
وما نحن بصدده اليوم هو تجربة الفنان محمد الجالوس الاخيرة، التي اعقبت تجاربه السابقة، وفي هذه التجربة نجد مزاجا مختلفا واستقرارية – تطويعية ـ للعجينة اللونية وتأثيرها على السطوح، يعتمل فيها (التجريد/ التشخيص) وهذه القدرة في تقديم اللوحة بهذا التماهي والتداخل اللوني والشكلي والتمكن العام في السيطرة على ابعاد اللوحة من خلال الكتل اللونية والفراغات المدروسة في كل اجزاء اللوحة. تتوزع هذه التجربة بأحجامها المتوسطة والكبيرة على موضوع محوري تعتمل فيه (نعومة الخشونة/ وتماهي اللون الابيض)، يأتي التشخيص مجردا بـ(انزياحات) تجريدية، فالهدف هو العجينة اللونية التي يعتمل فيها الملمس (البارز/الغائر) وما لا نهاية من التوشيحات اللونية من الاحمر المشع والبرتقالي في ارضية بنية محروقة تتجاور مع الابيض الناصع ممتلئة بالنتوءات وتقسيمات تتخذ اشكال مربعات صغيرة، تشكل الاساس التصميمي (التكوين) للعمل الفني، ويتم دمجها وعزلها في اماكن محددة ومدروسة واحيانا تتلاشى المربعات ويستعاض عنها باللون او الملمس.
الهدم والبناء
الفنان لا يرسم ما يراه، وانما يرسم ما يفهمه. عندما كنت في مرسم الجالوس كانت تدور بيننا حوارات مختلفة، وفجأة ينهض الى اللوحة ويصيح وجدت الحل، ويكون الحل هو بهدم اجزاء في اللوحة وبناء شكل جديد. وعلى مدى ايام تتغير هذه اللوحات عبر سلسلة من الاضافات والحذف والهدم. واعتقد ان لدى الجالوس طاقة كبيرة لا تكتمل فيها اللوحة، فهي تخضع لسلسلة من التقنيات ابتداء من تأسيس القماش وما يليه من التحضيرات للسطح وصولا الى التكوين.
لقد اختار الجالوس ان يكون التجريد طريقه الى التعبير، ومن خلال تجربته ادخل الشكل والوجوه وكل شيء في عمله معتمدا على مرجعيات مختزلة في الذاكرة، فعندما يرسم تتحول البقع اللونية الى ذكريات وتبدأ عملية تسلسلية من الحذف والاضافة كمن يتذكر حكاية وينسى اجزاء منها ويعيد صياغتها من جديد.
لقد تعامل الجالوس باخلاص مع فنه، متنقلا من تجربة الى اخرى وتحدوه فرحة الانتصار بتحقيق تصوراته ورؤاه. وما نجده في تجربته الاخيرة محصلة مدروسة لتحولات اكثر عمقا وادهاشا، واستقرارا مريحا. اصبحت اللوحة كتلة ينتزع منها الاشكال ويضيف اليها الالوان بحرفية واضحة. في هذه المرحلة تخلص الجالوس من اشياء كثيرة، فالاشكال العفوية للبشر التي يكتشفها المشاهد بصعوبة تحضر احيانا بوضوح وبحجم كامل، وتظل التفاصيل بشكل عام مجردة وتحمل احالات مكانية تتراءى في مخيلة الفنان.
نجد في اعمال الجالوس الاخيرة استكمالا لمرحلة سابقة كانت حاضرة من خلال (الكولاج)، واعتقد ان الامر قد حسم في هذه المرحلة، فقد تخلى عن لصق الاشياء الى ايجاد صيغة اخرى في التعبير والى نضوج معرفي بالتعامل مع اللوحة واخراجها باشتقاقاتها التقنية المركبة يمتزج فيها(الخبرة/التقنية/الذكريات). بهذه الثلاثية يقدم الجالوس مشروعه الهام في هذه السلسلة من اللوحات التي تشكل اضافة للفن الاردني والفن العربي، فاللوحة التجريدية التقليدية تنحسر وذلك للتشابه الممل للوحات التجريديين الذين ظلوا محبوسين في (المانورزم) التكرارية، واعادة انتاج ماهو موجود، بينما الفنان محمد الجالوس تحرر من التكرارية الى الابتكار، واضاف روحا جديدة مستفيدا من تجربته ومعارفه، واضاف تقنيات ومواضيع جديدة قدمها بقالب احترافي من خلال (المتخيل والذكرى). فنجد التحوير الذي حصل للمربع في مراحله السابقة التي كانت تسكنها الوجوه، وهذه مرحلة هامة ايضا تقنيا وموضوعا، اصبح المربع لا يقسم اللوحة بل يعيد تماسكها واتساقها ونجده يختفي تماما في بعض اللوحات، اما اللون الابيض فله الهيمنة في التكوين ولكنه يأتي في مكانه دائما.
استطاع الجالوس في تجربته الاخيرة ان يفلت من تقليدية اللوحة التجريدية وقدم انموذجا اخر يتمتع بطاقة تعبيرية لونية وشكلية وبتفريغ محكم للكتل تجاوزت المألوف لتضعنا في سياقات تحمل استباقية في ايجاد حلول لأزمة المتشابه في الفن. يستعرض الفنان محمد الجالوس تجربته في اكثر من ثلاثين عملا فنيا بتفرد خاص وبمرجعية استباقية لما سيؤول اليه في هذه المرحلة التي يتخللها الابتكار المعرفي، وشغف التلوين بتماهي الابيض، بين خشونة ونعومة السطوح.
سيطرة الكتل اللونية وتماهي المربع
عندما اتحدث عن المربع في تجربة الجالوس فانا اتحدث عن امتداد تجربة كان المربع فيها اساسيا ويحتل الصدارة ، فالوجوه والاشكال المحصورة داخل المربعات – الى جانب اختياره لمقاسات اللوحات- تتسق مضمونا وتقنياً في تجاربه كلها.
اصبح المربع في تجربة الجالوس الاخيرة لونا مكملا للعمل بل متماهيا بجانب السيطرة القصوى للكتل اللونية، ففي هذه العملية (الاستبدالية) نجح الفنان في التحكم التام بتقسيم اللوحة تكوينيا وتقنيا مع احتفاظه بما يسمى الاستدلال البصري، وذلك من خلال الوشائج المرتبطة بالوجدان الذي يجعل التجربة تمتد دون انقطاع عن الماضي القريب الذي شكل تجربة الفنان، فهذه التجاوزات المرحلية أتت مكملة لهذه التجربة الهامة التي تخللها البحث والاتساق المعرفي لما ستؤول اليه هذه التجربة.
في هذه التجربة نجد اختزالا لونيا (كتل خشنة / شفافية عالية / نقاط مضيئة)، يأتي اللون الاحمر من خلال بقع موزونة وفي مساحات وفي مكان محدد ليصبح محور اللوحة. بهذه المكونات اصبح المربع ارضية متماهية في العمل الفني ولا يشكل اي تحديد او انحصار للكتل كما في التجارب السابقة.
انعكاس المحيط لتشكيل الأثر
يقول كاندنسكي (الرسم ضرورة باطنية تنمو على مهل ثم يقوم العقل بعملية الولادة دون أن يظهر أثر ذلك العقل المخطط في العمل الفني). لساعات طويلة يمارس الجالوس في مرسمه متعة الرسم والاستحواذ على اشكاله التي تتغير وتتبدل بينما تصدح الموسيقى المستمرة التي تعطي الفنان طاقة ايجابية اضافية.
في احدى زياراتي لمرسم الفنان كانت سيمفونية الفصول الاربعة لفيفالدي تتناغم مع اعمال الفنان. واجد الفنان يلون ويحذف ويضيف بهرمونية ايقاعية وهنا تذكرت كاندنسكي الذي طرح نظرياته حول التجريد وعلاقته بالموسيقى، وتأكيد كاندنسكي على ان الموسيقى فعل تجريدي يستدر الحواس ويفتح افاق الروح. وبين استماعي الى الموسيقى وملاحظتي للفنان الجالوس وهو يتمتم وجدتها، واذا به يضع اللوحة ارضا ويحذف اجزاء كبيرة ويرتاح قليلا وعلامات القلق والتحفز للانقضاض على اللوحة مرة ثانية واستخراج اشكال جديدة. المهم ان الفنان يندمج مع العمل الفني بهذه الصورة، نتيجة طاقة ايجابية تولدت من الاندماج الكلي بالمحيط العام المؤثر على العملية الابداعية وخروج العمل كـ (اثر ) لهذه التمازجات الانفعالية وتسخير الطاقة المتولدة لاكمال العمل الفني الذي يشكل الحالة الانفعالية لتجسد فكرة ما.
طالما ان الفنان قد اختار التجريد وسيلة للتعبير، فعليه ان يتوحد معه من خلال البحث عن الوسائط التي ينتج به عمله معتمدا على التقنيات والخبرة المتراكمة، ومغامرة التجريب التي تشكل الطفرات النوعية للفنان.
تكوينات
في تجربة الفنان محمد الجالوس الاخيرة بحث مستفيض شكلا ومضمونا، حيث نجد ان التكوينات تختلف من لوحة الى اخرى الى جانب احجام اللوحات ومقاساتها المدروسة مسبقا واختيار القماش ذي الملمس الخشن. كل هذه المفردات المحضرة سابقا تؤكد على ان الفنان قد اختار لتجربته ادواته ولم يبق غير التنفيذ. عند التأمل في تكوينات الجالوس نحس بقدرة الفنان على التصميم الشكلي والتقني لكل لوحة، فتوزيع الكتل وترك المساحات التي تتنفس من خلالها الكتل اللونية مع توزيع لبعض المساحات تتسم بالشفافية العالية برغم خشونة السطح.
يعتبر التكوين هو العملية الفاصلة في اللوحة، هو هذا الكم الهائل من الاحساس بالتوازن في العمل الفني وهذه الاحاسيس والمشاعر لا تدرس في اي اكاديمية في العالم ولكنها تولد مع الفنان ومن خلال الخبرة يوصلها الفنان الى درجة عالية من الاحساس بهذا التوازن. هذا ما نجده في اعمال الجالوس التي تتسم كل لوحة بتصميمها الخاص دون تكرارية للشكل برغم الاتساقية العامة للمرحلة كاملة فمجموعة هذه السلسلة الاخيرة تتسق بفكرتها وتختلف فيها التكوينات الانشائية من لوحة الى اخرى.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة