الوكيل - أنتوني تابيس، الذي يعرض الآن غاليري تيموثي تايلر مجموعة من أعماله، هو واحد من أهم الرسامين الإسبان التجريديين بعد الحرب العالمية الثانية. وهو أيضا، أو بشكل أدق أعماله، نتاج الحرب الأهلية الإسبانية، التي انطلقت حين كان في المدرسة الابتدائية. في هذه الفترة المبكرة، علم تابيس نفسه التخطيط والرسم، ثم صقل موهبته حين حصل على منحة دراسية حكومية إلى فرنسا التي استقر فيها لسنوات، متأثرا بأجوائها وفنانيها، ومنها أيضا انطلقت شهرته بفضل الناقد الفرنسي مايكل تابي، الذي كتب عن تميزه عن أقرانه في تلك الفترة المبكرة. واختار غاليري تيموثي تاير أحد عشر عملا لتابيس، أنتجت بين 1992 و2009 (توفي تابيس العام الماضي عن 88 عاما).
ولعل الملاحظة الأولى التي يخرج بها المرء من مشاهدة النماذج المعروضة، كما في معظم أعمال تابيس، هي تلك الصور التي تمنحنا فورا إحساسا باللامتناهي.. صور لا تعرف ماذا تعني بالضبط، ولكنها تمنحك احتمالات كثيرة، مغيرة بذلك منظورك وإدراكك للواقع.
في معظم لوحات تابيس لا يوجد موضوع أو فكرة محددة يمكن أن تشكل بؤرة للعمل، وإنما هناك عدة مواد أو كتل تبدو منثورة كيفما اتفق أو حتى متناقضة بعضها مع بعض، كما تبدو للوهلة الأولى. لكن سرعان ما ينحسر هذا التناقض، فلا تعود تحس سوى بالكل الذي ذابت فيه الأجزاء. إنه غالبا ما يحقق تلك المعادلة التي تميز الأعمال المجيدة: صراع المتناقضات الذي يرتفع داخل العمل الإبداعي وبه إلى درجة الانسجام ثم التسامي.
هذا التوجه الفني والفكري أيضا هو ما أنقذ تابيس، الذي كان منذ طفولته محكوما بصراع المتناقضات؛ فقد ولد لأب علماني ذي اتجاه يساري أرغمه على دراسة الحقوق مثله، وليس الفن كما يريد الابن، وأم يمينية متعصبة لمذهبها الكاثوليكي، كانت تصر على تعليمه تعليما دينيا. ولم يكن أمام تابيس سوى الارتفاع على هذه التناقضات إلى مستوى التجريد، الذي يذوب فيه كل شيء. وقد اطلع في هذا الفترة على أعمال فان غوخ وبيكاسو، وقرأ فيودور دوستويفسكي، وأبسن، وشوبنهاور، ونيتشه، وكذلك البوذي الياباني أوكاكورا كاكوزو.
في لوحتيه المعروضتين عن المرأة، وهما بالزيت والرمل على القماش، لا نرى وجه المرأة. إنه هناك وراء الإطار.. في أفق بعيد لا نراه، ولكنه غياب أقوى من الحضور. غياب تضج به اللوحة، ويوحي به بقوة الجسد، هناك جسد فقط شبه مشوه، لكنه يجاهد بصعوبة للارتفاع إلى أعلى، كأنه يبحث عن الرأس المفقود الذي يمنحه هويته وشخصيته، أو كأنه يجاهد بلا جدوى للارتفاع من مستوى المحسوس، حيث التشوه الأرضي، إلى مستوى سام حيث يتوحد الجزآن، الرأس والجسد، في كل واحد. وحتى يحين ذلك، يخيم صمت رهيب على اللوحة، بانتظار حدوث شيء، أو انبثاق شيء من الفراغ الذي يملأ اللوحة، وأنفسنا وكوننا أيضا.
يقول تابيس عن هذا الصمت ونقيضه في لوحاته في مقابلة معه: «حاولت في إحدى المرات أن أصل إلى الصمت.. لكن كل تلك الخدوش تحولت إلى ملايين من الحبيبات، حبيبات من غبار أو رمل.. منظر جديد كلية تفتح أمامي وكأنني أتواصل مع الدواخل السرية للأشياء.. لكني اكتشفت بعد سنوات أنه ليس هناك أمامي سوى جدران». وعلى هذه الجدران نقشت معاناة أبناء جيله، الذين عانوا أهوال وعواقب الحرب العالمية الأولى، والحرب الأهلية الإسبانية، ومجازر الفاشية والنازية. إنه، كما يقول، لا يبصر سوى هذه الجدران حوله، ولا يرى غير هذه الجدران في بلده.
ولكنها ليست جدرانا صلدة. فهناك فتحات تتخلل جدران لوحاته، وكأنها منافذ تتنفس منها اللوحة، أو كأنها ثقوب يستطيع أن يتسلل عبرها المشاهد إلى ما بعد اللوحة.. إلى الفضاء المفتوح. لا نجد ذلك في لوحاته فقط، وإنما في ملصقاته أيضا (صحف قديمة، نفايات ورق، صناديق كارتون، جوارب، أكياس رمل..). ولعل هذا الأسلوب قاد إلى ما يسميه أحد النقاد بـ«اللوحة المفكرة»، رغم أن آخرين، ومنهم الناقد رونالد بنروز، اتهموه بإضفاء غموض متعمد على مادته.
لكن شهرة تابيس بدأت بالانحسار بعد صعود موجة «بوب آرت» في أميركا في نهاية الخمسينات ثم انتشارها في أوروبا، رغم أنه حاول مجاراة هذا التيار الجارف، مازجا بين بعض عناصره والسريالية. غير أنه لم يتوقف عن العمل حتى في سنوات عمره المتأخرة. وكان آخر معرض كبير له عام 2000 في غاليري «توني تابيس» الذي يملكه ابنه في برشلونة، كما نظمت المؤسسة التي تحمل اسمه، والمكرسة لدراسة الفن الحديث، معرضا استعاديا غطى عشرين عاما من حياة هذا الفنان، الذي قال مرة: «لم أستطع أن أغير العالم، فقد أردت على الأقل أن أغير الطريقة التي ينظر بها الناس لهذا العالم». ولعله نجح في ذلك.
ولد أنتوني تابيس في برشلونة الإسبانية عام 1923.. تعرض وهو في السابعة عشرة من عمره إلى ذبحة صدرية كادت تودي بحياته نتيجة إصابته بمرض السل. قضى بعد ذلك سنتين في مصح جبلي، وهناك نمت ميوله الفنية، وكذلك حبه للقراءة. بعد دراسة القانون ثلاث سنوات، حسب رغبة والده، تفرغ للفن، ثم حصل على منحة من الحكومة الفرنسية لدراسة الفن في باريس، التي قضى فيها عدة سنوات، وكان يعود إليها دائما حين استقر في برشلونة، التي فارق الحياة فيها في شهر فبراير (شباط)، السنة الماضية.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو