الوكيل - حياتنا تصنعها الصدف, صدف تحوّل وجهتنا لنسلك طرقا لم نفكر بها فنكتشف هويتنا في تلك الطريق ونسكن لها ويتأصل كياننا داخلها. هذا الرأي ينهض أمامك وأنت تقلّب سيرة واحد من أهم مخرجي السينما العربية وهو داود عبد السيد، أو دون كيشوت السينما العربية.
لم يكن الإخراج يمثل بالنسبة له حلما، وكانت السينما أحد العوالم التي تناديه في بداية شبابه، بقدر ما كانت الصحافة غايته إلى أن كان لقاؤه مع ابن خالته الذي أهدى المشاهد العربي، دون أن يعلم، أحد عمالقة السينما.
يقول عبد السيد متحدثا عن هذا التحوّل 'أذكر، وكنا آنذاك في السادسة عشرة، أنه أخذني لأستوديو جلال القريب من سكننا بمصر الجديدة، حيث يصور فيلم لأحمد ضياء الدين، وما حدث يومها أنني انبهرت بالسينما بصورة مذهلة، لا بالنجوم أو الإخراج أو التكنولوجيا، بل بشيء آخر غامض حقا. قررت بعدها دخول معهد السينما.. هكذا كانت الصدفة، صدفة مؤسسة'.
تجربة صاحب 'أرض الأحلام' السينمائية بدأت بمساعد مخرج لبعض الأفلام، منها 'الأرض' ليوسف شاهين، و'الرجل الذي فقد ظله' لكمال الشيخ، و'أوهام الحب' لممدوح شكري، مهنة بدت له مرهقة وسرعان ما تركها، وكأن شيئا ما ينتفض في داخله بحثا عن هوية أخرى.
وبدأت مسيرته الإخراجية الفردية بأفلام وثائقية منها 'وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم' (1976) و'العمل في الحقل' (1979) و'عن الناس والأنبياء والفنانين' (1980)، قبل أن يغادر أيضا تجربة الوثائقي.
ولا ندري سببا لغياب عبد السيد إلى الآن عن الوثائقي، ونحن نستحضر رأيه 'التسجيلي يتيح لك حرية التجريب بدون خوف من الخسارة المادية مثلاً، وأن تعبر عن المضمون الذي لديك بصورة متحررة.. وحين تعبر فقد صار في إمكانك التجريب، ولو نجح التجريب فستكسب الثقة فيه وتجد القدرة على المزيد منه'.
إبداعات التسعينيات
عاد داود عبد السيد إلى عالم الأفلام الروائية عام 1984، لكن هذه المرة برؤيته الخاصة، فأخرج فيلمه الأول 'الصعاليك'، وهو من تأليفه، وبطولة محمود عبد العزيز ونور الشريف، ولكنها لم تكن عودة سهلة، فقد اضطر للتعاون مع فريق الفيلم لإنتاجه بعد أن حدثت مشاكل إنتاجية أخرت ظهوره.
ويعتبر هذا الفيلم حالة سينمائية نادرة ترصد حياة المهمشين من خلال الصديقين 'صلاح' و'مرسي'، حاول من خلالهما أن يغوص في أعماق المجتمع المصري بكل طبقاته، ويلامس قضاياه الدقيقة متترسا وراء جرأة كبيرة سيعرف بها بعد ذلك كإحدى سمات أفلامه. وقد تعرض هذا الفيلم إلى الانتقاد بسبب طابعه المتحرر والجريء.
ما برح عبد السيد أن غاب عن الشاشة الكبيرة لمدة ست سنوات، قبل أن يعود سنة 1990 بفيلم 'البحث عن سيد مرزوق' من بطولة نور الشريف وآثار الحكيم، ثم فيلم 'أرض الأحلام'.
وكانت سنة 1991 رائعته 'الكيت كات'، الفيلم الذي يعد أحد أهم ما أنتجته السينما المصرية عبر تاريخها الطويل، ثم أخرج فيلم 'أرض الأحلام' (1993) و'سارق الفرح' (1994) و'أرض الخوف' (1999) و'مواطن ومخبر وحرامي' (2001) و'رسائل البحر' (2010).
اختار عبد السيد أن يعود إلى الأدب، في وقت هجرت فيه السينما الرواية وابتعدت عن الاقتباس. لكنه اختار في 'الكيت كات' كاتبا منشقا هو إبراهيم أصلان ونصا منشقا عن مؤسسة الأدب التقليدية وهو 'مالك الحزين'، الذي يضرب ببنية الشكل الروائي التقليدي عرض الحائط، ويمضي بعيدا في التجريب وخلخلة الحبكة التقليدية للرواية، مما جعل هذه الرواية تفتح طريقا جديدة للرواية المصرية وحساسية جديدة في الكتابة العربية.
غير أن داود عبد السيد لا يلتزم بالنص ويقدم صورة مغايرة لمفهوم الاقتباس، فليس الاقتباس عنده رضوخا للنص الأدبي والتزاما حرفيا به، بل إن قوة الاقتباس في خروجه عن النص وإعادة كتابته وفق رؤية سينمائية حرة.
مقاومة اليأس
وخلافا لما وقع فيه بعض السينمائيين من لهاث وراء محاكاة النص الأدبي الذي ينتهي في النهاية إلى سماع العبارة الشهيرة 'الرواية أفضل من الفيلم'، تصرف المخرج في الرواية بكل حرية. فرفض زمنها القصير، الذي لا يتعدى ليلة واحدة، ومد فيه ليكون أكثر من يوم، كما أعاد كتابة علاقات الشخصيات، فأسقط عن بعض الشخوص ملامحها وحذف الكثير من الشخصيات، التي وردت في الرواية واستغنى عن الجانب السياسي فيها.
الفيلم قدم شخصية الشيخ الضرير حسني -محمود عبد العزيز- التي تعيش خارج أسيجة وضعها لها المجتمع والسلطة. شخصية منفلتة رافضة لقدرها، تعيد إنتاج نفسها، وتخلق أدواتها الخاصة للتحكم في العالم سبيلها في ذلك إنكار العجز ورفضه.
ولم يكن 'الكيت كات' هو الفيلم الوحيد الذي اقتبسه عبد السيد من الأدب، فقد كتب وأخرج فيلم 'سارق الفرح' عن رواية بنفس العنوان لخيري شلبي، دون أن ننسى أن أول فيلم عمل فيه كمساعد مخرج مع يوسف شاهين وهو 'الأرض'، كان مقتبسا عن رواية لعبد الرحمن الشرقاوي بنفس العنوان، وكذلك فيلم 'الرجل الذي فقد ظله' المقتبس عن قصة لفتحي غانم.
وتعتبر مقاومة العجز واليأس المقولة الأثيرة عند داود عبد السيد في مجمل أعماله، وقد سبق أن قال لي في حوار جمعني به 'الجميل في الإنسان امتلاكه لروح المغامرة ورغبته في التجدد'، وعن سر ابتعاده عن الأدب والاقتباس منه قال 'إن الرواية العربية غارقة في الحزن واليأس وهو يحتاج نصا ناطقا بالتحدي والأمل'.
ولعل هذا البحث عن النصوص الناطقة بالأمل، هو الذي جعله يبتعد عن الأدب أو يعيد كتابة النص، مركزا على الروح المرحة في الشخصية إذ يقول 'نادرا ما تجذبني رواية وتشدني إليها، وأتمنى أن أجد كل يوم رواية صالحة للتحويل. ومشكلة الأدب الحالي هو كونه أدبا مكتئبا يدفع لليأس لا للرغبة في الحياة'. فحتى وهو يعالج أعمق القضايا السياسية يبقى عبد السيد وفيا للفن، مؤكدا خياره برفض أدلجة الفن وتسييسه.
الجزيرة
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو