الوكيل - الأديب السوداني الطيب صالح (1929- 2009) ولد بقرية الدبة بشمال السودان ولهذا المكان رمز ودلالة على قصص الطيب صالح التي نقل منها ارث المنطقة في روايات عالمية ترجمت لعدة لغات واطلعت الشعوب على حركة التفاعل في تلك القرية.
لان صالح كاتب شامل مكنته ثقافته العميقة والمتنوعة واطلاعه الواسع ومعرفته باللغتين العربية والإنجليزية وقراءته في علوم اللغة والفقه والفلسفة وعلم النفس والسياسة وعلم الأجناس والأدب والشعر والمسرح والإعلام مكنته ان يروي ويحكي ويخبر ويوصف ويحلل ويقارن وينقد ويترجم باسلوب سهل عذب ينفذ إلى الوجدان ويقنع الفكر ..
هل أتخذ الطيب صالح السرد الغربي مثالا يحتذى أم أخذ من الأدب العربي الحديث تلك الرؤية الواقعية التي شخص عوالمها وهموم أهلها المشبعة بتراث المنطقة؟ مع ملاحظة أن الفترة التي بدأ فيها الكتابة كانت نضرة على المستوى العربي حيث ظهر أدباء مجيدون في شرق وغرب العالم العربي، وهي الفترة الخصبة (أواخر الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي) التي تدفق فيها الإنتاج الروائي على مطابع بيروت والقاهرة واسهم في تطور الحياة الثقافية على المستوى الإقليمي بالتزامن مع بدايات ظهور الترجمة من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية، مما أغنى الساحة بالنتاج الفكري المتطور واشبع غريزة الشغف بالكتاب الذي لازم تلك الفترة.
لا شك ان منتج الكاتب ثمرة لنبوغه الفكري الفردي ومصدر ابداعه الخلق والمبادرة بتجربة ثرة ممزوجة بالفطرة التي جرته الى موئله الأول في ريف وحضر شمال السودان بكل فطريته وإمتلائه بصنوف الحكي، ولا شك ان النقد والتلقي الأدبي والفني وقف حائرا أمام نصوص المبدعين مرتبكا في التدفق والتلقي لأنها قلبت موازين وبرامج القراءة وبالتالي النظام النقدي كما يقول بذلك كبار النقاد الحداثيين .. لقد كتب الطيب صالح نصوصا مميزة وبلا نظير في أسلوب السرد من نوعية السهل الممتنع، دون السعي إلى المجد الأدبي وهو يستحقه عن جدارة، ولكنه ترك فرصة ثرة للتحليل والإستنباط والبناء على الاسلوب أو ما يمكن أن نطلق عليه القدوة عندما نبحث عن إبداع مائز من خلال تعميق الفهم وتنشيط ملكة الإدراك ..
في رواية منسي إنسان نادر على طريقته في حكايات تمتد إلى 198 صفحة نشرت ضمن سلسلة مختارات يقدم الراوي نفسه كسارد للرواية كما في الثقافة العربية الكلاسيكية المتصلة بالإخبار والحديث والحكاية .. ويبدأ السارد بتقديم شخصية المروى عنه بطريقة الغرابة واستهل حديثه بـ (لم يكن مهما بموازين الدنيا ولكنه كان مهما في عرف ناس قليلين مثلي قبلوه على عواهنه وأحبوه على علاته، رجل قطع رحلة الحياة القصيرة وثباً وشغل ساحة أكبر مما كان متاحاً له، وأحدث في حدود العالم الذي تحرك فيه ضوضاء عظيمة).
مهد السارد بهذه المقدمة لأحداث وتحركات بطل الرواية فيما يشبه السيرة الذاتية ولكن ليس عن نفسه فهو لم يكتب على حد علمي عن نفسه شيئا، مهد للحديث عن منسي وأسدل عليه الكثير من الألقاب ليغطي مسيرة تلك الحياة القصيرة المليئة بالمواقف في رواية أمتدت لـ 34 مشهداً مختلفاً، كان السارد وهو الراوي نفسه يوردها على نسق الإخبار أو القصة والحكاية بأسلوب تفرد بالسهولة واليسر والتدفق المعلوماتي كما في رواياته الأخرى، موسم الهجرة الى الشمال وعرس الزين وبندر شاه وغيرها ..
لإغناء الرواية وإحداث الجاذبية المطلوبة وشد القارئ الى الغرابة التي تميز السرد أربك القارئ عندما ذكر الراوي أسماء متعددة لنفس الشخص، احمد منسي يوسف، ومنسي يوسف بشطاوروس، ومايكل جوزيف .. كل هذه الأسماء مثلت دورا على مسرح الحياة الممتد في الجغرافيا من الولايات المتحدة واوربا وافريقيا وآسيا واستراليا أي في جميع قارات الأرض .. إنها عالمية الطيب صالح وفكره العميق المرتكز على معارفه وثقافته العالمية الموسوعية حيث ينقل بسلاسة ثقافات تلك الشعوب والأمم بمعرفة وكأنه جزء منهم يعرف تقاليدهم وارثهم في معرفة شاملة غذتها الخبرة والرؤية الصائبة.
وفي مجال المهن ذكر ان منسي عمل حمالا وممرضا ومدرسا وممثلا ومترجما وكاتبا واستاذا جامعيا ورجل اعمال ومهرجا .. اما في مجال الديانة أوضح أنه ولد على ملة وترك ابناء مسيحيين وارملة وابناء مسلمين .. أغنت هذه الثقافة القارئ بمعارف جديدة عن وظائف الحياة كما مدته برؤية إمكانية التعايش بين الأديان في سلاسة بعيدا عن عقد التطرف الذي يقف حائلا دون تقارب بين الأديان السماوية التي تشترك في عامل التوحيد وتختلف في جزئيات أخرى استطاع الراوي إخفاءها وإظهار المقاربة التي نجح منسي في إيجادها دون عقد.
يقف القارئ لهذه الرواية مرتبكا وشاكا بين الحقيقة والخيال وهل تم التوفيق بينهما ام ان السرد حقيقة واقعة بمسميات ومواقع واحداث لها شهود احيانا .. وبالرجوع الى روايات الطيب صالح الأخرى مثل موسم الهجرة الى الشمال او عرس الزين وغيرها يجد هذا التطابق بين الواقع والخيال وكأن القارئ يهيم في وديان وسهول ومدن وغرف حقيقية .. مما يثير الشك في ان منسي على شاكلة العجائبية لراو متمكن من مهنته سبر غور النفس البشرية وجعلها مطية لقلمه الذي لا يرحم ولا يعطي فرصة .. هل هو نفس الأسلوب الذي يجعل الخيال قريبا من الواقع بل مندمجا معه دون احداث ربكة للقارىء أو تنافر في الحكي أم واقع أخلص الراوي الطيب صالح في عكسه بخبرته الصحفية وفاء لعلاقته الممتدة مع المروى عنه؟ ..
مجال آخر تفرد بتميز نظرا لمقدرات السارد في الوصف حين تناول الوضع الاقتصادي لمنسي صديقه الذي لم يبخل عليه بلقب مستغلا تفاعله وحركيته الشديدة في شتى المجالات ليسهل السرد ويتشعب في دائرة مفتوحة على كل الاحتمالات بالنسبة للمتلقي (حين عرفته أول مرة كان فقيرا معدما ولما مات ترك مزرعة من مائتي فدان من اجود الاراضي في جنوب انجلترا، وقصرا ذا أجنحة، وحمام سباحة واسطبلات خيل وسيارات، وخلف ايضا مزرعة من مائة فدان في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة ومطعما وشركة سياحة) .. ليوحي السارد بذلك مدى الحركة والحياة الغنية التي مازت حياة منسي في مسيرة الحياة وتجواله ومهنته ودينه وتأثير كل ذلك في حيواته المختلفة التي أغنته في نهاية المطاف وقفز الراوي عن الكيفية التي تحقق بها ذلك الثراء الواضح إلى النتيجة الماثلة في شكل وجودي ملموس رغم قصر فترة الحياة التي عاشها ..
وتبلغ الرواية ذروة الواقعية عند حكي قصة موت منسي أو أشار إلى موقفه كراو (لما بلغني نبأ وفاته اتصلت بداره في تاتشيري في ضواحي ساوثهامتون بانجلترا، اجابني صوت امريكي لشاب هو ابنه الأكبر سايمون، علمت منه ان الموت أخذ أباه على حين غرة وهو في اوج الصحة والعافية فأصيب بسرطان الكبد الذي قضي عليه خلال اسابيع، وكنت وقتها في السودان .. وخطر لي ان أسأل كيف دفن أبوه فاخبرني أنهم لم يدفنوه بعد وكان قد مضى على موته نحو عشرة أيام وأنهم ينتظرون ان تتم الإجراءات لحرق جثمانه .. قلت له ان أباك رجل مسلم وحرق الجثمان محرم عند المسلمين .. ولم يكن ابنه يعرف بإسلامه) وكعادته التي توجز الأحداث والصفات في المقدمة اخبر الراوي قراءه تعدد ديانة صديقه الذي نجح في إخفاء ديانته الحقيقية ومعتقده الأصلي حتى عن أقرب الناس إليه.
مهارات الوصف متوفرة لدى الطيب صالح بغزارة ولا شك انه يمتلك مقدرة تصوير فوتوغرافية فقد وصف منسي بصورة خلابة عندما قال (لو أن قامة منسي أقصر ببوصة واحدة أو بوصتين لأصبح قزما).. ولم يقل انه مائل للقصر في الطول بل استعار التشبيه بالأقزام .. ويمضي في وصفه انه (مع تقدم السن ترهل جسمه وصار له كرش كبير ومؤخرة بارزة، فكأنك تنظر الى كرة شقت الى نصفين، نصف أعلى ونصف أسفل . . وكان شديد العناية بمظهره يلبس قمصان الحرير والبدل الفاخرة) .. وفي طرافة قال انه (كان يشتري البدل بالعشرات ولا بد أنه ترك كميات كبيرة منها بعد موته لن يستفيد منها احد لسوء الحظ، لأنني اشك ان يكون في كل هذا العالم الطويل العريض شخص واحد مثل منسي) ..’
ظل الراوي يوحي بتفرد صاحبه في كل شيء في حركته وعمله وشكله ومضمونه .. إنه صاحب متميز أحبه الراوي فاسبغ عليه من الصفات ما رأى أنه جدير بها ..
تحتاج الرواية الى قراءات مكثفة لإخراج الدلالات المخبوءة وسبر غور الحكي الشيق الذي طفنا فيه بقارات الأرض، لنعيش في القراءة مع روعة الشك بين الواقع والخيال والسيرة …
*كاتب من السودان
-
أخبار متعلقة
-
أفضل سيارات مازدا في استهلاك البنزين لعام 2018
-
الفاخوري يعلن تبرع بنك الأردن بمليون دينار أردني لصندوق "همة وطن"
-
توفيق فاخوري يدعم صندوق "همة وطن" بمبلغ نصف مليون دينار أردني
-
شاهد لحظة سقوط الطائرة الأوكرانية بعد اشتعالها في الهواء
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر – فيديو وصور
-
مدرسة الموقر ترسم أجمل منظر
-
بـرنامـج الـوكـيـل فـي إجـازة سـنـوية
-
حفرة امتصاصية في جرش .. خطرٌ يُهدد المواطنين و يُضر السياحة | فيديو