السبت 2024-12-14 04:43 ص
 

رواية ‘ دير ورق’ لمحمد رفيع: الوثيقة التاريخية عندما تتحوَّل إلى رواية

02:14 م

الوكيل - هذه الرواية ـ والصادرة عن المؤسَسة العربية للدراسات والنشر عام 2005، والواقعة في 229 صفحة من الحجم المتوسط روايةٌ هامةٌ من حيث موضوعها، ومن حيث تقنياتها الروائية العالية، ومن حيث لغتها وصورها الملحمية والشِّعرية، ومن حيث اتكاءاتها التاريخية الوثائقية وانزياحاتها التاريخية كذلك عن الوثائق التي شكَّلتْ الجسم الرئيسي للرواية في هيكلها العام .اضافة اعلان

قبل الخوض في تفاصيل الرواية وشخوصها وتاريخية هذه الشخوص، يجب الاعتراف أن محمد رفيع سلَط الضوء في هذه الرواية على ملَّفٍ ما زال حتى هذه اللحظة يُعامل بحذرٍ وتهيُّبٍ شديدين، وأنه استطاع أن يمزج الوثيقة التاريخية التي استند إليها في إطارٍ روائيٍّ وملحميٍّ ذي سويَّةٍ فنيَّةٍ عاليةٍ، وأنه قال كثيراً من الحاضر وتحدِّياته، وكثيراً من النقد التاريخي والتحليلي من خلال شخوص الرواية ومواقفهم، وهو كذلك رسم إطاراً إنسانياً للقيم النبيلة التي برزت في تكوين الشخصيات المحورية في هذه الرواية، وأعطت هذه الرواية صورةً عن الكنيسة العربية والعشائر المسيحية العربية وانتمائها لتاريخها الوطني الشرقي وعمق وعيها بالصراعات السياسية التي كانت تدور بين أقطاب القوَّى العالمية على أرضنا العربية وما زالت .
قسَّم المؤلف روايته إلى ثلاثةِ أقسام رئيسية وعتبةٍ قدَّم بها الراوي لروايته وجذورها وأسبابها، وليربط أيضاً التاريخ كإطارٍ لهذه الرواية بالحاضر : القسم الأول ويمثِّل حياة دير ورق وجغرافيتها وشخصياتها والتحديات التي عاشتها، طقوسها وأحزانها وأفراحها وأغانيها وأنواؤها وخصبها وقحطها، عشقها ومرؤتها وشجاعتها، كذلك أطلَّت الرواية في هذا القسم على فترة الصراع بين البدو والفلاحين في شرق الأردن في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من خلال تحالفات المراشدة العشائرية مع العشائر البدوية المتاخمة لهم وصراعهم معها، وصراعهم كذلك مع قهر وبطش الدولة العثمانية.
أما القسم الثاني فكان تاريخ الشتات للمراشدة في الحصن وعنجرة والسلط وبروز تناقضات وصراعات الطوائف المسيحية بعد قدوم المبشرين الأجانب إلى هذه البلدات، وفي هذا القسم برز التحوُّل والأسطرة لشخصية ‘ عقلة السعادة ‘، حيث اختفى الحضور المادي لعقلة السعادة وظهر الحضور الرمزي والأسطوري .
في القسم الثالث والأخير والذي برزت فيه الرسائل السياسية والتاريخية والرؤيوية للراوي من خلال الحوار مع شخصية ‘عقيل السلامة’ المثقف الذي خسرته بلاده وذهب للغرب إلى غير رجعة، وفي هذا القسم يبرز دور القناصل الغربيين وتدخلهم السافر في شؤون الدولة العثمانية من خلال البعثات والإرساليات الأجنبية في المدن والبلدات الشامية .
سأقرأ هذه الرواية في ثلاثة محاور هي: تقنيات الرواية وأدواتها الفنية، والوثيقة التاريخية التي استندت إليها الرواية وكيف تمَّ توظيفها، والرؤية التي حملتها الرواية حول الإرساليات اللاتينية التي انتشرت في المشرق العربي بعد إعادة إحياء الكنيسة الأورشليمية اللاتينية عام 1847 .
أوَّلاً: ارتكزت الرواية في تكوينها السردي والحكائي على رواية الراوي العليم الذي كان يبحث عن تاريخ الأماكن وأسماء الأحواض والوديان والأحراش في بلدته عنجرة، وهذا البحث قاده إلى البحث عن الجذور، الذي قاده أيضاً إلى الوثائق التي تتحدث عن تاريخ العشائر والطوائف المسيحية في شرق الأردن في الفترة بين منتصف القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين .
لغة هذه الرواية لغة فنية متقنةٌ وعاليةٌ ورشيقةٌ ومشرقةٌ بدون تكلُّف، وممزوجةٌ بحرفية عالية بلغة شعبية وأمثالٍ وفلكلورٍ شعبيٍ شكَّل جزءً عضوياً من بناء الحكاية والسرد ولم يكن مقحماً تجميلياً عليه .
الشخصيات في الرواية حارَّة ونابضة بالحياة، كان ذلك جليَّاً في حوارات الشخصيات ومواقفها وسلوكها والوصف العالي لصفات الشخصيات الجسدية والتكوينية الذي أضاف حياةً حقيقية على هذه الشخصيات .
انقسمت شخصيات الرواية إلى ثلاثةِ أنماطٍ من الشخصيات: أولاها الشخصيات التاريخية الحقيقية والتي تحمل أسمائها التي عاشت بها في الواقع التاريخي، كشخصيات عقلة السعادة وعقيل (الذي هو عقيل أبو الشعر) والراهب القتيل يوسف كاريللو والأب تيوبالدو نافوني والأب أدريانو سمتس، كذلك برز عدد من الشخصيات الروائية والتي يمكن إيجاد ملامح لها في الواقع التاريخي، كبعض شخصيات عشائر الحصن وعنجرة والسلط والتي اقتضاها تطور الأحداث بعد رحيل المراشدة وتشتُّتهم، من هذه الشخصيات برز الشيخ سلامة النويرات وبرهوم الشيحاني في الحصن، والخال طعمة والخال جريس وشتوة اليوسف في عنجرة .
ثاني هذه الأنماط كانت الشخصيات التي اقتضاها البناء الروائي والدرامي والتاريخي، ومثَل هذا الصنف من الشخصيات ضاحي السعادة والشيخ ابن عسيران والعيوف والعم توما ورشيدة التي بُنيت تغريبة دير ورق على مأساتها وخطفها واغتصابها،
أما ثالث الأنماط من الشخصيات فكان الشخصيَّة الملحمية في الرواية والتي أعطت للرواية ذلك البناء الملحمي العالي، ومثَّلها الجدَّة حنِّة، وشيخ المراشدة الشيخ مرشود، وعقلة السعادة في حضوره الأول قبل شتات المراشدة ورحيلهم الملحمي عن بلدتهم دير ورق وحريقها .
استند البناء الملحمي في بناء الشخصيات الملحمية عبر توظيف مواقف تاريخية مُفترَضة، ومواقف ورؤيوية ومفصلية في حياة المراشدة وبلدتهم دير ورق، فمشهد الجدَّة حنَّة ووصف حركاتها وكلامها عند قدوم أوَّل الأجانب لدير ورق ‘البارون سيمونس′ ونواحها وتمريغ نفسها بالتراب في حركاتٍ ملحميَّةٍ وتنبؤيَّةٍ حملت بعض رؤية الراوي للخراب القادم من وراء قدوم هؤلاءِ الأجانب والغرباء، كذلك كان مشهد موت الجدَّة حنِة واختراق السيف لجسدها وصراخها على باب دار الشيخ مرشود عندما وقعت الواقعة بدير ورق وتمَّ اختطاف واغتصاب خطيبة عقلة السعادة ‘رشيدة’، ومزجها العميق بين القدِّيس والولي عجام والشيخ مرشود بنواحها الهستيري: ‘عجام وينك يا عجام مرشود وينك يا مرشود’، كلُّ ذلك أعطى شخصيتها ذلك البعد الرؤيوي والملحمي وحملت جزءً هاماً من خطاب الراوي ورسائله .
الشخصية الملحمية الثانية كانت شخصية الشيخ مرشود الذي رأى الموت القادم والخراب القادم مع هؤلاء الأجانب والغرباء، والقادمين بدعوى التبشير الديني وفتح المدارس مع أنهم مرتبطون بدول الغرب الاستعماري ولقدومهم هدفٌ غامضٌ وبعيد، ولإضفاء البُعد الرمزي والرؤيوي لهذه الشخصية الملحمية فقد أعطاه الراوي القدرة على التمييز العميق بين البعد الإنساني لبعض هؤلاء الأجانب المرسلين وعدم تحميلهم جرائر الهدف الاستعماري البعيد للدول الغربية المهيمنة، أي بصورة أخرى التمييز بين الشرط الذاتي والقهر الموضوعي للتاريخ .
برزت شخصية الشيخ مرشود بوجهٍ ملحميٍّ قويٍّ وجمعيٍّ وصادقٍ منذ الأحداث الأولى للرواية، فمشهد نزول المطر بعد انقطاعٍ بدير ورق وخروجه ليمتزج بالطبيعة في لحظة تدفقها وعطائها، ومشهد التحامه بفرسه وجبال الدير عند خروج المراشدة الأخير من دير ورق بحيث كان صوته وصهيل فرسه وبكاء الريح فوق جبال دير ورق صوتاً واحداً، ثُمَّ كان خروجه بعد موت عقلة السعادة متوجهاً لدير ورق ليموت فيها في مشهدٍ ختاميٍّ للرواية، كلُّ ذلك أيضاً أعطى لشخصيَّة الشيخ مرشود ذلك البعد الملحمي والجمعي والأسطوري في الوقتِ ذاته.
في لغة الرواية شعريَةٌ عالية وتصويرٌ ملحميٌّ اقتضاه تكوين بعض الشخصيات الملحمية واقتضته كذلك رؤية الراوي البعيدة التي جعلت من الشخصيات الملحمية الكبيرة حاملةً لرؤاه الشعرية والإنسانية العميقة .
ثانياً : ارتكزت الرواية بهيكلها العام على رسالة خطَّها الخوري ‘سعيد سعد النمري’ حول الكنيسة اللاتينية والمرسلين الأجانب وأحوال الحصن الجغرافية والسكانية والعادات السائدة وحول الصراع الذي دشَّنه المرسلون الأجانب بين العشائر المسيحية وبين هذه العشائر وعشائر المسلمين في بلداتهم المختلفة، وإن كان كاتب هذه الوثيقة يأخذ موقفاً مؤيداً لهذه الإرساليات ويُحمِّل الطوائف الأخرى وخصوصاً الأرثوذكس مسؤولية اختلاق هذا الصراع .
هذه الوثيقة تتحدث عن تاريخ الإرسالية اللاتينية وآباء الكنيسة في الحصن، عن الأب نافوني مؤسس الإرسالية والأب سمتس والخوري القتيل يوسف كاريللو، عن عشائر الحصن المسيحية وعن مسلمي الحصن، وتتحدث أيضاً عن عنجرة وعجلون وأحوالهما، وتتحدث كذلك عن عقلة السعادة كأحد مطاريد الدولة العثمانية والمختبيء بأحراش عنجرة وعجلون دون أن تُبين أو تُوضِّح أي شيءٍ حول أصول وجذور عقلة السعادة، وعلى هذا الغموض الوثائقي بنى محمد رفيع روايته وعاد بالتاريخ للخلف ليعيد بناء وتشكيل شخصية عقلة الضاحي السعادة وأسطرتها .
السؤال الكبير الذي يبرز هنا: مدى تاريخية ـ بالإطار العام للتاريخ ـ العودة بالأحداث إلى دير ورق، وهل هناك جذرٌ تاريخيٌّ يسمح بالبحث عن جذور لهذه العائلات، وهذه الأحداث، وهذا الشَّتات، وهذه التغريبة الشاملة، وربطها تاريخياً بقرية دير ورق الواقعة على الحد بين السهل الحوراني والصحراء؟؟ .
ثالثاً : الجزء الثالث من الرواية والذي يتحدث عن شخصية عقيل ابن الشيخ سلامة شيخ النويرات والذي أرسله الأب سمتس خوري اللاتين في الحصن لنباهته وذكائه لدراسة اللاهوت في القدس ومن ثمَّ ذهابه لروما وباريس وعودته بأفكارٍ لم تُعجب الشيخ مرشود، وتهريبه عبر يافا إلى أوروبا لاتهامه من الدولة العثمانية بأنه جاسوسٌ للفرنسيين – في رحلةٍ لم يعد بعدها إلى بلاده ثانيةً.
في حوار الشيخ مرشود مع عقيل وفي حواراته الداخلية وربطه بين شخصية عقلة السعادة الذي مات غريباً وشهيداً، وقتل الراهب الايطالي يوسف كاريللو بوادي الطواحين بين عجلون وعنجرة، ورحيل عقيل السلامة المأساوي، كأنه كان يقول أن هؤلاء كانوا ضحايا الغرب وخططه للسيطرة على هذا الشرق البائس والحزين، وفي هذا أيضاً رسالةٌ وموقف ضد الإرساليات الأجنبية، وأنها لم تكن بريئةً ولم تكن ذاتَ أهدافٍ نبيلةٍ كما حاولت أن تبدو .
في مشهد زيارة القناصل الغربيين للحصن بعد مقتل الراهب يوسف كاريللو والحوار الداخلي الذي دار في داخل الشيخ سلامة النويرات شيخ طائفة اللاتين وتشكيكه بنوايا الإرساليات وأنها مرتبطة بقناصل وسياسات وليست دينيةً وخيريةً وتعليميةً كما ادَّعت وكما تحاول أن تبدو عليه، في هذا الحوار الداخلي لشيخ طائفة اللاتين في الحصن والمدافع الأكبر عن الإرسالية ورهبانها رسالةٌ عميقةٌ أخرى تدلُّ على عمق وعي هذه العشائر لما يُحاك لبلادها ولها وأن هؤلاء المرسلين الطيِّبين ما هم إلا أدوات بأيدي قوى عالميةٍ كبرى .
ولا بدَّ أيضاً من الحديث عن الجانب المنفعي المرحلي الذي حقَّقته هذه الإرساليات لطوائفها التي كانت مضطَهدةً ومستلبةَ الحقوق في الدولة العثمانية، والتي كانت في أواخر مراحل انحطاطها وتفسُّخها .
كان واضحاً منذ البدء في الرواية وعند قدوم بطريرك اللاتين الأورشليمي البطريرك فاليركا عام 1872 وموقف الشيخ مرشود من هذه الزيارة، وموقفه من مرسل اللاتين في السلط واشتباكه معه وهجومه عليه رفضاً لموقفه المتعصب والذي فتَّت الناس وزرع الفتنة بينهم .
هذه الرواية العالية في لغتها وبنائها، والعميقة في تناولها لقضيَّةٍ تاريخيَّةٍ هامَّةٍ، والقارئة لرؤيةٍ جديدةٍ لعلاقة الغرب المنتصر مع الشرق البائس والضعيف، والبسيط في تعامله مع حضارةٍ غربيةٍ ملتبسةٍ ومتحولةٍ ومتلونةٍ وقاهرةٍ وقادرة، هذا الشرق الذي يحترق الآن بنيران التعصُّب الديني، والذي يُعيد إنتاج هزائمه وانكساراته، وبعيد إنتاج عقلة السعادة بقهره وموته، ويعيد إنتاج عقيل أبو الشعر بغربته وموته بعيدا عن بلاده وبعيداً عن حلمه بتطوير وتقدُّم هذا الوطن البائس .


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة