السبت 2024-12-14 03:15 ص
 

‘ذاكرة’ معرض جديد للفنان محمد الجالوس في عمان: أن ترسم ما لا ترى!

10:20 ص

الوكيل - لوحات تحمل إضاءتها معها، وبها، هذا الانطباع الأول الذي شعرت به لحظة تجوالي بين أنحاء لوحات ‘ذاكرة’ الفنان محمد الجالوس، بأحجامها ‘الجدارية’ نوعا ما، وبألوانها المبهجة، مبتعدا عن المساحات المحددة ضمن مربعات أشتهر بها في معارضه في السنوات الأخيرة، ومتخليا عن ‘الوجوه’ التي أسكنها مربعاته لسنوات مضت.اضافة اعلان

ما استطعت إليه سبيلا من ذاكرتي
المعرض الذي شهدته العاصمة الأردنية في (غاليري بنك القاهرة عمان)، ضم مجموعة جديدة من أعماله الفنية التي انجزت على مدار ثلاث سنوات، بين عامي 2011 و2013، ورغم انني سبق وان شاهدت بعض اعمال المعرض في مرسم الفنان الخاص، إلا أن الدهشة رافقتني في معرضه، الذي يشكل بحسب الجالوس: ‘رحلة البحث عن الخاص وعبر ما يزيد على ثلاثين عاما في الرسم، أجدني اليوم قلقا كما لو أنني أقدم معرضي الأول، الذي يفصلني عنه، كل هذه السنوات وما صاحبها في تجريب مستمر، عرض وسفر في بقاع الأرض من شرقها إلى غربها، باحثا عني وعن لوحتي التي لم توصلني يوما إلى حدود اليقين، ذلك ان هذه الرحلة الخشنة المفرحة، هي كل ما عشت به وله، مرورا بمراحل مختلفة أحيانا كنت انقلب على بعضها، في سبيل الرضا، هذا الإحساس الذي اسعفني قليلا جدا وبقيت ابحث عنه.
أقدم اليوم وبعد ثلاث سنوات من العمل في مرسمي، لوحة، بحثت فيها عن الضوء، وما استطعت إليه سبيلا من ذاكرتي، تلك التي أدين لها بكل ما قدمت من عمل فني’.
‘ذاكرة’ الجالوس في كتاب
كما شهد حفل الافتتاح إشهار مجلد يضم أعمال الجالوس المعروضة بعنوان ‘ذاكرة.. الفنان محمد الجالوس′ قامت بطباعته ونشره دار الاديب العالمية للنشر، ويضم الكتاب 144 صفحة من القطع الكبير، وهو الثاني للفنان والصادر عن دار النشر نفسها، حيث اصدرت الدار كتابا مجلدا بعنوان ‘ثلاثون عاما في الرسم للفنان الجالوس′ عام 2010′.
وقد جاء في معرض تقديم الكتاب الجديد (ذاكرة) كلمة للفنان والناقد اليمني حكيم العاقل’.
العاقل: محمد الجالوس نعومة الخشونة وتماهيات الابيض
يرى الفنان التشكيلي والناقد اليمني حكيم العاقل أن ‘مغامرة التجريب التقني والموضوعي تدفع الفنان لاكتشاف عوالم مختلفة تتغير ضمن معطيات التحول المعرفي في كل مرحلة وبالتراكم المعرفي لثلاثة عقود من الزمن استطاع محمد الجالوس ان يقدم تجارب متلاحقة بتقنيات واساليب متنوعة تمتد ضمن سلسلة من المواضيع التي تتسم بخليط من التجريد والتشخيص والواقعيات (الاعمال المائية) وهذا المزج المرحلي بين الاساليب والمواضيع المتخيلة دوما يحيلنا الى فنان متمكن من ادواته ممتلكا للخبرة التي تتطور في كل مرحلة عمل عليها وفي التعامل مع المواضيع المعقدة عبر الانتقالات المدروسة في كل مرحلة اعتمد الفنان محمد الجالوس على نفسه فنجده ممارسا للكتابة القصصية والنقدية في البدايات مما اكسبه ثقافة شاملة استطاع ان ينفذ من خلالها الى عالم الثقافة المتنوع. شاهدت في مرسمه مئات الكتب الفنية والادبية المتنوعة قديمها وجديدها وهذا يدل على المتابعة مما يجعله في وسط المشهد الثقافي، الى جانب عيشه في الولايات المتحدة الامريكية وزيارته للمتاحف والغاليريهات واحتكاكه بالفنانين من مشارب مختلفة شكل لديه خبرة عملية ومعرفية انعكست في تجربتة المتفردة في سياقاتها المختلفة’.
ونبه العاقل أن ‘الجالوس يعود من عمله الاداري إلى مرسمه باشتياق ليمارس عمله الحقيقي في مرسمه يسود الهدوء إلا من صوت الموسيقى في هذه الساعات التي يسرقها لينجز اعماله ينهمك ويتوحد مع اللوحة التي ليس لها نهاية،يخلص لعملها ويتحاور معها الى ان يذيلها بتوقيعه، لتبدأ مرحلة اخرى على سطح قماش اخر’.
التجريد والتشخيص (المموه(
وينوه العاقل أن ‘ما نحن بصدده اليوم هو تجربة الفنان محمد الجالوس الأخيرة التي استجرت تجاربه السابقة، وفي هذة التجربة نجد مزاجا مختلفا واستقرارية – تطويعية للعجينة اللونية وتأثيراها على السطوح يعتمل فيها (التجريد/ التشخيص) وهذه القدرة في تقديم اللوحة بهذا التماهي والتداخل اللوني والشكلي والتمكن العام في السيطرة على ابعاد اللوحة من خلال الكتل اللونية والفراغات المدروسه في كل اجزاء اللوحة تتوزع هذة التجربة بأحجامها المتوسطة والكبيرة على موضوع محوري يعتمل فيه (نعومة الخشونة/ وتماهي اللون الابيض) يأتي التشخيص مجردا بـ(انزياحات) تجريدية، فالهدف هو العجينة اللونية التي يعتمل فيها الملمس (البارز/ الغائر) وما لانهاية من التوشيحات اللونية من الاحمر المشع والبرتقالي في ارضية بنية محروقة تتجاور مع الابيض الناصع ممتلئة بنتوءات وتقسيمات تتخذ اشكال مربعات صغيرة تشكل الاساس التصميمي (التكوين) للعمل الفني ويتم دمجهم وعزلهم في اماكن محددة ومدروسة، واحيانا تتلاشى المربعات ويستعاض عنها باللون او الملمس′.
يرسم ما يفهمه لا ما يراه
ويلفت العاقل أن الفنان الجالوس ‘لا يرسم ما يراه وانما يرسم ما يفهمه’، مستدركا ‘عندما كنت في مرسم الجالوس كانت تدور بيننا حوارت مختلفة وفجأة ينهض الى اللوحة ويصيح وجدت الحل ويكون الحل هو بهدم أجزاء في اللوحة وبناء شكل جديد وعلى مدى ايام تتغير هذة اللوحات عبر سلسلة من الاضافات والحذف والهدم، واعتقد ان لدى الجالوس طاقة كبيرة لا تكتمل فيها اللوحة فهي تخضع لسلسلة من التقنيات ابتداء من تأسيس القماش وما يليه من التحضيرات للسطح وصولا الى التكوين.
ويلفت العاقل ‘اختار الجالوس ان يكون التجريد هو طريقة الى التعبير، ومن خلال تجربته ادخل الشكل والوجوه وكل شيء في عمله معتمدا على مرجعيات مختزلة في الذاكرة، فعندما يرسم تتحول البقع اللونية الى ذكريات وتبدأ عملية تسلسلية من الحذف والاضافة كمن يتذكر حكاية وينسى اجزاء منها ويعيد صياغتها من جديد.. تعامل الجالوس باخلاص مع فنه متنقلا من تجربة الى اخرى ويحذوه فرحة الانتصار بتحقيق تصوراته ورؤاه وما نجده في تجربته الاخيرة محصلة مدروسة لتحولات اكثر عمقا وادهاشا، واستقرارا مريحا، اصبحت اللوحة كتلة ينتزع منها الاشكال ويضيف اليها الالوان بحرفية واضحة ، في هذة المرحلة تخلص الجالوس من أشياء كثيرة، فالاشكال العفوية للبشر التي يكتشفها المشاهد بصعوبة تحضر احيانا بوضوح وبحجم كامل، وتظل التفاصيل بشكل عام مجردة وتحمل إحالات مكانية تتراءى في مخيلة الفنان’.
ويرى العاقل أننا ‘نجد في أعمال الجالوس الاخيرة استجرار لمرحلة سابقة كانت حاضرة من خلال (الكولاج) واعتقد ان الامر قد حسم في هذة المرحلة، فقد تخلى عن لصق الاشياء الى ايجاد صيغة اخرى في التعبير ونضوج معرفي في التعامل مع اللوحة واخراجها با اشتقاقاتها التقنية المركبة يمتزج فيها (الخبرة/ التقنية/ الذكريات) بهذة الثلاثية يقدم الجالوس مشروعه الهام في هذة السلسلة من اللوحات التي تشكل اضافة للفن الاردني والفن العربي، فاللوحة التجريدية التقليدية تنحسر، وذلك للتشابه الممل للوحات التجريديين الذين ظلوا محبوسين في (المانورزم) التكرارية، واعادة انتاج ما هو موجود، بينما الفنان محمد الجالوس نفذ من التكرارية الى الابتكار، واضافة روح جديدة مستفيدا من تجربتة ومعارفة واضافة تقنيات ومواضيع جديدة قدمها بقالب احترافي من خلال (المتخيل والذكرى) فنجد التحوير الذي حصل للمربع في المرحلة السابقة التي كانت تسكنها الوجوه، وهذة مرحلة هامة ايضا تقنيا وموضوعا، اصبح المربع لايقسم اللوحة بل يعيد تماسكها واتساقها ونجده يختفي تماما في بعض اللوحات، اما اللون الأبيض فله الهيمنة في التكوين ولكنه يأتي في مكانه دائما’.
استطاع الجالوس في تجربته الاخيرة ان يفلت من تقليدية اللوحة التجريدية وقدم انموذجا اخر يتمتع بطاقة تعبيرية لونية وشكلية وتفريغ محكم للكتل تجاوزت المألوف لتضعنا في سياقات تحمل استباقية في ايجاد حلول لأزمة المتشابه في الفن. يستعرض الفنان محمد الجالوس تجربته في اكثر من ثلاثين عملا فنيا بتفرد خاص وبمرجعية استباقية لما سيؤول اليه في هذة المرحلة التي يتخللها الابتكار المعرفي وشغف التلوين بتماهي الابيض بين خشونة ونعومة السطوح.
سيطرة الكتل وتماهي المربع
وعندما يتحدث الناقد العاقل عن المربع في تجربة الجالوس، فإنما يتحدث ‘عن امتداد تجربة كان المربع فيها اساسيا ويحتل الصدارة، فالوجوه والاشكال المحصورة داخل المربعات -إلى جانب اختياره لمقاسات اللوحات تتسق مضمونا وتقنياً في تجاربه كلها. إذ اصبح المربع في تجربة الجالوس الاخيرة لونا مكملا للعمل بل متماهيا بجانب السيطرة القصوى للكتل اللونية، ففي هذة العملية (الاستبدالية) نجح الفنان في التحكم التام بتقسيم اللوحة تكوينيا وتقنيا مع احتفاظه بما يسمى الاستدلال البصري وذلك من خلال الوشائج المرتبطة بالوجدان الذي يجعل التجربة تمتد دون اتقطاع عن الماضي القريب الذي شكل تجربة الفنان، فهذه التجاوزات المرحلية أتت مكملة لهذة التجربة الهامة التي تخللها البحث والاتساق المعرفي لما ستؤول اليه هذه التجربة. ففي هذه التجربة نجد اختزال لونيا (كتل خشنة / شفافية عالية / نقاط مضيئة) ياتي اللون الاحمر من خلال بقع موزونة وفي مساحات وفي مكان محدد ليصبح محور اللوحة،بهذة المكونات اصبح المربع ارضية متماهية في العمل الفني، ولا يشكل اي تحديد او انحسار للكتل كما في التجارب السابقة.
انعكاس المحيط لتشكيل الاثر
في احدى مرات زيارتي لمرسم الفنان كانت سيمفونية الفصول الاربعة لـ’فيفالدي’ تتناغم مع اعمال الفنان، واجد الفنان يلون ويحذف ويضيف بهرمونية ايقاعية، وهنا تذكرت كاندنسكي الذي طرح نظرياته التجريدية حول التجريد وعلاقتة بالموسيقى، وتأكيد كاندنسكي على ان الموسيقى فعل تجريدي يستدر الحواس ويفتح افاق الروح، وبين استماعي الى الموسيقى وملاحظتي للفنان الجالوس وهو يتمتم وجدتها واذا به يضع اللوحة ارضا ويحذف اجزاء كبيرة ويرتاح قليلا وعلامات القلق، والتحفز للانقضاض على اللوحة مرة ثانية واستخراج اشكال جديدة، المهم ان الفنان يندمج مع العمل الفني بهذة الصورة هو نتيجة طاقة ايجابية تولدت من الاندماج الكلي بالمحيط العام المؤثر على العملية الابداعية وخروج العمل كـ(أثر) لهذه التمازجات الانفعالية وتسخير الطاقة المتولدة لاكمال العمل الفني الذي يشكل الحالة الانفعالية لتجسد فكرة ما. يقول كاندنسكي (الرسم ضرورة باطنية تنمو على مهل ثم يقوم العقل بعملية الولادة دون أن يظهر أثر ذلك العقل المخطط في العمل الفني) لساعات طويلة يمارس الجالوس في مرسمه متعة الرسم والاستحواذ على اشكاله التي تتغير وتتبدل بينما تصدح الموسيقى المستمرة التي تعطي الفنان طاقة ايجابية اضافية. طالما ان الفنان قد اختار التجريد وسيلة للتعبير فعلية ان يتوحد معه من خلال البحث عن الوسائط التي ينتج به عمله معتمدا على التقنيات والخبرة المتراكمة، ومغامرة التجريب التي تشكل الطفرات النوعية للفنان.
شفافية عالية رغم خشونة السطح
ويخلص الناقد العاقل للقول: ‘في تجربة الفنان محمد الجالوس الاخيرة بحث مستفيض شكلا ومضمونا، حيث نجد ان التكوينات تختلف من لوحة الى اخرى الى جانب أحجام اللوحات ومقاساتها المدروسة مسبقا، واختيار القماش ذي الملمس الخشن، كل هذه المفردات، المحضرة سابقا، تؤكد على أن الفنان اختار لتجربته أدواته، ولم يبق غير التنفيذ، عند التأمل في تكوينات الجالوس نحس بقدرة الفنان على التصميم الشكلي والتقني لكل لوحة ، فتوزيع الكتل وترك المساحات التي تتنفس من خلالها الكتل اللونية مع توزيع لبعض المساحات تتسم بالشفافية العالية برغم خشونة السطح. ويعتبر التكوين هو العملية الفاصلة في اللوحة، هو هذا الكم الهائل من الاحساس بالتوازن في العمل الفني وهذه الأحاسيس والمشاعر لا تدرس في أي اكاديمية في العالم، ولكنها تولد مع الفنان ومن خلال الخبرة يوصلها الفنان إلى درجة عالية من الإحساس بهذا التوازن، وهذا ما نجده في أعمال الجالوس التي تتسم كل لوحة بتصميمها الخاص دون تكرارية للشكل برغم الاتساقية العامة للمرحة كاملة، فمجموعة هذة السلسلة الاخيرة تتسق بفكرتها وتختلف فيها التكوينات الإنشائية من لوحة لأخرى’.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة