الوكيل - بعد أسرار القصيدة الصادر في بغداد انتظر القارئ سنوات ليقرأ الكتاب الثاني للشاعر حميد سعيد وهو عن ‘عن الشِّعر’ خاصة بعد كل ما حظِيَ به الكتاب الأول من ترحيب النقاد والقراء.
وما بين الكتابين تتأسس مسافاتٌ من إعادات التفكير وصوغ الأسئلة والمقاربات والتكسيرات في آفاق الانتظار وفي طرائق الكتابة ونسج والصوغ الشعري. أقول ‘مسافات’ دون أن أعني بذلك إقامة أيِّ تمييز بين الكتابين، فلكلِّ منهما خصوصيتها الكتابية ولكل منهما أيضاً أسئلتها المرهونة بقضاياها وزمن انكتابها. غير أن ذلك لا يعني كذلك القول بطبيعة جمالية وتخييلية قائمة بين الكتابين، بل إنّ الأمر يتعلق بما يمكن تسميته، هنا بالمغامرة في ارتياد كتابة إبداعية تحاور الإبداع الشعري من نوع مغاير. وبتعبير آخر فإنّ ‘عن الشعر’ جاء لا لتكرار تجربة ‘أسرار القصيدة’ – وهو تكرار قد يخدع مجموعة من النقاد فأوقعهم في دوّامته – بل هو كتاب يستعبد مجموعة من الأسئلة التي سبق لـِ أسرار القصيدة أن صاغتها إبداعياً وتأملاً (من قبيل التفكير في قضايا الشعر، وتنويع الأفكار، والتعدد اللغوي، وتعدد الأصوات، وإدراج الخطابات المتخيلة، وتمثيل صورة الآخر، والموت، واستعادة الأزمنة، وسؤال الكينونة، وتبادل الأدوار بين لحظتي الإضاءة والعتمة…).
ولكنه عمل على الانتقال بالكتابة نحو ركوب مغامرة والمراهنة على الكتابة الشعرية داخل فضاءات وعوالم الشاعر بامتياز، وعلى الكتابة عن قضايا ما زال ممتدة فينا وفي زمننا.
ويمكن تحديد أحد جوانب هذه الاستعادة انطلاقاً مما تفرضه دينامية النص الشعري عند حميد سعيد من أسئلة موازية وخاصة ما يتعلق منها بسؤال ‘هل أصبح الشعر فنّا بلا جمهور؟’ ص7 لما لهذا السؤال من أهمية وتأثير جمالي، سواء على المستوى النظري أو على مستوى الصوغ الشعري.
فإذا كانت أسرار القصيدة قد تفاعلت مع تجلية المكوّن الإبداعي كأحد أسئلة الكتابة، بشكل مكثف جعل مجموعة من النقاد يقرؤون ضرورته التوظيفية بموازاة مع المكوّن الإبداعي، فإن ‘عن الشعر’ لم يستطع هو أيضاً، الانفلات من أسر الاستعادة التوظيفية لهذا المكوّن الذي رمز له بالجمود، حيث اعتبر السؤال الأول، سؤالاً دينامياً ومستمراً، يفكر فيه الشاعر، من الداخل، ويساهم الإعلام في بلورة وتحديد أزمة السؤال. ومن بين العناصر أو القيمات الأساسية المجسِّدة أيضاً لجوانب الاستعادة والمغايرة، بين الكتابين، نشير تجليات ‘صورة الاتصال’ بكل ما تحملانه من بلاغة وإيحاءات ودلالات موازية يطمح من خلالها ‘عن الشعر’ إلى تفهم ووعي قضايا وأسئلة تلازمنا، كما يطمح من خلاله إلى التشبث بحق الذات في أن تقول تجربتها، ‘فالثقافة العامة وحدها في مجال تلقي الفنون عامة والشعر على وجه خاص، لا توفر الخبرة المشتركة، لذا نلتقي بأستاذ جامعي على قدر كبير من النباهة في اختصاصه، غير أنه لا يستطيع إكمال الاستماع إلى قصيدة شعرية لا توافق ذائقته الأولى التي لم يُغنها بالاطلاع على ما يخالف مقومات تلك الذائقة ص21′.
إلا أنه بالرغم من طبيعة المواقف الذي يسحبها كتاب ‘عن الشعر’ على ‘النقد’ بحيث يقوم إما بكشفه معرفياً أو يقوم بجعل دوره إشكالياً ملتبساً في قراءة النص الشعري، أو في الحياة عموماً.
‘وليس النقد أحكاماً ينطق بها الناقد، أو سلَّم درجات وظيفية، وما يناله المبدع من هذه الدرجات تصدر بقرارات عليا، كما توزع درجات الوظائف بين العاملين في المؤسسات الرسمية ص23′. وربما كان هذا الوعي حاسماً في انعتاق الشاعر من النقد، غير أن ذلك الانعتاق لا يتحقق إلا إذا ما طُرح السؤال التالي:
هل نحن نكتب بأقلامنا التي تحركها ضمائرنا…
والنقاد يكتبون بأدمغتهم التي تحركها رؤى ومصالح متشابكة؟!
يلتفت كتاب ‘عن الشعر’ في بناء مرجعيته إلى معرفة السؤال، جمالياً وتقنياً لتغذية سؤال العلاقة بين النص الشعري أو المؤثرات الخارجية لاستيفاح حافز اليوم بنظم الشعر وما يترتب عن ذلك من مشاعر تتراوح بين الاندفاع والاستيهام، وبين التأمل، والهدوء بالرجوع إلى ذاكرة السؤال وقدرته على التخيل والاندماج، ثم التواصل والإدراك في حضور الظل وسلطته على الذات والخطاب.
(إن المتغير الإبداعي ما كان ولن يكون مجرد رغبة فردية، بل هو تعبير عن متغير أكبر اجتماعي يقترن بتحول تاريخي، غير أن هذا المتغير يعبّر عنه على صعيد الإبداع بمواهب فردية وبأصوات متميزة ص67).
رغم أن بناء المكان في النص الشعري يقوم على أحداث كبرى، فإننا نطل على عناصر ثقافته تنبض بها خصوصية هذا المكان، والتي هي حصيلة تاريخ مزيج بالأحداث الواقعية والخيلات الشجية، التي تؤطر وعي الإنسان على امتداد فترات وعقود متباعدة. وهذا ما يفرض مساءلة هذا المكان في الحاضر وقدرته على ضمان الاستمرارية، وكيفية تعايش النص الشعري اللاحق مع هذا المكان، الذي يظهر فيه أن فضاء المكان يبقى هامشياً، إذا ما غيب عنه الإنسان، الذي بدونه يتحول المكان إلى آثار، وذكرى يتخلق منه النص على اعتبار أن هذا المكان، بهذه المواصفات، مكان استيعاب تجليات الشاعر، الذي يصر بدوره على تخيل منفرد، على تخيل جمعي، يكون هو رائده.
(حيث الحديث عن أثر المكان في النص الشعري، فليس القصد كتابة قصيدة وصفية عن المكان، وإنما كيف يظهر المكان في القصيدة وما أثر المكان على طريقة عمل الشاعر ومقدمات العمل الشعري رؤية وأداة؟ ص77).
ما تبين لي من خلال قراءتي لـ ‘عن الشعر’ أن حميد سعيد قد عثر على ‘كنز′ مازال يخرج محتوياته بتكتم وببطء وفق نمطية يمكن توصيفها كما يلي: إن فعل الكتابة الشعرية تنوع مستمر على الموضوعة نفسها. وأعني بذلك، المثلث التالي: الموضوع، النص، الرؤية.
إن هذا المثلث يكبح، كما هو ظاهر توقعات القارئ، ولا يسمح بتاتاً بتشييد عوالم تخييلية موازية، ومع ذلك يلزم القارئ أن يحسن فهم هذه اللعبة لأن النص يحث عليها على مستوى القضايا الكبرى للشعر.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو