الوكيل - من يقرأ بالمقلوب ديوان الشاعر حمزة قناوي ‘قصائد لها’..والصادر عن دار المحروسة للنشر (أقصد أن يبدأ بصفحته الأخيرة) يدرك أن هذه القصائد تبدو وكأنها نتاج تجربة واقعية ـ (عاشها وعايشها وتعايش معها الشاعر بنفسه أو تأثر بها بفعل مؤثر خارجي) ـ مثلما يدرك حجم الصدمة وكثافتها التي مُنِيَ بها ذلك العاشق الذي يلعب الشاعر هنا دوره باقتدار نتيجة لتجربة عاطفية لم يكتب لها سوى أن تفشل فشلاً ذريعاً.
يقول الشاعر في صفحته الأخيرة من ديوانه:
(اعتزل الشاعر الكتابة إثر انتهائه من كتابة هذا الديوان وأنهى رحلته مع الشعر).
تُرى ما الذي أدى بالبطل هنا أن يترك الراية وأن يعتزل الشعر سوى تجربة قاسية خاضها وخرج منها مهزوماً أيما هزيمة وانهزام؟
ولأن البطل هنا شاعر مرهف الحس فإن تأثير الصدمة وآثارها قد تركت في مخيلته حفرة عميقة وجرحاً ما زال ينزف مصحوباً بألم شديد.
ديدان الأرض
ولكي نقف على نتائج هذه الصدمة / التجربة العاطفية التي فشلت وأطلالها وما خلفته من أنقاض نقرأ معاً مقتطفات من كلمته الأولى النثرية والتي جعلها عتبة ومفتتحاً لهذا الديوان دون أن يترك للقارىء مساحة يمارس فيها خياله وتأويله الخاص لهذه القصائد:
(وحده الشاعر يقف على أطلال الخرائب.. ناصباً قامته مشرعة في وجه الريح.. تاركاً الزواحف تحت قدميه لديدان الأرض).
هنا ندرك عمق الجرح الذي تركته هذه التجربة في الروح..كما تبرز حالة الانكسار التي يحملها الشاعر فوق عنقه، غير أنه يحاول أن يبدو متماسكاً حتى يُظهر للطرف الآخر أنه لن يموت بتركها له، بل سيبقى منتصباً في وجه كل العواصف التي قد تفكر في المساس به.
إنها قصائد تمثل تجربةً مختلفة حتى إنها كتبت في ‘أيامٍ سوداء كان ملؤها العذاب والقهر ومشاهد الجحيم التي لن تبرح الذاكرة’.
وقبل أن أحاول تأويل هذه القصائد أرى أن الشاعر قد خانه التوفيق في تسمية الديوان (قصائد لها)..إذ بعد قراءة أولى لهذه القصائد نجد أنها قصائد (ضدها) إلا إذا كان الشاعر يرى أن هذه القصائد بما تحمله بين أسطرها الشعرية من هجاء ـ يصل إلى السُباب أحياناً ـ مكافأة لها على ما صنعته به وله.كما أسجل أنه على الرغم من تأثيرسطوة التجربة على الشاعر مما جعل نبرة الهجاء يرتفع مؤشرها في أغلبية هذه القصائد إلا إنها لم تفقد فنيتها ولم تتحول إلى قصائد تقريرية فجة كتبت فقط لتؤرخ لعلاقة مخفقةٍ ما.
روعة التصوير
يستهل الشاعر ديوانه هذا بقصيدة عنونها بـ (هي دمرته)..وإذا سلمنا بأن العنوان عتبة هامة للنص، فإننا نصل بسهولة إلى مُلخَّص شافٍ لهذه التجربة وللحالة الشعورية والنفسية التي يعيش الشاعر تفاصيلها ومفرداتها إبان هذه التجربة:
(هي دمرتهُ
قلبي الذي عبر الرياح لأجلها
وتقاذفتهُ
عبثت به…
……….
وفي إحدى زوايا صدرها اللاهي رمتهُ)
هنا نرى البطل المحوري في هذه القصائد (يخطو على أشلاءِ عِشقٍ مزَّقتهُ يدُ الجموحِ) لأن المحبوبة/ سابقاً أضحت اليوم (مفتتح الخطيئةِ والغوايةِ والفحيحِ. والشهوةِ العمياءَ في جَسدٍ تَزيَّنَ بالقُروحِ).إنها (لعنةٌ جثمت على قلبه وعلى عمره الذبيحِ) .هنا نطالع روعة التصوير الذي استخدمه الشاعر لينقل لنا ما يجول في مخيلته. ويواصل الشاعر رسم الصورة / اللوحة ليفضح أمامه أولاً هذه المحبوبة، كاشفاً الستار عن علاقة بين نقيضين، يمثل أحدهما الحياة وزهاء ربيعها، والآخر الموت وهِرم الشيخوخة:
(يا لي!
أعانقُ في الظلامِ خطيئةً
سُحِقت وشيئاً من رماد فتون
وألامس الجسد الذي قد عفته
هرِمٌ تصابى طاعنٌ مطعون!)
لكن ما الذي جعل هذا العاشق الشاب يقع وبيُسْر في شِباك هذي العجوز؟ لا ندري غير أن العاشق يعترف:
(هذا جحيمي صغته بيدي وما..
مِن مَهرَبٍ ..
والوقتُ بعضُ جنون)
أهو نوع من الجنون تَلبَّس الذات فأدى بها إلى هذا المآل..ولم تستطع منه فكاكا؟
(امرأةٌ كانت من بهتان
يتهشم في أعماق جوانحها عُمرٌ أترعهُ الحِقدُ
وأثمر فيه الخزي
وكلله الخذلان)
اللافت هنا أن هذه القصائد تحمل سمات وصفات سيئة للمحبوبة / سابقاً:
(تتمدد كل مساء عاريةً كي تُوطأَ مِن عَابِرَ
يخمدُ في عهر تغنجها البركان).
امرأة الرماد
فلمَ تواصل بطل هذه القصائد – إن كان الشاعر أو من تأثر بتجربته هذه – مع هذي العجوز بما فيها حباً؟ ولمَ بادلها كل هذا العشق الذي تحول إلى ما هو أشد من الكره..ألم تكن له عينان تريان ما فيها من كهولة لا تستطيع المساحيق الحديثة أن تخفيها؟ أم كانت تحلم ـ هذه الذات ـ أن لديها القدرة على أن تبعث فيها الروح من جديد وتعيدها فتاةً إلى ربيعها مرة أخرى؟هل كانت تحلم (ببعثها من ميتتها وتبرعم في شيخوخة ظلمتها الألوان)؟
لمَ (مدت يدها لنبض حياة يطفأ في جنبيها)؟
الصورة الكاملة لهذه العجوز يرسمها الشاعر في قصيدته (امرأة الرماد) إذ يصفها فيها بأنها (امرأة من رماد احترقت أيامها على أيدي الذين لهوا بها فوق الأَسِرّة والوساد. وأن حدائقها قد نبشت وأنّت ممن تتالوا فوق نرجسها وتركوها شبحاً (بقايا ناهدين وحفرة).
هكذا تنكشف الصورة وتبدو واضحة المعالم أمام العاشق المخدوع وهكذا يعي جيداً:
(لن يمنح الحب الكثير لمن هوت
لا ترتجي شيئاً من الحب المدنس في الظلام
سوى السِفاد!)
هل كانت هذه المحبوبة السابقة ترتدي قناعاً مزيفاً لا يظهر حقيقتها؟ وهل كانت تتزيّا بأزياء أخرى تجعلها تبدو فاتنةً مما جعل البطل العاشق يهوي إلى بئرها من دون أية مقاومة؟
ألهذا الحد كان هذا العاشق ساذجاً لينخدع بسهولة؟
(تلك قطيفتك المخملية
مرمرك النور
وجهك في سمته المستكين…
وأغفو على بسمة الجسد المستريح
تصيرين وردة حلمٍ وحلما
ويأخذني النوم
ألقاكِ بين ممالكه جنة
يأخذ الحلم قلبي
فألقاك في الحلمِ فاتنةً في الينابيع تغتسلين)
لكن ماذا يحدث بعد أن تفيق الذات من حلمها / وهمها هذا؟
(وأصحو!
ولا ألتقيك جواري…
لا ألتقي غير عاري..
وأنت.. كما أنت.. أفعى بثديين)
تأثير مغناطيسي
وهكذا نرى تأثير وقع الصدمة على الشاعر.. إنها صدمة غير عادية، لهذا يتجلى أثرها في استخدامه لمفردات وتراكيب هي أقرب للسُّباب منها لتصوير حالة نفسية شعورية انتابت الذات الشاعرة على خلفية هذه التجربة.
(كانت وعاءً للرزايا
كانت مشاعاً في أيادي العابرين
ولم تكن سوى دميةٍ بين الدمى
ومطيةٍ ضمن المطايا).
هل كانت الذات في كامل قواها الشعورية والحسية حين دقت باب هذه اللعوب؟هل كانت تعاني من تخدير ما؟ أم هي وقعت تحت تأثير مغناطيسي منعها من رؤية هذه المرأة على طبيعتها؟
(أنثى تكسر عريها فوق المرايا
أخذت يداي إلى الجحيم
كذئبةٍ جوعى).
لكن ترى.. ما هو حصاد هذه التجربة غير المتكافئة بين شاب عاشق وعجوز خادعة لم تترك أحداً إلا وداس تضاريسها ولهى بها؟
(هذا حصادي المر ما بذرت يدي
عصفاً جنيت بغيِّها الساري
هذي نهايات الحياة تجللت
خزياً بها..
وهشيم أعذارِ!)
ثم يكتشف الشاعر أشياءً أخرى في أنثاه العجوز اللعوب فيحذر نفسه منها:
(امضِ عنها
لا يغرك وردها المسموم
مخملها المدنس بالخطايا)
لكن هل استجابت الذات لهذا النداء بعد أن عرفت أنها نيران الجحيم التي سعت إليها لكي تصطلي بها؟
ربما لو كانت الإجابة بنعم لما وصل الحال بها إلى هذه الدرجة من الانهزام والإقرار بالوقوع فريسة لأنثى لعوب.وبعد أن يخرج الشاعر من سراديب الوهم يتمنى لو أنه كان تراباً قبل أن يلقاها..أن يكون أي شيء غير ذاك المتعس المُلقى هواناً واكتئاباً.
وحدها نحو الزوال
أخيراً يُدرِك هذا العاشق الذي ضُحك عليه وخُدِع كثيراً أنه لا بد من صحوة ليصحح بها مساره ويخرج نفسه من هذا الفخ الذي إن استمر بين فكيه فسيؤدي به إلى الموت:
(فامضي عن القلب الذي
مذ نلته لم يُعتقِ
ذي صحوتي من وحل عهرك
عن إسار محارقي)
ثم تدرك الذات العاشقة أن الحياة لن تتوقف بسبب تجربة حب هزمت في الصميم.. فالكون مازال موجوداً ومازال ثمة أنقياء صادقون.
(دعها تسير إلى الفجور وبالدراهم تُستَمَال
حاشاك أن تبقى نهايتك الخطيئة والضلال
هذا طريقك سر به حتى تحلق لانعتاقك
وحدك الباقي على درب النجوم
ووحدها نحو الزوال)
حقاً يبقى الشاعر على درب النجوم وكذلك يبقى من خلدهم بقصائده.. فكيف تزول من استطاعت أن توقع بشاعر في شباكها وفي حبال غيها..فكتب عنها ديواناً يخلدها إلى الأبد؟.. لكنه خلدها مع زوجة موليير الخائنة..خلدها مع سالومي العاهرة التي قتلت يوحنا المعمدان.
وهكذا جعلنا حمزة قناوي بشاعريته وبتمكنه من تطويع أدواته الشعرية ومهارته في تركيب صورة شعرية مختلفة نعيش معه هذه الحالة وكأننا نشاهد تفاصيلها على شاشةٍ أمامنا..راسماً صورة شعرية رائقة لحالة شعورية تلبَّستْه حيناً من الدهر.
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو